fbpx

اغتيال الموارد المائية في لبنان:
مليارات الدولارات لتمويل المشاريع ولا مياه في الصنابير

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

اللاعدالة في توزيع المياه في لبنان والتي تفاقمت بفعل الأزمة الحالية، هي في الواقع مأساة قديمة، تحكمها المحسوبيات والفوضى والإدارة الفاشلة منذ الحرب الأهلية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يشتري جاد كل ثلاثة أيام صهريج مياه لتلبية حاجات بيته، فالبئر التي كان مشتركاً بها شحّت مياهها في الفترة الأخيرة. يسكن جاد في منطقة عكار، في شمال لبنان وهي من أفقر المناطق مائياً في البلاد. كان على مدى سنوات يدفع فاتورتي مياه، واحدة لصاحب البئر وأخرى للدولة اللبنانية، على رغم أن مياه الدولة لم تكن تأتي أبداً، ولم تنفع شكاوى الأهالي في الحصول على الحق الذي يدفعون ثمنه كل سنة. والآن بعدما جفت البئر، يضطر جاد إلى دفع نحو 200 ألف ليرة لشراء صهريج كل ثلاثة أيام، علماً أن راتب الشاب وهو أب لثلاثة أطفال لا يتجاوز الـ4 ملايين ليرة، وبالتالي أصبحت كلفة المياه ثقلاً كبيراً على كاهله. وأسعار الصهاريج قبل الانهيار الاقتصادي الذي لحق بلبنان لم تكن تتعدى الـ15 ألف ليرة، لكنّ أزمة المحروقات، مضافة إلى عدم توزيع المياه وشحها في بعض السنوات، أسباب أدت إلى زيادة فاتورة المياه على كاهل المواطنين.

اللاعدالة في توزيع المياه في لبنان والتي تفاقمت بفعل الأزمة الحالية، هي في الواقع مأساة قديمة، تحكمها المحسوبيات والفوضى والإدارة الفاشلة منذ الحرب الأهلية. فالصراعات الطائفية لم تقتصر على السياسة والسلطة، بل امتدت إلى هذا القطاع الحيوي وبذلك عانى اللبنانيون والبيئة من تقصير الدولة. وعلى رغم أن معظم الأسر اللبنانية مسجلة في مصلحة المياه الرسمية وتدفع الرسوم السنوية، إلا أنّ التوزيع غير العادل وبخاصة في الأرياف، إضافة إلى حاجة البنى التحتية إلى تحديث، من الأسباب التي دفعت كثيرين إلى البحث عن بدائل، منها استقدام صهاريج من شركات خاصة، تتقاضى أموالاً طائلة، مستفيدة من أزمة المياه المرشحة للتفاقم.

وهذه الإخفاقات إضافة إلى كلفتها على المواطن وعلى البيئة لجهة ارتفاع عدد الآبار، ما يعني استنزاف المياه الجوفية، فهي أيضاً تكلّف الدولة اللبنانية الكثير لناحية قروض السدود وغيرها من المشاريع، ومن دون جدوى، فالمياه لا تصل إلى معظم المواطنين. وقد زادت الحاجة إلى المياه في لبنان في السنوات الأخيرة، بخاصة مع وصول المزيد من اللاجئين السوريين، من دون خطة لإدارة اللجوء.

ذكرت ورقة بحثية أجرتها مؤسسة “تراينغل” أنه في تقرير تقديري للإنفاق العام لعام 2009، هو الأحدث من نوعه، فإن سوء إدارة المياه كلّف الدولة 2.8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ومن المحتمل أن تكون هذه النفقات تضاعفت بسبب الأزمة المالية الحالية. كما أن القروض والمنح الدولية التي يفترض أن يحظى قطاع المياه بالحصة الأكبر منها تشكل أيضاً تكاليف خفية إضافية على الدولة بسبب تراكم الفائدة والديون.

يرى الباحث والأستاذ الجامعي الدكتور نديم فرج الله أن الوضع المائي في لبنان صعب في ظل التغير المناخي الذين ينعكس سلباً على الوضع المائي، “فمعظم المياه التي نستعملها مصدرها المياه الجوفية إن كان الأنهر أو الينابيع أو الآبار، وهذه المياه الجوفية تتغذى من ذوبان الثلوج بشكل أساسي، وأحياناً من دخول المياه إلى التربة ثم إلى المياه الجوفية. ما يفعله بنا التغير المناخي هو أنه يخفف الغطاء الثلجي على المرتفعات في لبنان”. ففي بيروت مثلاً نلاحظ أن الحرارة الدنيا ارتفعت نحو 3 درجات، فيما تتفاوت في مناطق أخرى بين زيادة درجة أو درجتين. هذا الارتفاع بحسب فرج الله “يقلص كمية الثلوج وهذا أمر خطير، فنحن لا نملك قدرة تخزينية سطحية للمياه وهي مسألة معقدة وتحتاج إلى دراسة معمقة لا سيما في مناطق كارستية (فيها شقوق تتسرب منها المياه) كلبنان”.

