fbpx

كيف اكتشف العلماء مراحل إضافية في نظرية التطوّر؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في نظرية داروين، ينقل الآباء الصفات الوراثية إلى أولادهم؛ والأفضل بينهم هو من يبقى على قيد الحياة. بينما يشرح كتاب ديفيد كوامن الجديد عمليةً أكثر تعقيداً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في نظرية داروين، ينقل الآباء الصفات الوراثية إلى أولادهم؛ والأفضل بينهم هو من يبقى على قيد الحياة. بينما يشرح كتاب ديفيد كوامن الجديد عمليةً أكثر تعقيداً.

قبل عامين، أعلن عنوان رئيسي في مجلّة العاِلم الجديد عن “ولادة أوّل طفل في العالم بتقنية (الآباء الثلاثة) الجديدة”. وعلى رغم أن الجنين عادةً ما ينشأ من حيوان منوي واحد وبوَيضة واحدة، تستخدم هذه التقنية المادة الوراثية لثلاثة أشخاصٍ مختلفين. أوّل من قام بهذه التقنية هي عيادة خصوبة مقرّها الأساسي في نيويورك، إلا أنهم أجروها في المكسيك لتفادي القيود القانونية الأميركية، والآن كُرّرت هذه العملية مرّات عدة. وبدأت إحدى العيادات في أوكرانيا توفير عملية مماثلة في أواخر عام 2016 (وإن كان ذلك على أسس أخلاقيةٍ وطبّيةٍ هشة)، بينما وافقت السلطات الرقابية في المملكة المتحدة على استخدامها لامرأتين مطلع هذا العام.

تشتمل كل الحالات في المملكة المتحدة والمكسيك على امرأة تعاني من مرض نادر في الميتوكوندريا الخاصة بها، والميتوكوندريا هي الهياكل الخلوية التي تُنتج الطاقة في خلايانا. تمتلك الميتوكوندريا حمضاً نووياً خاصاً بها ويمكن أن تأوي أمراضاً وراثيةً خاصة بها كذلك. تنتقل هذه الأمراض الوراثية من جهة الأمّهات فقط، وذلك لأن الميتوكوندريا توجد في البويضات ولا توجد في الحيوانات المنوية. أحد أساليب منع انتقال هذه الأمراض يشتمل على وضع الأنوية المليئة بالحمض النووي من بويضة المرأة المريضة إلى بويضة المتبرّعة المليئة بميتوكوندريا سليمة، ولكن نُزعت الأنوية الخاصة بها منها. ومن خلال تخصيب هذه البويضة المهجنة مع حيوان منوي، وبسرعة جداً! يمكن أن يولد طفلٌ بعد تسعة أشهرٍ وهو يحمل حمضاً نووياً من ثلاثة أشخاصٍ ومن دون اختلالٍ كارثيٍ في الميتوكوندريا.

قد تكون هذه النتيجة بمثابة هبة، لكن العلم الذي تعتمد عليه يبدو محيّراً. أليس من المفترض أن يكون الحمض النووي هو مُخطّطنا المقدّس، الذي ينتهي المطاف به في الكروموزومات ويُحفظ بأمان في نواة خلايانا؟ ما الذي تفعله كائنات الميتوكوندريا تلك مع أحماضها النووية الخاصة، هل دورها هو فقط التكاثر داخل خلايانا وتوريث الأمراض إلى أبنائنا؟ إذا ما بدت لنا كالغزاة، فإن ذلك لأنها كانت غزاة من قبل. إذ اتضح أن الميتوكوندريا كانت في الأصل بكتيريا؛ انتهى وجودها الحر الطليق يوماً ما بأعماق تاريخ التطور، عندما دخلت خلية كائن حي آخر ذو خلية واحدة وبدأت حياة جديدة في داخله. كانت الخلية المستقبلة تلك هي أصل جميع الحيوانات والنباتات والفطريات والطلائعيات. يتجلى مصدر الميتوكوندريا في الشكل الأساسي لحمضها النووي: إذ إنها تلتف في دائرة بسيطة، شبيهة تماماً بهياكل البكتيريا، على عكس الكروموزومات الخطية الموجودة في النواة الخاصة بنا.

