fbpx

لبنان: موسيقى الانتفاضة وما بعدها… وجه الانهيار الجميل

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لا يزال للموسيقى هدف بالتأكيد، ولا سيما الآن أكثر من أي وقت مضى، والأمل والمسار الجماعي الذي يشيد به الكثير من الفنانين يمكن أن يكون نقطة الانطلاق لمستقبل أكثر إشراقاً للبنان.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لطالما كانت الموسيقى على مر التاريخ انعكاساً للحركات السياسية أو الاجتماعية، ولبنان وانتفاضته الأخيرة ليسا استثناءً من ذلك. بيد أنه بعد انتهاء التظاهرات، ماذا تبقى من الموسيقى الثورية؟

ما الذي يمكن أن تقدمه الموسيقى لبلد يبدو فيه الأمل مفقوداً بالنسبة إلى شباب تجرع مرارة الخيانة الشديدة من العصابة السياسية الحاكمة؟

لبنان غارق بعمق في واحدة من أكبر الأزمات في تاريخه، وقد احتل المرتبة الثانية ضمن لائحة الدول “الأكثر تعاسةً” في تقرير السعادة العالمي. فقد أدى سوء الإدارة والفساد والنهب على مدى السنوات الماضية، وكذلك الطائفية السياسية إلى انهيار النظام المالي. أضف إلى ذلك انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس 2020، وكذلك جائحة “كورونا” ويمكن حينها البدء في تخيل الوضع الذي يعيش فيه اللبنانيون. وحتى الانتفاضة التي بدأت في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 حتى عام 2021 لم تتمكن من تغيير أي شي. إذاً، في ظل كل هذا البؤس، هل لا يزال للموسيقى هدف؟

بات يُمكن سماع عبارة “لقد فقد اللبنانيون الأمل” في كل مكان في جميع أنحاء البلاد. لكن هل ينطبق ذلك أيضاً على الفنانين؟ وماذا يمكن أن تُقدم الموسيقى للشباب المصابين بخيبة الأمل؟ 

يعتقد مغني الراب السوري الفيليبيني شينو المعروف باسم “Chyno with a why”، أن الموسيقى لا تزال تلعب دوراً مهماً لأنها يمكن أن تساعد على “تقليل الضغط والتوتر”، إضافة إلى “تمكين الشباب الذين لا ينسجمون مع المجتمع”. وقد كانت هذه القدرة على النهوض هي الموضوع الرئيسي لألبومه الأخير “مملوك”. يُعد مغني الراب والمنتج والمدير والمؤسس المشارك للكثير من مؤسسات الراب، من الشخصيات البارزة في مشهد موسيقى “الهيب هوب” الصاعدة في بيروت والتي تشهد نشاطاً كبيراً في الوقت الراهن، مع الكثير من الحفلات الموسيقية والفعاليات الجارية. هذا المشهد دليل على أن الموسيقى لا تزال تعيش في لبنان، وإذا استمر الوضع الاجتماعي والاقتصادي في التدهور، فبإمكان الموسيقى أن تسلط الضوء على جيل كامل من الفنانين الموهوبين. يُمثل ذلك أحد الدوافع التي تحفز الفنانين على الصمود. هذا هو الحال أيضاً بالنسبة إلى الفنانة الشعبية داليا المعروفة باسم “Dahlia on the Run” التي تقول، “إذا كانت أغنياتي قادرة على تحفيز شخص واحد على الأقل، فقد تم إنجاز المهمة”. وإذا تمكنت أغنياتي من إعطاء الأمل، فيمكنها أن تُظهر للبنانيين أن هناك أشخاصاً نشطين وموهوبين ما زالوا يسعون إلى إحداث تغيير”.

شأنها شأن كثر من الفنانين، تعتقد داليا أن الموسيقى قد تمثل نوعاً جديداً من المقاومة في أعقاب الانتفاضة، ومساعدة الناس بشكل يومي، فضلاً عن محاولة نشر الأمل. وبالنسبة إلى بو ناصر الطفّار، فيظل هذا التأثير هو الأكثر أهمية، “عندما تشعر بأنك تعيش في عالم لا تنتمي إليه، تأتي أغنية تجعلك تشعر أنك لست وحدك، وأن غضبك ومآسيك ملموسة ويُمكن التعبير عنها”، ويشترك معك فيها أشخاص آخرين.  بو ناصر الطفّار هو مغني راب، يتناول القضايا الاجتماعية والسياسية، ومثال جيد على الدور الذي لعبته الموسيقى خلال احتجاجات 17 تشرين الأول 2019، فأغانيه كانت حاضرة في التظاهرات يومذاك.

إقرأوا أيضاً:

الموسيقى خلال الانتفاضة

ارتبطت الموسيقى ارتباطاً وثيقاً بالانتفاضة. فقد انطلقت المسيرات على إيقاعات الأغاني الثورية التقليدية والأناشيد الوطنية وكذلك أيضاً الأشكال الأحدث من الموسيقى مثل “التكنو” أو “الهيب هوب”. ولعب الفنانون دورهم خلال وقت بدا وكأنه “قوة دافعة قوية للأمل والإرادة، على غرار أيام المراهقة”، على حد قول داليا، التي صدرت أغنيتها “بيروت”، وهي قصيدة تُعبر عن لبنان أيام التظاهرات.

تمخض الكثير من الفنانين من رحم الثورة، “فقد ساعدت الأجواء الفنانين على الإبداع، وكان إبداعهم جزءاً من ذلك الحدث التاريخي”، وفقاً لصفحة “لب-هيب-هوب” (LbHipHop) على وسائل التواصل الاجتماعي، التي تغطي أخبار مشهد “الهيب هوب” اللبناني وموسيقى “الأندر غراوند”. 

نظراً إلى أنها ثورية بطبيعتها وتُمثل على مر التاريخ صوت الشباب والمهملين، سرعان ما أصبحت موسيقى “الهيب هوب” أحد أكثر أنواع الموسيقى شعبيةً وانتشاراً خلال الانتفاضة، مع أغاني فنانين مثل “الراس” أو بو ناصر الطفّار الذي يعتقد أن “الثورة تفسر وجود هذا النوع من الموسيقى”. فقد رُددت العديد من أغاني الراب الخاصة به أثناء المظاهرات. وكانت الاحتجاجات تردد أصداء إرادة التغيير التي كانت تفيض بالفعل في العديد من أغانيه: “لطالما كانت الثورة حاضرة في جميع نصوصي، الغنائية والمكتوبة على السواء. كل جهد بذلته وكل كلمة كتبتها أو غنيتها كانت تتوجه صوب لحظة الذروة هذه. فقد كانت الثورة بالنسبة لي حلماً حرضت عليه أنا ومن حولي ممن سمعوا أغانيّ لسنوات”.

فقد كانت انتفاضة عام 2019 ذروة مجتمع يغلي ضاق ذرعاً بقادته و”الأكاذيب التي لم نستطع استيعابها أبداً منذ الطفولة”. بحسب قول خالد صبيح قائد “فرقة الراحل الكبير”. فقد وجدت النبرة الساخرة التي تتسم بها أغاني الفرقة صدى خلال الاحتجاجات. وخاصة أغنية “كلّن يعني كلّن” (كلّهم يعني كلّهم)، التي رُددت كشعار للتظاهرات منذ الأيام الأولى. مضيفاً “كنا نعلم أن شيئاً ما على وشك الانفجار”.

تُشكل الموسيقى جانباً أساسياً من الثورة، كما أظهرت الانتفاضة اللبنانية. يرى مغني الراب الشاب جمول في الفن دوراً توضيحياً: “تسلط الموسيقى الضوء على الرسالة. وتوفر إطار عمل لإظهار الطريق، وكأنها مفكرة. إنها ليست مجرد أغنية، إنها إطار عمل”. غالباً ما تمتزج كلمات أغانيه بالإشارات السياسية، من أجل إحياء الوعي السياسي والاجتماعي. ويؤمن جمول إيماناً راسخاً بأن الموسيقى، وتحديداً موسيقى “الهيب هوب”، تلعب “دور الجسر بين الجماهير والمؤسسة، وهنا يكمن مفهوم التغيير، لإعطاء الجماهير تفسيراً لما يحدث بطريقة ملموسة”.

وعلى رغم أن الموسيقى رافقت الاحتجاجات، بل وربما اججتها، فإنها لم تقد المسيرات. وبالتالي، في حين يجب عدم المبالغة في تقدير تأثيرها، يجب أيضاً عدم الاستهانة بها، لأنها ساعدت في تحويل مشاعر الإحباط من النظام الحالي والاستعداد لإحداث تغيير إيجابي، إلى كلمات وقصائد وأغانٍ تعكس جوهر الانتفاضة، وكانت تُغنى بشكل مشترك في جميع أنحاء البلاد وعبر الحدود الطائفية والجغرافية التي كانت دائماً مثيرة للخلاف والشقاق.

علاقة عميقة عبر التاريخ

في الواقع، لطالما كانت للموسيقى اللبنانية علاقة وثيقة مع السياق السياسي في البلاد. ولعل أبرز مثال على ذلك هو الحرب الأهلية وتداعياتها، نظراً إلى أنها تُمثل موضوعات متكررة في الإنتاج الموسيقي الوطني، وكذلك أيضاً في الفنون الجميلة أو الأفلام أو الأدب.

وحتى بعض أبناء الجيل الحالي من الفنانين الذين لم يشهدوا الـ 15 عاماً من العنف خلال الحرب الأهلية ما زالوا يعبرون عن الحرب في فنهم، بما أن صدمات الحرب لا تزال يتردد صداها حتى يومنا هذا وتنتقل من جيل إلى آخر. تشير الكثير من كلمات أغنية “بيروت” التي غنتها داليا إلى الصدمات التي شهدتها مرحلة الطفولة في أوقات الحرب. وتعكس الموسيقى وتوثق الأحداث المثيرة للانقسام والمحبطة في تاريخ هذا البلد، وفي هذه الحالة، وفقاً لداليا، يمكن أن تلعب دوراً علاجياً لعلاج صدمات الطفولة التي عانى منها اللبنانيين، ومساعدتهم على إيصال همومهم والتغلب على مخاوفهم.

وحتى لو كان من الممكن النظر إلى الحرب الأهلية على أنها حقبة من الخراب والدمار والانحلال، إلا أنها لم تمنع صعود الإبداع الموسيقي الوطني، مع تزايد الاهتمام بموسيقى البوب العربي، واندماج الأساليب المختلفة عبر أوروبا والشرق الأوسط، ما يعكس الهوية المتنوعة والمعقدة للمجتمع اللبناني.

يستنكر خالد صبيح الفشل في خلق مشهد فني متمرد حتى الآن، على عكس حقبة السبعينات والثمانينات، التي شهدت صعود فنانين ثوريين مثل أحمد قعبور ومارسيل خليفة وزياد الرحباني. “لقد ساهم هؤلاء الفنانون في تأسيس فكرة ثورية لبنانية، والآن، باعتباري فناناً، أشعر بأنني يتيم أفتقد إلى المرجعية الثورية”. هل يمكن أن تساعد الانتفاضة الأخيرة في إثارة خطابات سياسية واجتماعية جديدة في كلمات المغني، أم أن تداعياتها قتلت الأمل في نفوس حتى أكثر الموسيقيين تفاؤلاً؟

ما الدور الذي تلعبه الموسيقى في لبنان ما بعد الانتفاضة؟

إذا كانت الاحتجاجات التي هزت لبنان تهدف إلى إحداث تغيير جذري، فإن الحماسة والأمل اللذين يسريان في صفوف اللبنانيين من جميع الأعمار تحولا إلى مزيد من الإرهاق واليأس عندما رأوا أن الأزمة لا تزال مستمرة، مما يغمر البلاد في أوقات أكثر صعوبة.

لم يعد الناس يطوفون في الشارع، ولم تعد هناك مكبرات صوت تبث الموسيقى والهتافات.

لكن على رغم الإحباط وخيبة الأمل في ظل الأزمة الاقتصادية والركود، لا يزال هناك بعض الأمل المشترك، وهذا واضح في الحياة والنشاط الذي لا يزال يُميز شوارع بيروت.

وفي حين لم تحقق الانتفاضة أهدافها في إحداث تغيير في النظام السياسي الجامد الذي احتل الدولة بعد الحرب، فقد نجحت الثورة في الجمع بين اللبنانيين.

لطالما كان لبنان يتمتع باستقرار هش برغم ما يعاني منه من انقسام بسبب الطائفية. بيد أن الثورة سلطت الضوء على شريحة كبيرة من اللبنانيين الذين يتطلعون إلى ما هو أبعد من الانقسامات القبلية والطائفية. ومن بين هؤلاء فنانون كانوا يغنون للبنانيين جميعهم بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية. يقول خالد صبيح، لقد تجاوز اللبنانيون الآن “الخطاب المزيف الذي لا أساس له من الصحة حول الوحدة الوطنية بين المسيحيين والمسلمين وتاريخ لبنان العظيم الذي يتجاهل صدمات الشعب اللبناني، ولا يعالج أصل المشكلة. الآن تجاوزنا ذلك، وصار الخطاب مختلفاً. نحن شعب واحد لأننا نعاني المأساة نفسها”. ينعكس هذا الوعي بين الفنانين وفي موسيقاهم كما يؤكد شينو أيضاً، “مغنو الراب هنا منبوذون بالفعل من مجتمعهم، لذلك لن يؤلفوا أغاني راب حول الأحزاب السياسية، بل إنهم يتجاوزون ذلك”.

في النهاية، لا يزال للموسيقى هدف بالتأكيد، ولا سيما الآن أكثر من أي وقت مضى، والأمل والمسار الجماعي الذي يشيد به الكثير من الفنانين يمكن أن يكون نقطة الانطلاق لمستقبل أكثر إشراقاً للبنان. وكما تقول داليا، “إن الشعور بالمجتمع الذي بدأ في الظهور في لبنان يمهد الطريق أمام شيء جميل للغاية، كما أتمنى”.

إقرأوا أيضاً: