fbpx

حين طلب مني عناصر المخابرات السورية أن أطير كـ”غراندايزر”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كل مدني شاهدته في مقطع مجزرة التضامن، أعاد علي الألم ذاته، والشعور المرعب ذاته لحظة السقوط في الهواء. وأكد لي المنهجية التي يتم تدريسها لعناصر القتل والإجرام التابعين لنظام الأسد.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ماذا لو قلتُ إنني أرغب في أن أصرخ؟ هل سيكون هذا التصريح على قدرٍ من الأهمية، يدفع أي أحد ليسألني لماذا؟! لا أعتقد ذلك في الحقيقة، لأن هذه الرغبة باتت خلال السنوات الأخيرة مشتركة بين الجميع، وخصوصاً السوريين. والأسباب معروفة ومتعددة. لكن، ماذا لو كان الأكثر ألماً، هو عدم القدرة على الصراخ! أقصد أن يختنق الإنسان بصوته كلما حاول القيام بذلك!

في إحدى السنوات الأخيرة، وتحديداً عام 2016، كنت أجلس مع فتاة أحبها في حديقة “النيربين”، وهي حديقة معروفة في دمشق، تتسلق جبل قاسيون، في أعلى نقطة منه، يمكننا من هناك أن نشاهد المدينة كاملة. وبما أن الطابع العام في سوريا خلال السنوات الأخيرة كان مغمساً بالدم والبارود، لم تكن الأحاديث بين أي عاشقين، تخرج عن إطار الحرب. لذلك، وكما أتذكر، كنا نحاول معاً، أن نحصي عدد المقابر التي تمكننا مشاهدتها من تلك الحديقة. كنا نشير إليها واحدة واحدة بأصابع الخوف. فتلك مثلاً “مقبرة الشيخ رسلان” وإلى اليسار قليلاً “مقبرة الدحداح” وفي العمق “مقبرة باب الصغير”. كنا نشير إليها، ونحن نعلم ضمنياً، أن المدينة الممتدة أمامنا، مدينة الياسمين والحارات القديمة، والسبعة آلاف عام. تقوم على مدينة أخرى تمتد تحتها. مدينة المعتقلات والزنازين والأقبية، مدينة ضخمة لتصفية الأرواح، تحت أقدم عاصمة في التاريخ. لكننا لم نكن نعرف، أو نتخيل، أن المقابر التي أشرنا إليها، ليست سوى “مقابر داخل مقبرة كبيرة”، حراسها جنود نظام الأسد وميليشياته.

شرح ما هو مشروح: كمحاولة إطفاء النار بالبنزين

انتشر مقطع فيديو، مصدره صحيفة “الغارديان” البريطانية، يظهر فيه أحد عناصر مخابرات النظام السوري، الذي تم التعرف إلى هويته وهو المدعو أمجد يوسف، وينحدر من إحدى القرى الساحلية، عين الطيب، برفقة عنصر آخر نجيب الحلبي وهو من إحدى قرى جبل الشيخ. كانا يقومان (بمُهمتهما) على حد تعبير المجرم أمجد، المهمة التي تقتضي بارتكاب مجزرة بحق 41 مدنياً من سكان حي التضامن الدمشقي. وذلك من خلال تصفيتهم، الواحد تلو الآخر، بأسلوب بشع، أقرب ما يكون إليه من الوصف “كانهما في واحدة من ألعاب الفيديو” على حد تعبير الصحيفة. وهو التعبير الأكثر دقة برأيي في وصف تلك المجزرة. وبما أنني أحاول قدر المستطاع، أن أبتعد من شرح حيثيات الفيديو وتفاصيله. لما لذلك من آثار مؤلمة، لن تزيد الجراح إلا عمقاً. سأتناول فقط، نقطة واحدة شاهدتها في المقطع، لإسقاطها على حادثة شخصية، بما أنني كنت أحد المعتقلين السابقين، في الفرع الذي كان المجرم أمجد وصديقه نجيب، يخدمان لمصلحته. وهو الفرع 227 التابع لإدارة المخابرات العسكرية. ومقره في كفر سوسة وسط دمشق.

أسلوب القتل والتصفية: منهجية ثابته ومتكررة 

في المقطع الذي يصور المجزرة، يظهر المجرم أمجد يوسف، يقتاد المدنيين، معصوبي الأعين، ومكبلي الأيدي وراء الظهر، هم لا يرون شيئاً، ولا يعلمون أين ستدوس أقدامهم في الخطوة التالية. يجبرهم على الوقوف بالقرب من حافة حفرة هائلة أُعدت مُسبقاً. ثم يأمرهم بألفاظ قذرة، بأن يركضوا. لتكون خطوتهم الأولى على الأرض، والتاليه في الهواء. فيسقطون في الحفرة فوق جثث من سبقوهم. لتتم تصفيتهم بالرصاص. سواء أثناء سقوطهم في الهواء، أو بعد أن يرتطموا بالآخرين المكوَمين في قاع الحفرة.

ما أقدم عليه أمجد، يوضح المنهجية الثابتة والمُتبعة من قبل مخابرات النظام وعناصر أمنه، في القتل والتعذيب. فعام 2017 تم اعتقالي على خلفية سياسية من مكان عملي في أحد مطاعم دمشق. اقتادتني الدورية التي جاءت “لشحطي” إلى أحد فروع الأمن، وقد عرفت بعدما خرجت أنني كنت مُعتقلاً في الفرع 227 التابع للمخابرات العسكرية. ويدعى فرع المدينة. عند وصولي إلى هناك، معصوب العينين، مكتوف اليدين وراء الظهر، أشبه تماماً كل الذين رأيتهم في فيديو المجزرة، وقف خلفي أحد العناصر الذين اعتقلوني. 

قال بصوته الذي ما زال يرن في رأسي: “بتعرف كيف بطير غريندايزر؟”.

كان سؤاله يشي بأن أمراً سيحدث، وتوقعت أن تكون هذه نهايتي. فهذا الأسلوب الكلامي الذي يتبعونه، ولو كان في ظاهره يحمل روح الدعابة، إلا أن مضمونه عذابٌ، لا يمكن وصفه.

في الحقيقة لم أتمكن  من الإجابة، فكل حرف سأنطق به، سيكون سبباً ليقوم ذلك العنصر بضربي أو تعذيبي. برغم أنهم (عناصر مخابرات الأسد) ليسوا بحاجة لأسباب تبرر قيامهم بالقتل أو التعذيب. 

اخترت أن أجيبه بعدما ضربني بأخمص بندقيته بين كتفي من الخلف، وقلت: لا والله يا سيدي. ما بعرف.

فضحك بسخرية وقال: أمامك “كريدور طويل” أريد خلال ثلاث عدات أن تركض بأقصى سرعتك، لتصل إلى آخره. فصدقته. 

وفعلاً، خطوت أول خطوة على أرض ثابتة، لكن الثانية كانت في الهواء، فتدحرجتُ من أعلى درَجٍ كان ينحدر أمامي، لأرتطم في الأسفل، بجدار عالٍ، وأسفر ذلك عن كسر في كتفي ونزيف من أنفي. بينما أسمع في الأعلى صوت ضحكات عناصر الفرع، وشتائمهم.

إقرأوا أيضاً:

كل مدني شاهدته في مقطع مجزرة التضامن، أعاد علي الألم ذاته، والشعور المرعب ذاته لحظة السقوط في الهواء. وأكد لي المنهجية التي يتم تدريسها لعناصر القتل والإجرام التابعين لنظام الأسد.

عندما كنت طفلاً صغيراً، كانت العادات في أيام الأعياد، تقضي بأن نزور المقابر بصحبة الأهل. وأكثر ما كانت تحرص عليه أمي وقتها، هو أن أنتبه جيداً، أثناء عبوري بين القبور. كي لا أدوس ولو بالخطأ على أحدها، حتى إنها كانت تحذرني من الجلوس على النواصي المحيطة بها. متذرعة بأن علينا احترام أرواحهم. لكن الآن، من يخبر أمي أنني كنت دون أن أعلم، خلال السنوات العشر الأخيرة،  ومثلي الكثير ممن لم يحالفهم الموت على يد المجرمين، نمشي على مقابر جماعية تحت دمشق؟ دُفنت فيها أجساد أُناسٍ، كانوا يعيشون بيننا. ومن يخبر الآن أيضاً، الفتاة التي كنت أحبها، أن المقابر التي أشرنا إليها ونحن نجلس في الحدائق، كحديث بين عاشقَين، لم تكن سوى ما استطعنا أن نراه فقط؟ من يخبر الناس في دمشق الآن، أن يتوخوا الحذر والانتباه في خطواتهم التالية. فلربما تكون مقبرة جماعية أُخرى، تحت أقدامهم. لم يُكتشف أمرها بعد

في نهاية الأمر، فإنني أتبنى عبارةً ضمنها رسام الكاريكاتير السوري هاني عباس في لوحته التعبيرية عن تلك المجزرة، والتي تحمل رسالة لكل سوري ما زال يشاهد بصمت. يقول فيها على لسان الضحايا “يلي قتلونا غطولنا عيونا وما شفناهم، بس هلأ أنتو شفتو وجوههم منيح”… 

إقرأوا أيضاً: