fbpx

طرابلس: في منزل الرجل الذي فقد أبناءه في قارب الموت

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كثيرون لا يعلمون أن أسراً معدمة تستدين من بعضها رغيف خبز أو ملعقة لبن أو بعض حبات الخضار حتى تسد رمق أبنائها… بينما ابنها ورئيس حكومة البلاد يراكم ثروته يومياً وهو جالس في السرايا الحكومية يتنعم بخيراتها من جيوب المواطن المسحوق.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في طرابلس لا صوت يعلو فوق صوت الموت والقهر، فالمدينة التي خرجت منذ مدة من كارثة التحاق بعض من أبنائها بتنظيمات متطرفة في العراق بتواطؤ أمني لبناني واضح المعالم، ها هي اليوم تدفع ثمناً جديداً من أرواح أبنائها الفارين من الفقر والجوع إلى الموت المحتم في عرض البحر، في كارثة غرق الزورق الذي كان يحمل عشرات منهم من جنسيات لبنانية وسورية وفلسطينية. إنها لحظة تطرح شكوكاً وأسئلة كثيرة، وسط اتهامات بعض الناجين من أن الغرق نجم عن اصطدام مركب الجيش اللبناني بقاربهم ما أدى إلى غرقه.

هذه الحادثة هي تكرار لحوادث مشابهة، كان أبرزها كارثة تموز/ يوليو 2020 حين علق عشرات الهاربين من الظرف الاقتصادي في وسط البحر ومات عدد من الأطفال في ظروف مأساوية نتيجة نفاد الماء والغذاء، كذلك حادثة تشرين الأول/ أكتوبر 2021 حين تعرضت عشرات العائلات للضرب ومحاولة القتل على يد خفر السواحل اليونانية، وترك المهاجرون لمصيرهم على أحد الشواطئ. وبذلك تصبح كارثة نيسان/ أبريل 2022، امتداداً لجرائم السلطة في ترك الناس لمصيرهم المجهول في عرض البحر.

شهادة الضحايا تلاحق المسؤولين

في شوارع المدينة المكلومة رائحة الموت تلف كل الأرجاء، مظاهر الحزن تكسو كل شيء، تجمعات بشرية في كل شارع وعند كل مستديرة، والوجوه شاحبة من مدخل المدينة حتى داخلها المهمل والمدمر بكل صنوف الدمار المادي والمعنوي، فيما منازل ذوي الضحايا المفجوعين تعيش حزناً مضاعفاً ونقمة جراء ما حدث. 

صوت البكاء يكاد يخنق الحياة في منزل أبو محمد دندشي الذي فقد أطفاله الثلاثة، أكبرهم في الثامنة، فيما أصغرهم لم يبلغ الأربعين يوماً.

وعلى كرسيه العتيق يجلس الرجل، تخنقه العبرات ليقول إنه كان ينوي من هذه الهجرة عبر قارب الموت كما يطلق عليه الجميع، أن يؤمن لأطفاله حياة جديدة غير تلك التي عاشها هو في لبنان وتجرع خلالها كل الويلات والظلم. 

 يسكت أبو محمد تارة وينطق تارة أخرى، ويروي ما حصل معه في عرض البحر، مشيراً إلى تعمد الضابط اللبناني والذي اعترض قافلتهم، إغراقهم عبر الاصطدام بالزورق الذي كاد يغادر المياه الإقليمية اللبنانية، ويضيف الرجل أن ذلك الضابط انهال على الركاب بالشتائم وصدمهم مرتين ما أدى إلى غرق الزورق خلال ثوان معدودة. 

يتساءل الأب المفجوع بزوجته وأولاده ما الذي اقترفه أطفاله حتى يعاقبهم عناصر الجيش بهذا الأداء الوحشي والذي أدى إلى موتهم وعدم إيجاد جثثهم حتى اللحظة، ويسأل هل أطفالي هم من دمروا لبنان وأفقروه وأوصلوه إلى هذا الحال، أم أن قادة البلاد الذين تتم حمايتهم من قبل الجيش والأجهزة المختلفة هم سبب نكبتنا المستمرة؟ 

في باحة المنزل الخارجية يتجمهر عشرات الشبان وهو غاضبون من الواقع الذي يزداد سواداً يوماً بعد يوم، ووسط حفلة من الشتائم الغاضبة يقف شاب ثلاثيني، وهو أحد أقرباء الضحايا، الدموع بادية على خده، ويقول “أي أمل ينتظر من هذه البلاد، ماذا يريد منا المسؤولون أن ننتظر 15 أيار لنزحف لإعادة انتخاب لوائحهم مرة أخرى مقابل حفنة من المال. سيستغل السياسيون والقيمون على المدينة ارتفاع سعر صرف الدولار لشرائنا بثمن بخس لا يكفي ثمن وجبة غداء لأسبوع”، يكمل الشاب أن عدداً من الضحايا هم من أبناء عمومته وسيثأر لهم قريباً، وعند السؤال حول الثأر يقاطع الشاب استغرابنا ليقول: الثأر في صندوق الاقتراع لدفن هذه العصابة الحاكمة في “مزبلة الخاسرين”.

أمام المستشفى الحكومي في طرابلس يقف مئات المواطنين من ذوي المفقودين، ينتظرون الجثامين التي عثر عليها على الشواطئ، لعلها تكون لأحد أحبائهم. يعلو الصراخ والهتاف ضد زعماء المدينة ويتم تمزيق صورهم في محيط المستشفى في ظاهرة غابت منذ 17 تشرين، وأمام هذا المشهد المريع ثمة أم تجلس على رصيف تذرف دموعها بانتظار وصول جثمان ولدها وتقول: لقد قطعت الأمل من بقائه حياً لكنني انتظر جثمانه لأقوم بتوديعه ودفنه.

 ومع بكائها ودموعها يبكي الواقفون إلى جانبها، يحاولون إيجاد كلمات ومصطلحات عن الصبر والأمل، لكنها تقول بصوت مرتفع أنها لن تنتظر العدالة من هذه السلطة الجائرة “الوقحة”، وتسأل، منذ متى تحققت العدالة مع هذه المافيا القاتلة التي دفعت ابنها للهجرة عبر البحر بحثاً عن بصيص أمل في أوروبا. تتحدث الأم أن ولدها رفض الزواج في لبنان لأنه لا يريد “توريط” أي بنت معه في ظروفه، على رغم علاقة جمعته مع فتاة تزامله في الجامعة، لكنه آثر الهروب في البحر بحثاً عن حياة فيها كهرباء وماء وخدمات وعيش كريم.

إقرأوا أيضاً:

سياق مستمر

لا يمكن فصل غرق المركب عن واقع المدينة والظروف التي يعيشها أبناؤها منذ سنوات وتراكمت بفعل الإهمال والظلم والإمعان بتدمير إحدى أكبر الحواضر العربية على حوض المتوسط. المدينة تتعرض لكل أصناف التهشيم والشيطنة منذ عهد نفوذ النظام السوري وحتى اليوم. وفي العقد الأخير تم تلزيم المدينة لقادة الأمن والعسكر، بفعل الإهمال السياسي لممثليها في البرلمان، حيث تواطأ نوابها وقادة أجهزتها الأمنية على اختلاق أسطورة ما يسمى “قادة المحاور” وفتح الجبهات في جولات العنف بين باب التبانة وجبل محسن والتي بقدرة قادر تم إغلاقها في ما عرف حينها بـ”الخطة الأمنية” .

وأُطلقت حينها الوعود للطرابلسيين بتفعيل خطط التنمية، لكنها سرعان ما تبخرت لمصلحة التعاطي الأمني العنيف معها عبر نشر الحواجز الأمنية والاعتقالات المستمرة وفق ما يطلق عليه “وثائق الاتصال” والتي تم استغلالها عام 2018 من قبل تيار المستقبل والنائب فيصل كرامي لاستخدام الشبان كمفاتيح انتخابية في المناطق الشعبية الأكثر فقراً في لبنان، لتأمين فوز ديما جمالي ونجيب ميقاتي وفيصل كرامي.

والأكيد أن مأساة المركب هي وليدة أزمات أكبر متتالية، تنطلق من غياب التنمية والمشاريع والخدمات وانقطاع سبل الحياة والتعاطي مع طرابلس بقبضة امنية وشيطنة ومنع أي نفس للحياة فيها عبر تشغيل مشاريعها الأساسية، والتي بات القاصي والدني يرددها كمتلازمة طرابلسية: المرفأ والمنطقة الاقتصادية الحرة والمعرض والمطار وغيرها من المشاريع الحيوية والتي ستكون كفيلة بتشغيل آلاف شبان وفتح سوق العمل لهم ولعائلاتهم. وكيف لمدينة لم تبصر الكهرباء منذ أسبوع وتنقطع فيها المياه لساعات طويلة ويصحو أبناؤها على ارتفاع فاحش بالأسعار والسلع أن لا يبحث أهلها عن الهرب إلى دول تحترم كرامتهم وانسانيتهم المصادرة.

وطرابلس قبيل ساعات وأيام من الكارثة التي هزت ضمائر كل العالم، كان سياسيوها يفتحون أشرعة سفنهم الانتخابية بوعود جوفاء وخطابات عالية السقف واستغلال مستمر لكل أوجاع المواطن المقهور، فيما الطرابلسي يموت يومياً من الجوع، فكثيرون لا يعلمون أن أسراً معدمة تستدين من بعضها رغيف خبز أو ملعقة لبن أو بعض حبات الخضار حتى تسد رمق أبنائها، وهناك عائلات تستدين لأبنائها ثمن قلم أو دفتر أو حذاء مستعمل من أسواق شعبية، بينما ابنها ورئيس حكومة البلاد يراكم ثروته يومياً وهو جالس في السرايا الحكومية يتنعم بخيراتها من جيوب المواطن المسحوق.

إقرأوا أيضاً:

محمد أبو شحمة- صحفي فلسطيني | 24.04.2024

مع زيادة التهديدات الإسرائيلية… عائلات تترك رفح

للمرة السادسة، اضطرت عائلة أمير أبو عودة إلى تفكيك خيمتها من مكان نزوحها في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، والتوجه بها إلى خان يونس التي تبعد عنها قرابة الأربعة كيلومترات، بعد تزايد الضربات الجوية الإسرائيلية على المدينة الحدودية مع مصر، وزيادة التهديدات بقرب تنفيذ هجوم عليها.