fbpx

قارب الموت الطرابلسي:
الجيش عائماً فوق بحر الجثث

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لو كنا في بلد آخر، لما فضّل الناس على بلدهم مركباً صغيراً غير آمن ليهرب بهم وبأطفالهم. لو أننا في بلد آخر، لما طاردهم بلدهم إلى البحر ليغرقهم ويقتلهم ويتبرأ من دمهم. لكنه، لسوء حظهم، بلدهم، وليس بلداً آخر

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قبل أن تنتشل كل جثث الغرقى من البحر، كان الجيش اللبناني قام بواجبه كاملاً، فعزّى بـ”الشهداء”، وهنّأ الناجين، وألقى موعظة حول خطر التهريب والمهربين، وحقق في الكارثة، وأنهى التحقيق وخرج باستنتاج مفاده أن الضحايا تسببوا في مقتل أنفسهم.

وجد قائد القوات البحرية العقيد هيثم ضناوي أن 25 دقيقة كافية ليحمّل المهاجرين مسؤولية غرقهم، لأن المركب صغير وعتيق ومحمل بأضعاف قدرته، ولأن قائد مركب التهريب هو الذي ناور الدورية البحرية التي كانت تطارده واصطدم بها ليخيفها، ما أدى إلى غرق القارب بمن فيه بأقل من خمس ثوانٍ.

ولم ينس العقيد أن يمنن الركاب الناجين، بأن الدورية أنقذتهم، لأنهم لو لم يغرقوا بوجودها معهم، لكان البحر سيلتهمهم جميعهم لاحقاً.

 يقين الضابط التام بغرق المركب لاحقاً، يبقى ضرباً من ضروب الغيب. من يدري، فلربما كان أكثر رحمة عليهم من الجيش؟ ولو تُرك لهؤلاء أن يختاروا مصيرهم، لكانوا فضلوا بالطبع أن يُتركوا لقدرهم ولطف ربهم بهم، لاحقاً، بينما هم وحدهم في عرض البحر، وقد ابتعدوا بما يكفي لأن لا يعود بلدهم الذي لفظهم في مرمى عيونهم، ولا يعودوا تحت سطوة ساديته المريضة.

لا ذنب للعقيد في ما قال. الضابط المأمور حكى باسم المؤسسة العسكرية الصارمة في هرميتها. وعلى الأرجح أنه ردد بالحرف ما طلب منه قادته أن يقوله، حتى وهو يتلو ابتهالات بائسة بأن “إنشالله ما بتنعاد”، و”الله لا يجربنا”… وغيرها من التعابير التي نرددها نحن العاجزين المتفرجين على العيون والأفواه المفتوحة للأطفال الموتى. الصلاة ليس واجب الجيش. ليترك لنا التضرع للسماء، وليقم بواجبه الوحيد بعد وقوع هذه الفاجعة بوجوده، وعلى الأرجح بسببه، واجبه في ألا يستخف بالغرقى، الناجين منهم والقتلى، وبأهاليهم، وباللبنانيين.

ليس بهذه الخفة يُبرر غرق مركب مُطارد. ببضع صور ملونة يرفعها ضابط أمام صحافيين، وبافتراضات غيبية بحتمية غرق المركب، إن لم يكن الآن فلاحقاً، وبأن الربان هو الذي اصطدم بالدورية وليس العكس. من المفترض بهذه الدوريات أن تكون معدة لسيناريو مثل هذا أصلاً، يبادر فيه المهرّب إلى مهاجمتها، أو مناورتها، وتعرف كيف تحميه من نفسه أولاً، لأن مركبه محمل بمدنيين، وأطفال، ولأن هروبه يظل، منطقياً، أقل ضرراً من إغراقه الذي يتحمل الجيش مسؤوليته بغض النظر عما دار في ذهن المهرّب. فإما أن الدورية لديها ما يكفي من الاحتراف لتوقف المركب من دون تعريض من فيه للخطر، أو فليس عليها أن تطارده. أما أن تسارع “المؤسسة” العسكرية إلى هذا العرض الهزلي رداً على ما اتهمها به الناجون أنفسهم، ففي ذلك الكثير من تقليد السياسيين اللبنانيين، في اتهام القتيل بسفك دمه، وتحميله ذنب مقتله. 

هذه المؤسسة التي تلف صورتها بقدسية وطهرانية مبالغ بهما، والتي تسوق لنفسها بأنها كأرز الرب، وكالعلم، رمز يعلو على السياسة والسياسيين، غارقة في السياسة حتى لبّ عظامها. وقد طبقت أساليب الساسة اللبنانيين بحذافيرها وهي تحقق مع نفسها بنفسها، وتعلن براءتها حتى من الخطأ التقني، ولا يتطوع قائدها، ولا رئيسه، القائد الأعلى للقوات المسلحة ورئيس البلاد، لإعلان أن غرق المركب يستوجب تحقيقاً تجريه جهة مستقلة، يبدأ باستجواب آمر الدورية، وينتهي باستجواب قائد الجيش.

إقرأوا أيضاً:

أرز الرب هذا، بدا عائماً فوق الجثث ليخفيها، وبدا قادته كأعضاء مجلس إدارة شركة خاصة أصيبوا  بالهلع بعد خطيئة مميتة ارتكبت، فراحوا يحاولون تبرير ما لا يبرر. وكالعادة، خرج مدافعاً عنه بكل أدواته العنصرية، ذاك الصنف الخاص من الشوفينيين اللبنانيين المصابين بشبق جنسي غير محدود للجزمة العسكرية، والتي يجب ألا تدوس برأيهم إلا على الرؤوس، كل الرؤوس، لا فرق بين رؤوسهم هم أو رؤوس “المتطاولين” على هذا البوط- الرمز.

لو كنا في بلد آخر، لاستقال كثر وحوكم كثر. لكنه ليس بلداً آخر. المثل القريب ما زال صوته يدوي منذ الرابع من آب/ أغسطس، يوم انفجرت بيروت على من وما فيها. لو كنا في بلد آخر، لما فضّل الناس على بلدهم مركباً صغيراً غير آمن ليهرب بهم وبأطفالهم. لو أننا في بلد آخر، لما طاردهم بلدهم إلى البحر ليغرقهم ويقتلهم ويتبرأ من دمهم. لكنه، لسوء حظهم، بلدهم، وليس بلداً آخر.  

إقرأوا أيضاً: