fbpx

هل أصبح جان-لوك ميلانشون زعيم اليسار في فرنسا ؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يختصر جان-لوك ميلانشون سيرة رجل صنع جزء من حكاية اليسار الفرنسي في العشرية الاخيرة. هنا قراءة في مسيرة هذا الرجل الذي تكرّس زعيماً لليسار في مرحلة تعيش فيها فرنسا تشظّي عائلة اليسار التقليدية وصعودًا مهولًا لخطاب اليمين المتطرّف.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كلام كثير قد يُقال في سيرة ومسار وتجربة جان-لوك ميلانشون. قد لا يكفي هذا النصّ للحديث عن رجل صنع جزء من حكاية اليسار الفرنسي القديم-الجديد في العشرية الاخيرة، لكنّه سيحاول فهم الاسباب والتحوّلات الكبرى التي جعلت بالحدّ الادنى من السبعيني “العصيّ على الخضوع” زعيم اليسار في مرحلة تعيش فيها فرنسا تشظّي عائلة اليسار التقليدية وصعودًا مهولًا لخطاب اليمين المتطرّف.

نشأته وحياته المهنية

ولد جان-لوك ميلانشون في طنجة في المغرب في 19 آب/أغسطس 1951 لعائلة كاثوليكية تقليدية من “الاقدام السوداء”، ويطلق اسم”الأقدام السود” على المستوطنين الفرنسيين وغيرهم من الأوروبيين المولودين أو الذين عاشوا في الجزائر خلال فترة الاستعمار الفرنسي.

 كان والد ميلانشون يعمل في مركز الهاتف والبريد، أما والدته فكانت مدرّسة ومربّية في آن. بعد طلاق والديه، غادر الطفل ميلانشون المغرب مع والدته وسكنا في مدينة صغيرة في اقليم الجورا الفرنسي. بعد تحصيله شهادتي بكالوريوس في الفلسفة والادب المعاصر في كلية الآداب في جامعة بيزانسون، عمل كأستاذ في الفلسفة واللغة الفرنسية في الثانويات الرسمية في البورغوني. بعضٌ من تلك المسيرة المهنية والخبرة الطويلة في التعليم والتحرير في عالم الصحافة المحلّية والحزبية في وقت لاحق، يجعلنا نفهم جذر ألمعيّة هذا الرجل في الخطابة والكلام.

مسيرة سياسية حافلة

تشكّل وعي الشاب ميلانشون الفكري خلال أحداث مايو 68 التي شهدت حركة احتجاج في جميع انحاء فرنسا وكان حينها ميلانشون يبلغ من العمر 16 عامًا. في الليسيه، انضمّ إلى اتحاد طلبة فرنسا (UNEF) ذي الصبغة اليسارية وعارض الاتفاق بين الرابطة الشيوعية والحزب الاشتراكي الموحّد (PSU) ليجد نفسه في صفوف المنظمة الشيوعية الدولية (OCI) ذات التوجّه التروتسكي اللامبرتي نسبة إلى بيار لامبير، أحد تيارات الاممية الرابعة التي وجدت نفسها فاعلة في الثورة الطلابية والحركات العمالية. لاحقًا، لن يكون ميلانشون الشخص الوحيد الذي قدم إلى الحزب الاشتراكي من تلك المشارب التروتسكية، اذ سيكوّن حلقة ضيّقة داخل الحزب، ستعرف بحلقة رئيس وزراء المساكنة وزعيم “اليسار المتعدّد” (gauche plurielle) ليونيل جوسبان تحت ولاية جاك شيراك الاولى، وستضمّ رفاق الامس وخصوم اليوم كجان-كريستوف كامباديليس، الاخوين دافيد ودانيل أسولين، مانويل فالس، بونوا هامون، وبيار موسكوفيسي.

في الوقت الذي كان فعل ميلانشون على الارض كناشط حزبي بدأ يؤثر في محيطه المحلّي لا سيّما بعد مواكبته مختلف الحركات الاحتجاجية في اقليم الجورا، ومشاركته في فعاليات إضراب مصنع Lip للساعات، كانت فكرة الاشتراكية-الديمقراطية، مع مؤتمر ايبناي وفرانسوا ميتيران، قد بدأت تسحب البساط من تحت الحزب الشيوعي الفرنسي وبعض التنظيمات التروتسكية التي وجدت ضالتها في حزب يصالح فكرتي الحرية والعدالة الاجتماعية. رفض ميلانشون آنذاك بشكل قاطع الانضمام الى صفوف الحزب الشيوعي وقد علّل ذلك بقرار الحزب رفض إدانة اجتياح تشيكوسلوفاكيا من قبل “وارسو” والقضاء على ما عرف بـ “ربيع براغ”.

يتذكّر بعض مجايلي ميلانشون، تحديدًا أولئك الذين عملوا معه في صحافة الحزب الاشتراكي، مدى تمسّكه بفكرة الحرية والديمقراطية، ويستهجن هؤلاء اليوم كيف دافع الرجل عن أنظمة قمعية وديكتاتورية في الشرق الاوسط وأمريكا اللاتينية مستخدمًا شعارات خاوية كـ “العداء للامبرالية” وخطاب “مركزية الشرّ” الذي تنتهجه تيارات واسعة من اليسار في العالم.

بعد لقاء عابر مع كلود جيرمون (نائب الايسون) في احتفالية للحزب الاشتراكي، تدرّج ميلانشون بشكل سريع داخل الاطر الحزبية وأصبح مدير مكتب جيرمون شخصيًا في نهاية السبعينات. حمل الشاب المتحمّس لواء فرانسوا ميتيران في قضاء الايسون مطلع الثمانينات وأصبح المسؤول الاول للحزب محلّيا بعد مؤتمر فالنس سنة 1981. عارض ميلانشون خطّ “اليسار الثاني” الذي تبنّاه ميشال روكار وآلان ساڤاري داخل الحزب لكنّه احتفظ بعلاقة طيّبة مع مختلف التيارات الحزبية طيلة الثمانينات.

في تلك الفترة، تعرّف ميلانشون على المنظمات الماسونية وانخرط في “الشرق العظيم” (GODF) وعمل على الدفاع عن قيم العلمانية والمثال الجمهوري. ظلّ انتساب ميلانشون إلى أقدم منظمة ماسونية في فرنسا مسار شكّ وتساؤلات دائمة، قابله مرارًا بردود سلبيّة لا تنفي ولا تؤكّد. حصل ذلك مع صحافيين كثر كآن-صوفي لابيكس، وجان-جاك بوردان ودانيال شنايدرمان الذي استطلع أن يحرجه مرّة فكان جوابه “كنت تروتسكيا لثلاث سنوات فأصبح الفرنسيون يقولون عني “تروتسكي سابق”. اليوم اذا قلت أنني انتسبت لمحفل ماسوني ستقولون أنني كنت ماسونيا طيلة حياتي. هذا الامر، كالايمان بالاديان، لا يعنيكم”. لكنّ هذا اللغز فكّكه كتاب صدر سنة 2012 لليان أليمانيا (ليبراسيون) وستيفان ألييس (ميديابارت) تحت عنوان “ميلانشون العاميّ” (Mélenchon le plébeien). تناول حياته ومسيرته وطروحاته الفكرية والسياسية، وفيه اعتراف ميلانشون نفسه بالانضمام الى محفل “الشرق الكبير” سنة 1983. ظلّ عضوًا حتى سنة 2019 حين اتخّذ المجلس التأديبي قراراً بتجميد عضويته بعد مداهمات الشرطة القضائية لمكتبه ومسرحيته الجنونية آنذاك. 

في النصف الاول من التسعينات بدأت رؤية جان-لوك ميلانشون تتعارض مع سياسة الحزب الاشتراكي، فأسّس حلقة حزبية داخلية مع رفيقه جوليان دراي، أطلق عليها اسم “اليسار الاشتراكي”، صوّبت سهامها بشكل رئيسي على ميشال روكار وما وصفته بـ “يسار رخوّي”. عارض ميلانشون مشاركة فرنسا في حرب الخليج وصوّت ضدّ القرار كما أيّد “معاهدة ماستريخت” الاوروبية لكنّه سرعان ما ندم على قراره لاّنها بحسب رأيه كانت “فشلا ذريعا” رغم ايمانه المستمرّ بضرورة توحيد العملة وفتح السوق الاوروبيّة.

إبّان مؤتمر الحزب في بريست سنة 1997، طرح ميلانشون نفسه كمرشّح لأعلى منصب داخل الحزب : السكرتير الاول لكنّه اصطدم بمرشّح وحيد، حظي بدعم المؤسسات الحزبية كافة آنذاك. خسر ميلانشون معركته الاهم في الحزب لصالح رجل يدعى فرانسوا هولاند، سيصبح لاحقًا أول رئيس اشتراكي للبلاد منذ ميتيران. ذكرى سيئة ستظلّ تلازم ميلانشون طيلة حياته وستجعله حاقدًا على شخص هولاند في السنوات التي تلت خروجه من المؤسسة الحزبية.

حافظ ميلانشون على نسق واحد داخل الحزب الاشتراكي، جعل منه المشاكس الاول والرجل الاكثر اعتراضاً على قرارت البيت الحزبي. من “معاهدة أمستردام” التي جاءت كشكل معدّل لمعاهدة ماستريخت، إلى قرار ربط البنك المركزي الفرنسي بالبنوك المركزية الاوروبية، أصبحت حركة ميلانشون تشكّل عبئًا على الحزب، لذلك كان لا بدّ من احتوائه بتلزيمه مقعدًا وزاريًا تحت جناح وزارة التربية. ويحسب للرجل عمله الدؤوب في وزارته واقتراحه مشروعًا إصلاحيًا يعنى بالليسيه المهنية والتقنية.

عشية التصويت على الدستور الاوروبي، انفجر الخلاف داخل الحزب الاشتراكي بين المؤيدين (الغالبية) والرافضين (ميلانشون أبرزهم). جاء ذلك بعد الزلزال السياسي الذي هزّ فرنسا في 20 نيسان/أبريل 2002 حين تأهل مرشح اليمين المتطرّف جان-ماري لوبان على حساب مرشح الحزب الاشتراكي ليونيل جوسبان إلى الجولة الثانية من السباق الرئاسي. كان الجميع يعتقد آنذاك أنّ جوسبان لن يواجه صعوبة في الفوز على شيراك في حال تأهله إلى الدور الثاني. شكّل ذلك اليوم محطّة مفصلية في تاريخ الجمهورية الخامسة ومكوّنات اليسار وتشكيلاته. ولا أبالغ حين أقول أنّ تضعضع الحزب الاشتراكي – رغم فوزه لاحقا بولاية رئاسية مع فرانسوا هولاند – بدأ مع تلك الخسارة.

رفقة هنري ايمانويلي، فانسان پييون، بونوا هامون وأرنو مونتبورغ، بدأت جبهة المعارضة تتوضّح في البيت الاشتراكي، كلّ داخل جناحه يحاول فرض مشروع ليسار أفضل للحزب. استطاع بونوا هامون أن يقدّم اقتراح لجمع الاجنحة اليسارية المتخاصمة تحت سقف واحد وقد نجح في مهمّة كانت تبدو مستحيلة حسب وصف الوجوه التاريخية للجناح اليساري جيرارد فيلوش وپول كيليس. دعم ميلانشون ترشيح لوران فابيوس في الانتخابات الاولية الداخلية لاختيار مرشّح اشتراكي لرئاسيات 2007.كان معياره واحدًا وواضحًا “من صوّت بـ نعم على الدستور الاوروبي ليس مرشّحي. لذلك اخترت فابيوس ورفضت دومينيك-ستراوس كان”. بعد خسارة سيغولين رويال أمام نيكولا ساركوزي، بدأ ميلانشون يفكّر جدّيا بمغادرة الحزب. لم يتأخّر القرار طويلا بعد صراعات تناحرية حكمت مؤتمر الحزب في رينس.

على نسق ال Die Linke الالماني، أسّس ميلانشون حزبه الجديد “حزب اليسار” وبدأ رحلة جديدة تكلّلت بترشحه الى انتخابات 2012 تحت عنوان “جبهة اليسار” التي جمعت حزبه بأحزاب يسارية معادية للنيوليبرالية كالحزب الشيوعي الفرنسي. ركّز خطاب ميلانشون الجديد على شعار “مواجهة النخب” واستطاع أن يحظى بتأييد واسع لدى معظم مكونات اليسار الراديكالي بما فيها “الحزب الجديد المعادي للرأسمالية” (NPA) الذي وافقت قواعده الحزبية على تسمية ميلانشون بديلا عن مرشحها الحزبي فيليب بوتو.

قطار ميلانشون السريع

أدخل ميلانشون إلى الحياة السياسية الفرنسية مصطلحات جديدة، ارتكزت عليها حملته الرئاسية اللاحقة سنة 2017. لعلّ أبرزها مصطلح “الجمهورية السادسة” لانّ “الجمهورية الخامسة أصبحت مترهّلة ولا يمكن حتى إصلاح نظامها”. بين عامي 2012 و2017 كثّف ميلانشون عمله الميداني وطرح برنامجًا شاملًا على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، وطالب بنظام ضريبي أعدل وبزيادة الحد الادنى للاجور، لكنّه لم ينجح في تحويل ديناميته الفكرية إلى حركة شعبية واسعة لأسباب عدّة، في مقدّمها تكبّره وشخصيّته العنجهيّة التي أفقدته الكثير من الاصوات في انتخابات 2014 الاوروبية نتيجة تركيزه على سوء خصومه، لا على ما ايجابيات برنامجه.

رفض ميلانشون المشاركة مع الحزب الاشتراكي في الانتخابات التمهيدية لاختيار مرشّح يساري واحد سنة 2017 وفضّل الذهاب رفقة الشيوعيين وبعض الأجنحة اليسارية المنشقّة عن أحزابها إلى معركة “طواحين الهواء” التي سيدخلها بروح جديدة وتنظيم جديد أطلق عليه اسم “فرنسا الابيّة”، سيحمل برنامج “المستقبل المشترك” الذي صدر على شكل كتاب بيعت منه عشرات الاف النسخ في فترة لم تتجاوز الشهرين.

بذكاء كبير، معتمدًا استراتيجية الهولوغرام الرقميّة وال 3D وبتواجده على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، لفت ميلانشون جميع الانظار إلى حملته الانتخابية وأصبح المرشّح اليساري الاعلى مكانة من بين مرشحي اليسار سنة 2017. لكنّ تعاطي الرجل – الذي عارض التدخّلات الاطلسية مرارًا – مع الملفّات الخارجية لا سيّما تقرّبه من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين واعتباره ضمّ جزيرة القرم “قرارا سليمًا” عدا عن إطرائه على “تنظيف مدينة حلب السورية”، أفقده مصداقية كبيرة في الشارع اليساري المتمسّك بقيم الحرّية والعداء للديكتاتوريات.

تدارك مرشّح “فرنسا الأبيّة” أخطاء الماضي ودخل سباق العام 2022 بزخم كبير، مستفيدًا من تشتّت اليسار بشكل عام وتضعضع رافعته الاساسية في الاربعين سنة الماضية، الحزب الاشتراكي، ليطرح نفسه كمرشّح جدّي وحيد في معسكر اليسار وكورقة رابحة في وجه اليمين المتطرّف وفي وجه الرئيس الحالي ماكرون، الذي تميّز عهده بسياسة اقتصادية يمينية واجتماعية ليبرالية، مرتكزها الاعفاءات الضريبية مع الحفاظ على صورة ال Etat providence بإنفاق هائل على الخدمات الصحيّة والاجتماعيّة.

إقرأوا أيضاً:

استفاد ميلانشون من “التصويت المفيد” في الجولة الاولى وحقّق رقمًا قياسيًا نسبة إلى مشاركاته السابقة واستطاع أن يجذب طيفًا واسعًا من يسار متردّد، وأقلّيات (مسلمة تحديدًا) خائفة وفئات شعبية مهمّشة وطبقة وسطى من الجامعيين وموظفّي القطاع الخاصّ، أصحاب الدخل الضعيف والمتوسّط، نظروا إليه كبديل حقيقي عمّا آلت إليه البلاد من انقسام عموديّ بين معسكر ماكرون ومعسكر لوبان. اعتقدت تلك الجموع للحظة أنّ إمكانية فوز اليسار واردة وصوّتت بكثافة للمرشّح الوحيد القادر على مواجهة ماكرون في الدور الثاني، لكنّ الحظ لم يحالفه مرّة أخرى وحلّ ثالثًا في آخر انتخابات رئاسية يشارك فيها.

على الرغم من تصويت جزء لا بأس به من اليسار لميلانشون دون الموافقة على برنامجه المطروح للاسباب التي ذكرت أعلاه، فإنّ نتائج عديدة يمكن تسجيلها اليوم لا يمكن المرور عليها دون التوقّف عندها :

أوّلها : أصبح ميلانشون فعليًا مرشّح الطلاب، من تتراوح أعمارهم بين 18 و24 سنة ومن لا يمتلكون اليوم أي تجربة في الحياة السياسية والشأن العام لكنّهم متحمّسون لخطاب الرجل الذي يحاكي مشاكلهم بلغة شعبية وسهلة. من بين الفئات الشاب، استطاع المرشّح “العصيّ على الخضوع” أن يجذب كتلة الشباب اليساري الطليعي التي تهتمّ بالبيئة كما تهتمّ بالاقتصاد. في هذا الصدد، خسر “الخضر” رصيدًا وافرًا لصالح ميلانشون.

ثانيها : ربح ميلانشون جزءا واسعا من المجتمعات المغاربية التي تنتخب تاريخيا مرشّحًا شيوعيًا أو مرشّح اليسار الاقدر على الوصول الى السلطة. خطابه التطميني مقابل صعود خطاب الترا-قومي محافظ واسلاموفوبي، دفع بالجاليات العربية والمسلمة للتصويت بكثافة له. يكفي النظر إلى أرقامه في بوبيني (60٪؜) وروبيه (52٪؜) وكريل (56٪؜) للتأكد من ذلك والامثلة ناجزة على طول الخارطة.

ثالثها وأبرزها في رأيي : بالرغم من عدم قدرته على الحلول في الصدارة سوى في 3,000 بلدة فرنسية لقاء 12,700 لماكرون و20,000 لمارين لوبان، فإنّ جان-لوك ميلانشون استحقّ عن جدارة لقب “مرشّح المدن الكبرى”. في محافظ الايل دو فرانس حقّق ميلانشون رقمًا ممتازًا ناهز ال 31٪؜ وضمّ 5 دوائر جديدة إلى رصيده السابق المتمثّل بالدائرتين الـ19 والـ 20 في باريس. في جنوب غرب فرنسا، اكتسح مرشّح “فرنسا الابيّة” المدن الكبرى وحلّ في الصدارة في تولوز مع نسبة تقارب الـ 38٪؜، كذلك الامر في مونبيلييه حيث حصد 40٪؜ من أصوات المقترعين. في الاوفيرن-رون-ألب، تقدّم الرجل على جميع منافسيه في سانت-اتيان، كليرمون-فيران، غرونوبل، فالانس وشامبيري واستطاع أن ينتزع خمسة دوائر في مدينة برجوازية كـ ليون (1-4-7-8-9)، وحقّق أرقامًا كبيرة جدا في شرق ليون حيث انتزع معظم البلدات من حضن حزب اليمين التقليدي “الجمهوريون”.

كذلك الامر في البروتاني، ورث ميلانشون زعامة اشتراكية لـ 40 سنة في مدينة رين وحصد 36٪؜ من الاصوات، وتقدّم على ايمانويل ماكرون في مدينة بريست. أما في المدينة التي انتخب عنها نائبًا، مرسيليا، فقد حلّ في المركز الاول مع نسبة 32٪؜، وحصل الامر نفسه في مدينة ستراسبورغ حيث وجّه صفعة كبرى لمرشّح “الخضر” يانيك جادو الذي اعتقد للحظة أنّه المرشّح المفضّل في العاصمة الاوروبية. ولا يمكن ذكر المدن الكبرى دون التعريج على عاصمة الشمال ليل، معقل مارتين أوبري الاشتراكية منذ 20 عاما، حيث حقّق نسبة قياسية وصلت الى 40٪؜، ومدينة “روان” عاصمة النورماندي حيث حصد 32٪؜ من الاصوات متقدما على ماكرون ولوبان. ولم يقتصر زحف ميلانشون في المدن الكبرى على مدن يسارية إنّما وصل إلى معاقل تاريخية لليمين القاسي، فشهد مدينة نيس مثلًا حصول ميلانشون على نسبة 21٪؜ وهي نسبة كبيرة في مساحة كان فيها صوت اليسار ضعيفًا لا بل غائبا.

على أنّ كل تلك النجاحات التي حقّقها ميلانشون بشكل تراكميّ لمّاح، في ما يمكن اعتباره “استفتاء شعبي” على أحقيّته اليوم في تزعّم اليسار في فرنسا، لا يمكن تحويلها إلى رصيد سياسي طالما أنّه ارتكز بشكل أساسيّ على تصويت لمرشّح لم يصل إلى الجولة الثانية. مسأله يعرفها الخطيب البارع حقّ المعرفة، وهو لذلك لجأ منذ اليوم التالي لنتائج الجولة الاولى الى طرح نفسه كمرشّح ل “يسار موحّد” ضمن تحالف واسع، يستطيع فرض رئيس حكومة “مساكنة” تقيّد عمل وصلاحيّات رئيس فرنسا القادم وتفزض سياسة اقتصادية واجتماعية أساسها برنامج ميلانشون نفسه.

في عمر السبعين، لا زال ميلانشون يسعى بالدرجة الاولى للوصول إلى السلطة. رجل مهجوس بقيادة بلاده، لم تضعفه التناحرات الداخلية في مختلف التنظيمات التي انخرط فيها، ولم تثنيه انكسارات السنين عن الاستمرار في تقديم الافكار والمشاريع والطروحات، ولم تجعله مواقفه السابقة أسير الحاضر والمستقبل، ولا يمكن اعتبار “انتفاضته الرئاسية” معركة خاسرة لأنّ الرجل عوّدنا على الهزيمة، تلك التي ينتهي مفعولها ببدء معركة جديدة.

إقرأوا أيضاً:

محمد أبو شحمة- صحفي فلسطيني | 24.04.2024

مع زيادة التهديدات الإسرائيلية… عائلات تترك رفح

للمرة السادسة، اضطرت عائلة أمير أبو عودة إلى تفكيك خيمتها من مكان نزوحها في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، والتوجه بها إلى خان يونس التي تبعد عنها قرابة الأربعة كيلومترات، بعد تزايد الضربات الجوية الإسرائيلية على المدينة الحدودية مع مصر، وزيادة التهديدات بقرب تنفيذ هجوم عليها.