بالعودة إلى مسألة اللاعدالة الاجتماعية في توزيع المياه، يوضح فرج الله أن “أكثر المتضررين هم الفقراء، فحين لا تصلهم المياه التي يدفعون ثمنها للدولة، يضطرون لشراء غالونات للشرب على الأقل، وقد يلجأون إلى شركات غير معروفة وغير خاضعة لمعايير المياه الصحية، وبذلك قد يستهلكون مياهاً سيئة قد تؤدي إلى أمراض”.

وفق دراسة شارك الباحث نديم فرج الله في إجرائها:

60 في المئة من البيوت التابعة لمؤسسة مياه البقاع، تصصلها المياه فعلاً. 

في منطقة مؤسسة لبنان الجنوبي 86 في المئة من البيوت تصلها المياه، أما بالنسبة إلى المناطق التابعة لمياه لبنان الشمالي فـ57 في المئة فقط من البيوت تصلها المياه، فيما تؤمن مصلحة بيروت وجبل لبنان المياه لـ70 في المئة من البيوت. 

وفي البلاد عموماً 69 في المئة من البيوت تصلها المياه الرسمية. 

وفق دراسة أجرتها “أوكسفام” و”إدارة الإحصاء المركزي” عام 2005، يخصص السكان التابعون لمصلحة مياه البقاع 19 في المئة من مداخيلهم لتأمين المياه، تنخفض النسبة في الجنوب إلى 5 في المئة، و4 في المئة في الشمال، أما في بيروت وجبل لبنان فهي 3.4 في المئة. وبذلك يكون المعدل العام 5.5 في المئة.

في هذا الإطار، يشير فرج الله إلى اللاعدالة في التعرفة، فالأغنياء والفقراء يدفعون التعرفة ذاتها مقابل خدمة المياه، مطالباً بضرورة أن يصبح الدفع على العدادات بحيث يدفع كل منزل أو كل مزارع ثمن ما يستهلكه بالفعل. علماً أنه يتم التحضير لرفع التعرفة التي لم تعد قادرة على تغطية مصاريف توصيل المياه وتحديث الشبكة، لا سيما في ظل الانهيار الاقتصادي الحاصل وانخفاض سعر العملة الوطنية بشكل كبير.

نهر الليطاني

اغتيال الليطاني

وإذ لا يمكن أن يُفتح باب الثروة المائية الضائعة في لبنان من دون المرور بالكارثة البيئية التي يمثلها نهر الليطاني، الذي تعرّض وفق رئيسة قسم الصحافة في المفكرة القانونية الكاتبة والباحثة سعده علوه، لـ”اغتيال رسمي عن سابق ترصد وتصميم نفّذته السلطة عبر تركها النهر يتلوث بمئات المصانع وبشبكات الصرف الصحي في حوض النهر التي تم ربطها مباشرة به، إلى جانب عدم تركيب محطات تكرير فعالة لمعالجة المياه المبتذلة وغض النظر عن المصانع وعدم إلزامها بتركيب محطات تكرير لنفاياتها الصناعية. اغتيلت هذه الثروة التي كان يفترض أن تروي البقاع كله في ما لو استكملت القناة 900 والقناة 800 للجنوب (جار العمل بها). لقد تحول الليطاني إلى مجرور من التلوث القاتل والدليل على ذلك هو تزايد الإصابات بالسرطان، وهكذا حُرم البقاع المياه النظيفة، وخسرنا الليطاني النهر الذي ينبع من لبنان ويصب فيه”. وبذلك يحرم المواطنون مياه الشرب والزراعة، ويأكل لبنان كله من سهل البقاع خضراً وفاكهة ملوثة بمياه الصرف الصحي ونفايات المصانع والمستشفيات والمسالخ.

ماذا يفعل المزارعون؟

يروي أحد سكان بلدة صحراء شويفات لمعدة التحقيق كيف تقلّصت الأراضي الزراعية في المنطقة مع ارتفاع كلفة الإنتاج وتسرّب ملوحة البحر إلى مياه الريّ وصعوبة الاعتماد على الصهاريج بشكل دائم، ما أضر بالمزروعات وهجّر المزارعين، لتصبح المنطقة معزولة. قصة الملوحة تمتدّ أيضاً إلى الآبار في بيروت وجبل لبنان مع اختلاط المياه الجوفية بمياه البحر، لأن الاستهلاك يتخطى نسبة المتساقطات، وهي مسألة تحتاج معالجتها إلى وقت طويل ومجهود جبار.

في هذا الإطار، يرى فرج الله أن أزمة تغير المناخ المؤدية إلى تراجع كميات المتساقطات التي تقتصر شيئاً فشيئاً على أمطار، تنعكس على المزارعين الذين يحتاجون إلى ضخّ المياه إلى مسافات بعيدة، ما يكبّدهم تكاليف مرتفعة. وقد لجأ بعضهم إلى الطاقة الشمسية، ما قد يؤدي لاحقاً إلى المزيد من الضخ واستنزاف المياه الجوفية المعرضة للجفاف.

وفي ظل ارتفاع كلفة الديزل للري، يلجأ مزارعون كثيرون إلى المياه المبتذلة للسقي، ما يعني تراجع جودة المنتجات ويسبب أمراضاً، وهنا يظهر شكل آخر من اللاعدالة، فالفقراء لا يملكون رفاهية شراء المعقمات أو المياه النظيفة لإزالة الرواسب عن الفاكهة والخضار، فحتى المياه التي يستخدمونها للتنظيف قد لا تكون نظيفة.

خطة طوارئ

يطرح فرج الله خطة طوارئ لمواجهة شح المياه واللاعدالة في توزيعها وفق النقاط التالية:

-الحد من الهدر والخسائر في شبكات المياه إذ تصل الخسائر في القطاع إلى 50 في المئة، فيما المقبول عالمياً هو 15 في المئة.

– وقف التعدي على شبكات المياه وتحسين الجباية ومحاسبة المعتدين والمتخلفين عن الدفع.

-إرشاد المزارعين في مسألة الري الذكي أو الري بالتنقيط، لتوفير المياه.

-السعي إلى إنشاء السدود الناجعة لتجميع المياه بعيداً من الحساسيات السياسية، فالمتساقطات في لبنان ستتراجع بين 20 و30 في المئة في السنوات الـ20 أو 30 المقبلة.

-إيجاد مصادر أخرى للمياه عبر تكرير المياه المبتذلة وإعادتها إلى الأنهر والمياه الجوفية.

– إجراء حصاد لمياه الأمطار في المناطق الزراعية وأيضاً في المناطق السكنية للحد من الفيضانات والجريان.

مليارات الدولارات ولا المياه!

أنفقت الدولة مليارات الدولارات على الأقل منذ نهاية الحرب الأهلية على مشاريع المياه، وفق الدكتور رولان الرياشي، الخبير في الاقتصاد السياسي، الذي يعارض فكرة السدود معتبراً أنها أثبتت فشلها في لبنان، ويقول: “توصي الدراسات الحديثة للأمم المتحدة بخصوص المياه بالعودة إلى الحلول الطبيعية والتخلّي عن السدود وعن فكرة أنّها مربحة. ويعتبر رياشي أن “فشل السدود هو نتيجة تاريخ سياسي اقتصادي مبني على فكر نيوليبرالي يكرّس امتيازات لمصالح خاصة في قطاع المياه”.

في هذا الإطار، تعيد الباحثة سعدى علوه “المشكلة الأساسية إلى السياسات المائية، فاليوم الدولة بعد فشل أكثر من 6 سدود، ما زالت مصرة على إنشاء المزيد. وهو ما يتعارض مع آراء الخبراء الذين يؤكدون أن جبال لبنان كارستية هي عبارة عن مصافٍ طبيعية لتخزين المياه، فهذه الثروة الجوفية التي نملكها ليست محض مصادفة، بل لها علاقة بتكوين جبالنا، التي هي صخور كارستية تتسرب منها المياه نحو المياه الجوفية. إنما بدل الاهتمام بهذه الثروة، ذهبت مليارات الدولارات لتمويل سدود فاشلة ولهدر المال العام كما في سد جنة وسد بلعا”. وتؤكد علوه أن المطلوب هو استراتيجية للسياسات مائية جدية تأخذ في الاعتبار المصلحة العامة والمال العام والشفافية في صرف الأموال، بعدما أوقعتنا السدود في ديون كبيرة من دون أن تصل المياه إلى الناس”.

وحتى تحقيق ذلك، سيبقى جاد كالكثير من اللبنانيين مجبراً على تحمّل تكلفة شراء الصهاريج، حتى لا يموت وعائلته من نقص المياه.

تم إعداد هذا التحقيق ضمن مبادرة MediaLab Environment، مشروع للوكالة الفرنسية لتنمية الإعلام CFI

إقرأوا أيضاً: