fbpx

مقتل قمّص وتضييقٌ في رمضان… مصر وليل المسيحيين الطويل 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مسلسل الإساءة للمسيحيين في مصر مستمر منذ سنوات، كانت المرات السابقة لا تتجاوز التحرش بفتاة مسيحية في الشارع، أو التعليق على ملابسها في نهار رمضاني، ومطاردة المفطرين في الشوارع. هذا العام، تطوّر الأمر إلى قتل كاهن يتجوَّل في الشارع وقت الإفطار!

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

شهد النصف الأول من شهر رمضان الجاري في مصر حوادث طائفية عدة ضد المسيحيين. في ثالث أيام الشهر، قُتل قمص شهير في مدينة الإسكندرية، ، ثم منعت أسرة مسيحية من تناول وجبة في أحد مطاعم الكشري الشهيرة، فضلاً عن مناشدات بالقبض على مجموعة شباب قبطية تدعى “مارجرجس” تحضر وجبات الإفطار لتوزيعها على الصائمين بتهمة “التبشير والتنصير”.

مسلسل الإساءة للمسيحيين في مصر مستمر منذ سنوات، كانت المرات السابقة لا تتجاوز التحرش بفتاة مسيحية في الشارع، أو التعليق على ملابسها في نهار رمضاني، ومطاردة المفطرين في الشوارع. هذا العام، تطوّر الأمر إلى قتل كاهن يتجوَّل في الشارع وقت الإفطار، والاشتباه في اختطاف زوجة وابنتها، وانتقل من التصرفات الفردية إلى التصرفات النابعة من جهات وكيانات كما جرى في واقعة “كشري التحرير” حيث مُنعت أسرة من تناول وجبة طعام في نهار رمضان.

من اغتال القمص أرسانيوس وديد؟

كان مشهدًا مرعبًا، مقطع فيديو انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي للقمص المصري أرسانيوس وديد، كاهن كنيسة السيدة العذراء بالإسكندرية، ملقى على الأرض، وقاتله يحاول الهرب، ملتحيًا، يرتدي ثيابا متسخًة، ويبدو من هيأته أنه مشرَّد أو يحاول ادّعاء ذلك كي تتوه القضية وتقيَّد ضد “مختل عقليًا” كما تنتهي قضايا القتل التي تهزّ الرأي العام في مصر. 

امتلأت المجموعات والصفحات المسيحية بالتحذيرات من نسب جريمة القتل لـ”مختل عقليًا” ، بينما كان الكاهن في زيه الكهنوتي، العباءة والعمامة السوداوين والصليب الكبير الذي يزيَّن الصدر، أي أن القاتل كان يضمر شيئًا تجاهه، ليس بدافع شخصي، إنما بدافع قائم على الهُوية.

الخيط الأبرز في جريمة قتل القمص أرسانيوس وديد، هو تنفيذه في الإسكندرية، المدينة العامرة بالتواجد المسيحي الكبير، وكذلك الحشد السلفي المضاد، إذ كانت – ولا تزال – معقلًا للدعوة السلفية المتشدِّدة ومقر إقامة أشهر رجالها ياسر برهامي، وهو ما يزيد احتمالية العصبية الدينية التي قادت المتهم إلى اغتيال الكاهن، في صراع نفوذ داخل المدينة مسيحية الجذور، التي توصف دومًا بـ”قطعة أوروبية أضيفت إلى مصر”. 

المسيحيون يعيشون بها منذ 2000 عام رغم “الغزو السلفي”.. الإسكندرية لمن؟

لم تكن الإسكندرية قطعة أوروبية فقط من حيث المعمار، أو الجاليات الأجنبية التي عاشت فيها، بل بسبب تاريخها الكنسي الطويل، إذ تأسست كنيسة الإسكندرية عام 67 ميلادية، وصاغت كثيرًا من الفكر المسيحي، وتضمّ عددًا كبيرًا من المسيحيين. وفي المقابل، نشأت الدعوة السلفية في الإسكندرية عام 1972 على أيدي طلاب مسلمين متدينين، لتقود غزوًا وتمدُّدًا سلفيًا كبيرين، اتّجه بعض نجومه للانضمام إلى تنظيمات إرهابية دولية، بينما فضّل آخرون البقاء في الإسكندرية، ليحرسوا المدينة من “أصولِها المسيحية”. 

مِرارًا، تتكرّر حوادث عنف ضد مسيحيين، تبدو عليها بصمات مشايخ السلفية، وإن كانوا غير محرّضين مباشرين عليها. تجلَّى ذلك في حادث قتل بائع خمور بالإسكندرية على يدِ مسلم متشدِّد مطلع عام 2017، وفي اعترافاته، قال إنه لا ينتمي إلى جماعات إسلامية، ومن بين ما قاله جمل تتردَّد دومًا في الفقه السلفي كقوله: “أقمت عليه الحد“، و”لو أتيحت لي الفرصة لقتلت كل بائعي الخمور”، ثم أكّد جميع الاتهامات الموجَّهة إليه بحماس، وكأنه وُعد بالجنة إذا فعل ذلك.

لم تتشابه أقوال قاتل “بائع الخمور”، وقاتل القمص أرسانيوس، وهو ما يقلق المسيحيين حيال نتيجة التحقيقات والحُكم المنتظر، فالثاني لجأ إلى الطريق السهل، وهو التشكيك في قواه العقلية، ورغم أنه بدا طبيعيًا، خلال التحقيقات، ادّعى قاتل القمص أنه كان مصابًا باضطرابات نفسية منذ نحو 10 سنوات، دخل على إثرها إلى مستشفيات نفسية لتلقي العلاج، وأنه يفقد السيطرة على أفعاله أحيانًا.

بهذه الجملة العابرة، تضاعفت مخاوف المسيحيين من حكمٍ مخفَّف لا يرفق فقط بالقاتل، بل يزيد أوجاعهم والدماء التي تسيل منهم. 

ويرى المفكر القبطي كمال زاخر، في تصريحات لـ”درج”، أن جميع الأحداث الأخيرة، التي بدأت بمقتل القمص أرسانيوس وديد “مدبّرة ومخطّطة بشكل مقلق. الجماعات المتشدّدة تهدد وتستهدف المسيحيين والدولة”. 

وأوضح أن الأقباط يملكون تصورًا عن الاعتداءات عليهم، “في وقت من الأوقات في عهد الرئيس أنور السادات، أطلقت الدولة يد الجماعات الإسلامية في اتفاق ضمني ليضمن بقاءه على الكرسي، وظلّت الجماعات الإسلامية على ذلك الاعتقاد حتى الآن، فهي تعتبر نفسها في أمان، طالما أن المضايقات والحوادث لا تصل إلى الفتنة الطائفية”. 

بالنسبة إلى المسيحيين، يتجاوز الأمر قتل القسيس، بحسب زاخر، الذي يعتبر مقتله جزءاً من الأزمة لأنه “جاء في توقيت مباغت لا أحد يتوقعه، خاصة أن الدولة قضت على الإخوان والحوادث الإرهابية”.

قال الكاتب الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل، في حوار سابق، إنه لا يجب على أي رئيس مصري أن يبرح ملفين من مكتبه، هما الأقباط والنيل. يستعين زاخر بتلك المقولة، وفي رأيه أن “العصب المسيحي هو الأكثر التهابًا في الجسد المصري، لأن السلطة فشلت في دمجهم كجزء من النسيج المصري، وفرض ذلك على جميع المواطنين، فالكثير من المسلمين يتعاملون معهم باعتبارهم أهل ذمة، وهو ما ينتج عنه كثير من التسلط والعنف”. 

الوقائع الأخرى في مسلسل التمييز ضد المسيحيين في مصر، تزامنًا مع مطلع شهر رمضان، تكشف عن تلك الفكرة تحديدًا، وهي التعامل مع المسيحيين باعتبارهم أهل ذمة، وليسوا مواطنين متساوين وشركاء في الوطن، فلا يجب أن يتمتّعوا بالقدر ذاته من الحقوق أو الحريات، وكذلك يجب أن يخضعوا لطقوس المجتمع المسلم وحدوده، مع مراعاة عدم المساس بها. أما الطقوس المسيحية أو الحياة العادية، فترى فئات من المسلمين – في قرارة نفوسهم – أنهم يمكن أن يمارسوها سرًا، وفي كنائسهم ومنازلهم، لذلك كثيرًا ما يتردَّد لوم المسيحيات واتهامهنّ بتعمّد إفطار المسلمين الذكور في رمضان، وذلك لعدم ارتداء حجاب، أو ممارسة حياتهنّ في الشارع بشكل طبيعي، دون التفكير في أن “غضّ البصر” هو الفريضة التي يجب على الرجال المسلمين الالتزام بها، بحسب ما تنصّ الشريعة الإسلامية.

تقول مريم ميخائل لـ”درج”، إنها تختار طرقًا خالية من المساجد، مهما كانت بعيدة، وتفضّل الساحات الخالية والطرق العمومية والمساحات الواسعة، بدلًا من الحارات والشوارع الضيقة، كيَ تبتعدَ عن المضايقات. 

وتقول: “عشت طوال حياتي أخاف من الاشتباك مع شخص آخر مهما تحرّش بي، قلقة من أن يكونَ مسلمًا فينقلب الأمر إلى شيء أكبر من دفاعي عن نفسي ومساحتي الشخصية وأندم فيما بعد، وكنت ألتزم بعدم مضايقة أحد قلقًا من الأمر نفسه، فلا أتناول الطعام في رمضان أمام أحد حفاظًا على مشاعر المسلمين، وغالبًا ما تكون المطاعم مغلقة طوال الشهر، فحتى إذا حاولت، في الغالب لن أجد مطعمًا”.

اعتادت المطاعم أن تغلق أبوابها في رمضان بحجة التجديدات والإصلاحات، وكان ذلك لافتًا للمجتمع المسيحي في مصر، إلا أنه كان يخضع له في صمت ويتقبّله، ويفسر زاخر ذلك بأن “المسيحيين كانوا حريصين على عدم إظهار الطعام أو تناوله خلال الشهر، وكان ذلك بالنسبة لهم نوعًا من التكافل المصري، ولم يفكروا فيه، أو يتحدّثوا عنه لطبيعة المجتمع، ولا أذكر أننا كنا نفكر فيه قديمًا، وفي المقابل كان المسلمون يقولون للمسيحيين: كلوا واشربوا ولا تهتموا بنا.. كانت حالة الود سائدة”. 

كشري بنكهة إسلامية.. الطعام ممنوع “قبل الإفطار”

في الأسبوع الأول من رمضان الجاري، كان ما جرى مختلفًا. طلبت أسرة مسيحية وجبة من أحد مطاعم الكشري الشهيرة في مصر، وطلبت تناولها داخل المطعم قبل موعد الإفطار، لتفاجأ برفض المطعم. انقلبت مواقع التواصل الاجتماعي غضبًا من المطعم، وتصدّر وسم #مقاطع_كشري_التحرير تويتر لأيام، وردّ المطعم في بيان يوضح أن تناول الطعام “التيكاواي” ممنوع بداخله في شهر رمضان.

تمنع أغلب المطاعم تناول الطعام بداخلها قبل موعد الإفطار في نهار رمضان، طبقًا للقواعد التي يقرّها كل مطعم منفردًا، وتشتمل تلك القواعد على تمييز ضد المسيحيين، الذين لا يجب أن يلتزموا بالصيام، ومقاطعة الطعام طوال اليوم، وهو ما لا يحدث مثيلٌ له في أشهر صيام المسيحيين، إذ لا تتوقف المطاعم عن تقديم اللحوم والألبان، وهو ما يوحي بـ”عدم المساواة”.

يفرض المسلمون – بشكل جمعي ودون قانون – شريعتهم على المسيحيين في أغلب التفاصيل الحياتية الظاهرة، وبدا ذلك في رمضان الجاري، ليس فقط في واقعة “الكشري”، إنما في واقعة أخرى حدثت بالتزامن معها. 

اعتادت مجموعة شباب مسيحيين، يتبعون كنيسة مار جرجس بنجع حمادي في مدينة قنا، ويحملون اسم “كشافة مار جرجس” توزيع العصائر والحلوى وبعض وجبات الإفطار على الصائمين في الشارع لتعزيز الوحدة الوطنية وبعض قيم التسامح الكنسية. يفعلُ المسلمون ذلك طوال الوقت عبر موائد الرحمن وأنشطة فردية أخرى، لكن حين فعلته مجموعة مسيحية – اعتادت ذلك منذ سنوات – وجدت من يطالب بالقبض عليها بتهمة التبشير ومحاولة تنصير المسلمين باستخدام “وجبات الإفطار”. انتهى الأمر بتوقف النشاط، خوفًا من تحوله إلى فتنة طائفية.

تبرز تلك الواقعة، كيف يرى المسلمون في مصر المسيحيين، تتجلّى في ذلك فكرة “أهل الذمة”، فمن حق المسلم أن يدعو المسيحي للإسلام، أما إذا حدث العكس فيتحوّل الأمر إلى جريمة، لأنها تعتبر – بالنسبة إلى المتزمتين – دعوة إلى “الكُفر”.

“المصري اليوم” تسقط في فخ “أبناء الصحوة الإسلامية”

تسرَّبت تلك الأفكار إلى العاملين في الصحافة المصرية أيضًا، ففي الأسبوع ذاته، نشرت صحيفة “المصري اليوم” الليبرالية ذائعة الصيت، سؤالًا فقهيًا بمناسبة شهر رمضان في صدر طبعتها الورقية، وهو: “ما حكم بيع الطعام في نهار رمضان للكافر؟”.

استخدمت الصحيفة لفظ “الكافر” في إشارة إلى المسيحيين، ولا يعبّر ذلك عن توجّه عام، بل يعبر عن إيمان جمعي في قلوب كثير من المسلمين المصريين بأن المسيحيين “كفرة”، و”أهل ذمة”، لا يجب أن يُعاملوا كالمسلمين، بل يجب أن يكون لهم معاملة خاصة أقل شأنًا. مرَّ الخبر على فريق الصحيفة بالكامل حتى نُشر بالطبعة الورقية، وأعيد نشره بمنصات التواصل الاجتماعي، دون أن يلحظ أحدهم شيئًا خاطئًا أو غريبًا.

يتعرّض المصريون منذ السبعينيات لموجات “الصحوة”، حين سمح الرئيس المصري الراحل أنور السادات للجماعات الإسلامية بالعمل، ثم مرورًا بفترة “الصحوة” الإسلامية التي تأثّر بها ملايين المصريين، الذين عملوا وتربوا في دول الخليج، لرسائل ترسّخت بداخلهم، تفيد بأن “المسيحيين هم القوم الكافرين”. وفي المدارس، كان يتمّ شرح سورة الفاتحة بأن “غير المغضوب عليهم ولا الضالين” مقصود بها “اليهود والمسيحيون”. كبر هؤلاء الأطفال، الذين تناولوا الأفكار “الصحراوية”، وأصبحوا مسؤولين عن صحف ومجلات ووسائل إعلام، ورغم عدم انتمائهم لأفكار “الصحوة” أو جماعاتها، ومهاجمتها أحيانًا، ظلت أفكارُها ومصطلحاتها وسلوكياتهم راسخة بداخلهم، فقد أسهمت في تزييف وعيهم حتى الآن. 

استعانت “المصري اليوم” بفتوى السوري محمد صالح المنجد، المعروف بآرائه المتشدّدة: “لا يجوز بيع الطعام في نهار رمضان لمن علم أو غلب على الظن أنه يأكله نهارًا، إلا لمريض أو مسافر، ولا فرق في ذلك بين مسلم وكافر، لأن الكافرين مخاطبون بفروع الشريعة فلا يجوز لهم الأكل في نهار رمضان”.

تفسّر تلك الفتوى إغلاق المطاعم في مصر أبوابها في رمضان أمام غير الصائمين، إذ أنها تعتبرهم كفارًا لا يجوز بيع الطعام لهم، ويفسّر ذلك شيئًا آخر، وهو تضامن الشيخ الأزهري “المثير للجدل” عبد الله رشدي مع مطعم الكشري الذي رفض السماح لأسرة مسيحية بتناول الطعام بداخله قبل موعد الإفطار.

يُمسك المفكر كمال زاخر بتلك النقطة، ويحيل تجرّؤ بعض المسلمين على المسيحيين واعتبارهم كفارًا وأهل ذمة إلى الدستور المصري، يقول: “مصر دولة مدنية، لكن الدستور لا يعترف بذلك، فالدستور المصري به تناقضات، لأن توقيت صدوره كان مليئًا بالارتباك السياسي، لكن الآن مصر تعيش حالة استقرار، فيجب تعديله ليلائم الدولة المدنية الحقيقية وإلغاء المادة الثانية(الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع) والثالثة(المتعلقة بالأحوال الشخصية للمسيحيين واليهود في مصر) من الدستور وكذلك المادة الخاصة بالأزهر الشريف وتعتبره هيئة مستقلة، ويجب أن تكون مصر في الدستور دولة مدنية فقط.. لا شيء آخر بعد ذلك”. 

لا يعاني المجتمع المصري توترًا دينيًا يرجع إلى وجود السلفيين والجماعات الدينية التي تنشر به التعصّب فحسب، بل إن غياب وجود آلية للعقوبات وتنظيم الحالة الدينية المصرية بشكل يساوي بين جميع الأديان يمنحُ المسلمين أفضلية على المسيحيين، الذين لا يملكون سوى الإنزعاج، أمّا بعض المسلمين فيستخدمون تلك الأفضلية في فرض شريعتهم في الأرض التي يعتبرونها “دولتهم” وحدهم. 

إقرأوا أيضاً: