fbpx

النقل العام في لبنان اليوم :
قتل بطيئ بالخوف من التحرش أو…الوحدة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم يعد يخيفني التحرش أو السرقة، فالحافلة فارغة تقريباً، مركبة تسير على 8 عجلات لتقل راكبين وسائق يقطع مسافات ليعجز عن تغطية كلفة المازوت الذي يرتفع كل يوم.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

استقللته في المرة الأولى عام 2017. لم أفهم قبلها خوف أمي من “الباص” العمومي، هي التي أمضت تسع سنوات من حياتها تستقله يومياً إلى العاصمة من بضع نقاط استراتيجية يزدحم فيها أهل المنطقة الجبلية النائية، متجهين إلى بيروت من أجل العمل أو التعلّم أو غير ذلك… يومذاك بدأت أفهم عناء الحافلة لكنني اخترت أن أتجاهله، أو على الأقل أجبرت على تجاهله من أجل كلفته المنخفضة حينها، 1500 ليرة لبنانية أي دولار واحد. تعج الحافلة بالركاب لكنها دوماً تفاجئني بإمكانها استقبال راكب إضافي، تحشره في بضع سنتيمترات، بما يشبه المعجزة.

يزداد عدد الركاب بينما أحسب الحافلة مقهى شعبياً تشبه تلك التي نراها في المسلسلات القديمة حيث يجتمع الناس من كل حدب وصوب للتخطيط لعملية فدائية أو ثورة. العناصر كلها موجودة هنا: عاملون من مختلف الجنسيات وشباب يرتادون الجامعة وبؤس ينجلي على وجوههم جميعاً. يجمعهم الروتين اليومي على الطرق ذاتها التي تتسع للمركبات كلها إلا لرصيف صغير وتمتد حاملة أسماء رؤساء وتنسى أسماء المثقفين. تنجح في الوصول إلى أكبر التجمعات بينما يتعذر عليها أن تمرر الحافلة بالحواري الضيقة وبين بنايات شوارع الضواحي. 

الحافلة التي أمقتها لتأخرها علي دوماً واضطراري إلى انتظارها على طرق غير آمنة أحياناً، تبدو صورة صادقة وجلية عن المجتمع اللبناني. صورة لا نراها في المسلسلات والأفلام لافتقادها للجمالية و”الإستيتيك”. الحافلة التي أمقتها علمتني دروساً بالدفاع عن النفس والتصدي للتحرش وحماية ممتلكاتي. كرهت المسافة والاكتظاظ والوقوف طوال الطريق إذا لم يبق مقعد فارغ. كرهت المدخنين الذين لا يحترمون الآخرين في الحافلة. لكنني نسيت أنه المشروع الوحيد الذي حاولت عبره الدولة الحد من التفاوت المناطقي: عبر تقريب المسافة بين المناطق المهمشة والعاصمة بكلفة رمزية. 

اليوم، هذه الكلفة لم تعد رمزية لأولئك الذين يركبون الحافلة كل يوم بعدما ارتفعت التعرفة الى 25000 ليرة. لم أعد أستقل الحافلة، ككثيرين غيري، إلا في أوقات الضرورة. أجمع كل الواجبات التي يجب أن أقوم بها في العاصمة ليوم أو يومين لأتفادى كلفة النقل المرتفعة والانتظار الطويل في نقاط التجمع. لم أعد أرى البؤس المتفاقم على وجوه الركاب. بالكاد أراهم. فالعاملون الأجانب رحلوا بعد شح العملة الصعبة والمقيمون في لبنان خسروا عملهم أو يعملون من بعد، إذ تفوق تكلفة المواصلات الراتب وربما يكونون الوحيدين الذين يتمنون تمدد الفايروس التاجي ليتفادوا كلفة النقل المرتفعة.

لم يعد يخيفني التحرش أو السرقة، فالحافلة فارغة تقريباً، مركبة تسير على 8 عجلات لتقل راكبين وسائق يقطع مسافات ليعجز عن تغطية كلفة المازوت الذي يرتفع كل يوم. لذلك، اضطر السائقون إلى زيادة خدمة جديدة للحافلة: سرفيس بعشرة آلاف! لمن لا يعرف، السرفيس هو تاكسي ينقل أكثر من ركاب في الوقت ذاته بتعرفة أقل من تعرفة التاكسي. إثر الانهيار، الحافلة أصبحت بمثابة سرفيس جديد، ينقل الركاب لمسافات صغيرة في المنطقة الواحدة بتكلفة أقل من تكلفة السرفيس. أما السرفيس ففقد ركابه تدريجياً، وتحول الى تاكسي ينقل كل راكب على حدة، بعدما خسر تجمهر الركاب حوله وحصر حركة التنقل بالقدرة الشرائية المتدنية.

أكتب هذه الكلمات مستغربة ما آلت إليه الأوضاع في مدة زمنية قصيرة، وسط استمرار الفشل والبؤس إلى ما لا نهاية.

محزن تخييرنا بين التحرش والوحدة. محبط جداً أن نرى نحن النساء الأماكن المكتظة تهديداً لاستقلالية أجسامنا وتحكمنا بها، بينما نضطر لتجنب المساحات التي تعج بأناس مثلنا قد لا يكونون تهديداً حقيقياً، لكننا مجبرات على رؤيتهم كذلك، لحماية أنفسنا. بيد أنني أشعر بسلام نسبي وتحكم شبه تام بجسدي وأشيائي التي لا خوف عليها من أن تسرق لقلة الركاب، إلا أن الحافلة فقدت الكثير من عناصرها حتى أكاد أقول إن الوحدة تخنقني، كما تخنقني الصورة الجديدة للمجتمع اللبناني الذي لم يعد موجوداً ههنا. 

يعبق المكان بحزن عميق. زاد البؤس لكن لا أوجه تحمله. بات الآن يتوزع على أوجه أقل تتثاقل به. ترنو الى وجوه أخرى بسيارات اخرى على الاوتوستراد فتجدها تتثاقل ببؤس مماثل. أعبر المسافة الطويلة محاولة استرجاع السنوات الماضية من فترة “النعيم اللبناني” حتى الجحيم الذي نعيشه اليوم وأسأل نفسي: هل حملت أمي البؤس ذاته خلال سنوات تنقلها التسع في فترة “ازدهار لبنان” عندما دفعت 250 ليرة أجرة الباص و2000 ليرة للسرفيس؟ 

إقرأوا أيضاً: