fbpx

عن لبنان الذي تختفي منه الأشياء تماماً كجزيرة يوكو أوغاوا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في بحر طرابلس “كَبَسَ” الجيش المركب وأغرقه. قطع الطريق على أي فرار من “الجزيرة” اللبنانية التي تختفي منها أموال المودعين ورواتب الموظفين والكهرباء والمحروقات والطحين والخبز والمواد الغذائية، كما تختفي الآمال والأحلام وتختفي منها حتى الأوراق الثبوتية وجوازات السفر.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

مع قرار الأمن العام اللبناني تعليق تلقي طلبات جوازات السفر إلى حين تأمين الاعتمادات اللازمة، وبالتالي منع اللبنانيين الذين لا يملكون جوازات سفر صالحة من مغادرة البلاد، وعلى وقع تردّدات مجزرة مركب الموت في طرابلس، يقترب لبنان أكثر فأكثر ليطابق الجزيرة التي اخترعتها الأديبة اليابانية يوكو اوغاوا وجعلتها مسرح روايتها “شرطة الذاكرة”، الصادرة في اليابان في العام ١٩٩٤، والتي ترجمت إلى العربية مؤخراً(٢٠٢١ – دار الآداب). 

فالرواية تدور أحداثها في جزيرة تختفي منها الأشياء والمخلوقات والذكريات، في ظل أجهزة أمنية وتنظيمات بوليسية تتعقب الذكريات وتحرص على اختفائها. كل فترة، وأحياناً كل يوم، يختفي شيء أو أحد من الجزيرة، ويمحى تماماً من الذاكرة. يحدث الأمر مع الورود والفواكه والروائح والطيور والهوايات، الروزنامات، ودفاتر الملاحظات والرسومات، الأمومة، ووسائل النقل وكل ما يخطر في البال. وهذه الظاهرة الغريبة التي أصابت الجزيرة، أرعبت الناس بادئ ذي بدء، لكنهم راحوا مع الوقت يتأقلمون معها ويخضعون لها. 

الناس يتخلون عن ذكرياتهم باختفاء أثرها، وقليلون من تنجو ذاكرتهم من هذا المصير الجماعي، فيحتفظون بذكرياتهم، وبالتالي يتحولون الى أهداف لشرطة الذاكرة وملاحقي الذكريات، لأن التذكّر يصير جريمة لا تغتفر: “منذ اختفت الورود، لم يحدث أي اختفاء جديد؛ لكن صار شبه معتاد ان يختفي فجأة شخص… زميل دراسة قديم، أو أحد أقرباء بائعي السمك… ولا ندري حينها ما اذا كان المختفون قد أُلقي القبض عليهم، أم أنهم كانوا محظوظين فوجدوا مخبأً…”. 

الجزيرة معزولة عن العالم الخارجي، وممنوع على أحد من سكانها مغادرتها، بعد ان اختفت المراكب، واغرقت كل قطع غيارها ومحي من ذاكرة الصيادين والقباطنة والبحّارين كل ما يمت بصلة الى الإبحار وقيادة المراكب. ويحدث ان تبحث الشرطة في الرواية عن مجموعة فرت من الجزيرة عبر البحر، ويجرون تحقيقاتهم التي ترجّح ان هؤلاء الذين فروا، لم ينسوا شيئاً، “لم ينسوا صوت المحرّك، ولا رائحة البنزين، ولا شكل الأمواج حين ينزلق المركب في الماء”، على حد وصف احد شخصيات الرواية الأساسيين، وهو بحار عجوز نسي كل ما يتعلق بالإبحار ويعيش على عبّارة صدئة راسية في الميناء، وقد حققت معه شرطة الذاكرة لتتأكد ما اذا كان على علم بعملية الفرار أم لا. 

في حوار بينها وبين البحار العجوز، تتخيل الراوية السيناريوهات التي يمكن ان تكون قد واجهت الفارين على متن المركب من الجزيرة. وفي سردها، قد يشعر من تابع قضية مركب الموت في طرابلس، انها تتحدث عن لبنان، وليس عن جزيرة متخيلة. ليس فقط لجهة اختفاء الأشياء والأشخاص، كما يحدث في بلادنا التي تذوي، بل أيضاً في تفاصيل حكاية القارب الهارب من الجزيرة، محملاً بالناس والذكريات. فهي اذ تقول للبحار العجوز إن الفارين “لا بدّ أنهم قد شعروا بالخوف، ان يذهبوا مجذّفين في عزّ الليل”، يجيبها بالموافقة، لانه يعتقد ان “مركبهم المصنوع من مواد متفرقة ليس بالمركب الثقة”، فتتساءل “كم كان عددهم على متن المركب؟!”، ويجيبها البحار العجوز: “لا أدري. لكن لا بدّ ان عددهم كان يفوق ما يسمح به المركب… لا بدّ ان عدد الناس الراغبين في الفرار يفوق طاقة المركب”. 

هذا تماماً ما حدث في طرابلس. مركب يتكدس فيه الناس الهاربون من الجزيرة التي تختفي منها الأشياء. واذا كانت اوغاوا، لا تحسم مصير المركب الذي تبحث عنه شرطة الذاكرة في الجزيرة، الا انها تتخيله يهيم في عتمة البحر، و”يتقدم شطر الأفق على مهل، كأنما فزعاً. وكل من في المركب يشدّ بيد على جزء منه، ويضع اليد الأخرى على صدره، منخرطاً في صلاة لا تنقطع، راجياً أن يواصل المركب ابتعاده من غير أن تكبسه الشرطة…”. 

في بحر طرابلس “كَبَسَ” الجيش المركب وأغرقه. لاحق الجيش الفارين من البلاد ليحرص على اعادتهم الى معتقلات محو الذكريات، وقطع الطريق على أي فرار من “الجزيرة” اللبنانية التي تختفي منها أموال المودعين ورواتب الموظفين والكهرباء والمحروقات والطحين والخبز والمواد الغذائية، كما تختفي الآمال والأحلام والحرية والكرامة والرغبات والطموحات والفرص، وتختفي منها حتى الأوراق الثبوتية وجوازات السفر… وأشياء أخرى نسيتُها!

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.