بناءً على ذلك، فأولئك الأطفال الذين تم إنجابهم باستخدام الميتوكوندريا الخاصة بشخصٍ ثالثٍ هم من نسل ثلاثة آباء. ولكن على الأقل ببعض المنطق فالوالد الثالث هو من نسل بكتيريا قديمة. بعد أن استقرّت هذه البكتيريا في أصلنا المشترك، شرعت في تبادل المادة الوراثية مع النواة، وهو ما طمس الحدود الفاصلة بين الغازي والمضيف أكثر، والحدود الفاصلة بين كل نواة ذاتية وما سواها على مدى آلاف السنين.

هذا ليس ما نعتبره تطوّراً داروينياً، من حيث انتقال وتوارث الجينات والصفات الوراثية على طول سلالة العائلة. اتضح أيضاً أن الحمض النووي يمكن أن ينتقل بصورةٍ أفقيةٍ بين الأفراد، بما في ذلك الأفراد الذين من أنواع وفصائل مختلفة. مثّل هذا الاكتشاف تحوّلاً جذرياً في فهمنا لأسرار الطبيعة، وهي قصة يرويها ديفيد كوامن بشكل رائع في كتابه البحثي المستفيض “شجرة متشابكة: تاريخ راديكالي جديد للحياة”، إذ يجوب أرجاء البلاد لإجراء مقابلاتٍ مع علماءٍ ومن أجل زيارة بعض المختبرات، يقدم كوامن صورة حيّة عن العملية العلمية، وعن العلماء المشاكسين، والغرباء، والأشرار -كما في إحدى الحالات- والعباقرة الذين يقفون وراءها. ربما نحب أن نفكر في الحمض النووي باعتباره الإرث المتقن الأنيق لوالدينا، واندماج لاثنين من السلالات البشرية الفريدة والمُحدّدة. إلا أنه -ونحن كذلك بالتبعية- شيءٌ أكبر: فهو جدائل قصيرة ضمن نسيج شبكة جينية واسعة متشابكة، تمتد منذ الأيام الأولى للأرض، وتربط كل الكائنات الحية.

تبدأ قصة كوامن مع تشارلز داروين، الذي قام قبل وقتٍ طويلٍ من نشر كتاب “أصل الأنواع”، بتدوين رأيٍ وإحساسٍ تاريخيٍ في دفتر ملاحظات، حيث كتب أن “الكائنات المنظّمة تعدّ بمثابة شجرة”. على رغم أنه كان مفهوماً راسخاً (وكانت له دلائل ونُذر في كلٍ من الإنجيل، وكتب أرسطو)، كانت نسخة داروين عن هذا الأمر تُعدّ، “تأكيداً مدويّاً، وكانت مجردةً لكن بليغة”. إذ أشارت استعارة “شجرة الحياة” (وهي وصف لعلاقات الترابط بين الأنواع المختلفة خلال التطوّر عبر الزمن) الخاصة به إلى أصلٍ مشتركٍ على جذع الشجرة، وفروعها المنقسمة إلى ما لا نهاية الممتدّة منها والمؤدّية إلى أنواع وفصائل جديدة. أصبح هذا هو التمثيل التصويريّ النموذجيّ لعمليّة التطوّر -كما يشير كوامن- حتى، “ستكتشف مجموعة صغيرة من العلماء لاحقاً: عذراً، لا هذا تمثيل خاطئ”.

كان أحد الخيوط المهمّة في هذه القصة هو اكتشاف التكافل الداخلي الوراثي: حقيقة أن الميتوكوندريا، مع البلاستيدات الخضراء ومكونّات الخلايا النباتية التي تحوّل أشعة الشمس إلى طعام، كانت ذات مرّة هي البكتيريا التي بدأت حياةً جديدةً داخل أجدادنا الخلويين. ومن مؤيدي هذه النظرية الأقدم والأكثر نفوذاً، كما قال  كوامن، هو عالمٌ روسيٌ شنيعٌ يدعى قسطنطين سيرغيفيتش ميرزكوفسكي. هرب ميرزكوفسكي من شبه جزيرة القرم عام 1898، وذلك على الأرجح لأنه كان متحرّشاً بالأطفال، وانتهت به الحال في ولاية كاليفورنيا، حيث درس طحلب وحيد الخلية يؤدي عملية التمثيل الضوئي (أثناء كتابة بعض من الخيال العلمي الغريب من جانبه). وقاده عمله إلى تبني فرضية (غير مثبتة) بأن البلاستيدات الخضراء في الطحالب كانت، في الواقع، غزاةً قدامى. انتحر ميرزكوفسكي في 1921 في غرفة فندق بجنيف، لكن نظريته صمدت بشكلٍ غامضٍ.

أحيت نظريته بعد عقودٍ عالمة بارزة مثيرة للجدل تدعى لين مارغوليس. عام 1970 نشرت مارغوليس كتاب “أصل الخلايا حقيقية النواة” الذي شرحت فيه نسخةً حديثةً من التكافل الداخلي الوراثي. رأى البعض أن نظريتها رائعة، في حين أن آخرين، على حد قول  كوامن، “ظنوا أنها كانت مجنونةً”. لكن ثبتت صحّة طرحها في النهاية من قبل عالم آخر، فريد دوليتل، المقيم بنوفا سكوتيا. فقد حلّل هو وزملاؤه بنيةً خلويةً قديمةً تدعى الريبوسوم (مسؤولة عن بناء جميع بروتينات الخلية) لإثبات أن كل من البلاستيدات الخضراء والميتوكوندريا هي بالفعل فصائل “أجنبية”. وقد اعتمدوا على تقنيات ابتكرها المؤلف الرئيسي للكتاب، وهو كارل ووز، الذي كان معقداً ومحافظاً وذا ضغائن، في جامعة إلينوي.

كان ووز عالماً ساعد في إعادة رسم “شجرة الحياة” بشكلٍ جذريٍ، ربما لم يسبق لها مثيلٌ في القرن العشرين. ومن بين اكتشافاتٍ أخرى، اكتشف هو وزملاؤه أن هناك نوعاً جديداً تماماً من الكائنات الحية يُعرف باسم “الجراثيم العتيقة”. ومع ذلك فحتى ووز نُسي وتوارى في الخلف لمصلحة التحول الكبير التالي في هذا النموذج، وهو اكتشاف “النقل الجيني الأفقي”.

“على رغم أن شجرة الحياة هو مجرّد تعبير مجازي، لكنني أعتقد أنه تعبير ساحر: فهو يربطنا بنسب مع كل الكائنات الحيّة”

يعطينا النقل الأفقي للجينات طرائق جديدةً لفهم الكثير من الظواهر، منها تطوّر البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية. إذ يرسل الأطباء عادةً عيناتٍ إلى المختبر عند علاج عدوى خطيرة، سواء كانت عينات من الصديد أو البلغم أو البول أو الدم، وفي غضون يومين يتسلّمون تقريراً يتضمن اسم البكتيريا وقائمة بما يمكن استخدامه لقتلها. إلى جانب كل مضاد حيوي في القائمة سيكون واحد من ثلاثة أحرف: S حساس، I وسيط، أو R مقاوم. واستناداً إلى البكتيريا فقد يكون معظمها من النوع الحساس، ولكن أحياناً ستشعر بعدم الارتياح عند إلقاء نظرةٍ على هذا التقرير. فربما هناك عدد قليلٌ جداً من البكتيريا الحساسة للمضاد الحيوي؛ وربما لا يوجد أي منها.

بإمكان التطور الدارويني بالطبع أن يفسّر تطوّر البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية. الأمر يحدث هكذا: يتم صبغ مستعمرة من البكتيريا بمضاد حيوي مميت. وفي أثناء الاحتضار تمتلك إحدى البكتيريا طفرة محظوظة تسمح لها على سبيل المثال بتصنيع جزيء يمكنه ضخ المضاد الحيوي بأمان خارج السيتوبلازم إلى السائل المحيط. ينمو هذا الكائن البكتيري المحظوظ وينقسم ويحل محل أشقائه المقتولين، ويعطي الحياة لمستعمرة جديدة أكثر شراسةً ومناعةً ضد المضاد الحيوي. أو كما قال داروين مازحاً في كتابه (أصل الأنواع): “مفعمة بالحيوية، صحية، سعيدة بالتضاعف والبقاء على قيد الحياة”.

هذا أمر جيد جداً حتى الآن، للبكتيريا في أي حال. لكن لسوء الحظ بالنسبة إلينا (والذي لم يعلّمه داروين)، تمتلك البكتيريا وسائل أخرى للحصول على مقاومة المضادات الحيوية من دون الاضطرار إلى الجلوس في انتظار التحور المحظوظ القادم: فهي تستطيع مبادلة الجينات بالطريقة التي نتشارك بها الوصفات. فعندما تتجمع بكتيريا واحدة بالقرب من أخرى، وليس بالضرورة حتى أن تكون من النوع ذاته، فيمكنها أن تتشارك في كروموزوم يحتوي على عدد كبير من الجينات مع إنزيم يمكنه تحطيم البنسلين إلى أجزاء على سبيل المثال.

إن النقل الأفقي للجينات هو وسيلةٌ دفاعيةٌ هائلةٌ للبكتيريا كي تتشارك الجينات المقاومة للمضادات الحيوية، هذا ما يحدث في جميع أنحاء الطبيعة وفي تاريخ الكائنات الحية. وعلى سبيل المثال فجميعنا فيروسات جزئية بمعنى ما: فكما يشير  كوامن، 8 في المئة من الجينوم البشري قد وصل إلينا من الخارج من الفيروسات القهقرية. كما تشير دراسات كثيرة إلى أن الكثير من جيناتنا تم الحصول عليها من البكتيريا بشكل أفقي. وبعبارة أخرى فإن الحياة ليست مجرد تاريخ من التباين النابت بأشكال جديدة من جذع صلب. إن الحياة تتقارب في بعض الأحيان. فمن هذا المنظور، ليس هؤلاء الأطفال ذوو الثلاثة آباء أكثر غرابة منك أو مني.

في النهاية، وعلى رغم أن شجرة الحياة هو مجرد تعبير مجازي، لكنني أعتقد أنه تعبير ساحر: فهو يربطنا بنسب مع كل الكائنات الحية، سواء كانت أتت من حقيبة كيماوية أو أتت كلها من جزيء واحد منفرد، تلك الأنساب التي اندمجت يوماً ما سوياً في نموذج أولي طيني. ومع ذلك وعلى غرار جميع الاستعارات، فإن لفظ “الشجرة” يقصر على وصف الواقع. ففي علم الأحياء تكون جميع الحدود غير واضحة: بين أنواع الفصائل، وأحياناً بين الكائنات الحية وبعضها، وربما بين الكائنات الحية وغير الحيّة.

هذا الموضوع مترجم عن موقع newrepublic.com ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي

إقرأ أيضاً:
ستيفن هوكنغ… جسور متعددة لكون بلا حدود
الثورة الرقمية ستفلت من السيطرة البشرية
من رسوم الأطفال عن تصورهم للعلماء على مدى 50 عاماً

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.