fbpx

موسم هجرة العقول الروسية:
الهرب من مغامرات بوتين الخارجية وسياساته القمعية في الداخل

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

غادر البلاد ما بين 50 ألفاً الى 70 الفا بحسب الأرقام والمعطيات الرسمية. تسارع وتيرة الهجرة أثار قلق الكرملين ومخاوفه من انعكاسات خطيرة يمكن أن تتركها هذه الظاهرة على الاقتصاد، لا سيما مع تزايد العقوبات الغربية على روسيا.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ساشا كازيلو، مواطنة روسية استثمرت في مشروع متوسط الحجم مع آخرين من شركات اخرى، وتعد واحدة من المؤسسين المشاركين في شركة “فان ليميتيد” الناشئة، التي تصمم تطبيقات لمساعدة الأطفال في سن ما قبل المدرسة على تعلم الرياضيات. 

ساشا قررت الهجرة من روسيا إلى باريس، وأخذت معها عائلتها وعملها، ولم تكن وحدها من قرر الرحيل والهجرة، فلقد اتخذ القرار نفسه 15 مساهماً وموظفاً. . . 

 قرار كازيلو، ترك البلاد، سببه قيام السلطات الأمنية باعتقال زوجها ليونيد ريبنيكوف، لمدة 13 يوماً لنشره ملصقات مناهضة للحرب، وكان من حسن حظهما أن لديهما أصدقاء في باريس، إذ حصل زوجها على وظيفة بحثية. وفي حديث مع صحيفة “وول ستريت جورنال” قالت ساشا كازيلو، “قبل الحرب، كنت أتوهم أن الأوضاع يمكن أن تتغير في روسيا ويمكننا بناء شركتنا هناك، لكنني لا أستطيع أن أتخيل ذلك بعد الآن”. 

عائلة كوزيلو هي واحدة من مئات العائلات، إلى آلاف المتخصصين في مجال التقنيات المتطورة وبعض كبار مديري الشركات المملوكة للدولة والشركات الخاصة، الذين غادروا روسيا خلال الأسابيع الأخيرة. فقد استقال أندري بانوف نائب الرئيس التنفيذي لشركة الخطوط الجوية الروسية إيروفلوت، المملوكة للدولة، هو الآخر استقال من منصبه وغادر الى إسرائيل بعد 10 أيام من بدء غزو أوكرانيا. 

بانوف قال لمراسل الصحيفة في تل ابيب، “لقد أصبح من المستحيل العمل في شركة مملوكة للدولة، تغيرت البلاد في غضون أسبوع”. 

إيلينا بونينا، الرئيسة التنفيذية لشركة التكنولوجيا في روسيا “يانديكس”، ذكرت في رسالة نشرت على منتدى داخلي للشركة إنها غادرت البلاد إلى إسرائيل وستستقيل قريباً. وقالت “لا يمكنني العيش في بلد يخوض حرباً مع جيرانه”. وعلى خطى بونينا، غادر العشرات من موظفي “يانديكس”، وخصوصاً المبرمجين، واستمروا في العمل لدى الشركة من بلدان أخرى، وفقاً لعاملين في الشركة. وأعلنت شركة “داتا أرت”، أنها تغادر روسيا ورجحت إدارتها أن يغادر مئات الموظفين الإضافيين البلاد بحلول الصيف. 

هجرة الروس لا تقتصر على فئة محددة من السكان، بل تشمل بحسب البيانات الرسمية العلماء والعاملين في قطاع التكنولوجيا ومصرفيين وأطباء. ففي مجال قطاع التكنولوجيات والخبراء في التقنيات الرقمية الذي كان حتى وقت قريب أحد أسرع القطاعات نمواً في الاقتصاد الروسي، غادر البلاد ما بين 50 ألفاً الى 70 الفا بحسب الأرقام والمعطيات الرسمية. تسارع وتيرة الهجرة أثار قلق الكرملين ومخاوفه من انعكاسات خطيرة يمكن أن تتركها هذه الظاهرة على الاقتصاد، لا سيما مع تزايد العقوبات الغربية على روسيا. ويأتي قرار الرئيس بوتين بتوقيع مرسوم يمنح الإعفاء من التجنيد العسكري للعاملين في قطاع التكنولوجيا ليكشف هذه المخاوف. وليس مرسوم بوتين وحده الذي يوحي بتزايد وتيرة الهجرة، وإنما أيضاً اعتراف الحكومة النادر بهذه الظاهرة، إذ قال المتحدث الرئاسي ديميتري بيسكوف، “بالطبع لا تزال هجرة الاختصاصيين قائمة، وقد تتسارع، لكن الحكومة اتخذت إجراءات بالفعل”. وفي السياق نفسه، اقرت نائبة كبير الاقتصاديين، في معهد التمويل الدولي إلينا ريباكوفا بأن” الأشخاص الذين يغادرون او يخططون للمغادرة هم الجزء الأكثر إنتاجية في القوة العاملة، لانهم تلقوا تعليماً عالياً، وهم من الشباب عموماً”. وتوقعت الجمعية الروسية للاتصالات الالكترونية خلال جلسة استماع عقدتها في 22 آذار/ مارس المنصرم في مجلس الدوما (النواب) “أن يغادر البلاد أكثر من 100 خبير اضافي حتى أواخر نيسان/ أبريل الماضي”. وكشف استطلاع أجرته (OK Russians) غير الربحية التي تقدم المساعدة والمشورة للراغبين في الهجرة من البلاد، “إن حوالى 300 ألف اختصاصي وخبير من الكفاءات العلمية والتقنية العالية غادروا روسيا بالفعل خلال أقل من شهر”. ونقلت صحيفة “واشنطن بوست” عن المؤسس المشارك للمنظمة أعلاه ميتيا أليشكوفسكي أن بعض الذين يغادرون هم نشطاء وفنانون وصحافيون معارضون، مضيفاً، “الرئيس بوتين ربما يشعر بالسعادة برحيلهم، لأن ذلك من شأنه أن يقلل من تأثير المعارضة”. لكنه استدرك لافتاً الانتباه إلى أن “نصف هؤلاء المغادرين هم من العاملين في قطاع التكنولوجيا، وهم يشكلون قوة عاملة مطلوبة عالمياً (في سوق العمل)، وتضم الكثير ممن يخشون العزلة العالمية لروسيا، ومناخ الأعمال المعاكس، والاستبداد شبه الكامل”. وتوظف صناعة التكنولوجيا الروسية حوالى 1. 3 مليون شخص، أو نسبة 1. 7 في المئة من القوة العاملة في البلاد، وفقاً لأرقام إدارة التجارة الدولية الأميركية، في تقرير حول روسيا في تشرين الأول/ أكتوبر 2021. 

هجرة متزايدة وحوافز فاشلة

من الواضح ان تفاقم هجرة العقول الروسية دفع الكرملين الى اتخاذ مزيد من القرارات للحد من الظاهرة، على رغم أنها تبدو “محاولة يائسة” لوقف حركة الهجرة، عبر تقديم حوافز تشمل تسهيلات لشركات تكنولوجيا المعلومات وإعفاءات ضريبية. 

ووعدت الحكومة هؤلاء العاملين بقطاع تكنولوجيا المعلومات بدعم الإسكان ومنح قروض بسعر فائدة أفضل، ورهونات عقارية تفضيلية، وزيادات في الرواتب، وعدم اقتطاع الضرائب على الدخل للسنوات الثلاث المقبلة. ونقلت “وول ستريت جورنال”ثس عن مجموعة من الخبراء الروس قولهم أن وتيرة هجرة العقول من روسيا هي الأكبر منذ ثورة 1917، عندما فر الملايين من النبلاء الروس وطبقات الطبقة المتوسطة العليا المتعلمة من الدولة الشيوعية الناشئة. وبينما غادر عدة ملايين من الروس بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، فإن هذه الهجرة حينها تمت على مدار عدة سنوات، وليست في وقت قصير كما يحدث حاليا.  ففي الشهر الأول من الغزو، وصل حوالى 50  ألف روسي إلى أرمينيا، وانتقلت أكثر من 250 شركة روسية إلى هناك، أي ما يقرب من ثلاثة أضعاف عدد الشركات التي تم نقلها خلال الفترة ذاتها من عام 2021، وفقا لـ”هوفسيب باتفاكانيان”، الرئيس التنفيذي لشركة الاستشارات “إنفيست إن أرمينيا”.  

وتبين نتائج استطلاعات للرأي اجرتها مراكز روسية متخصصة “أن متوسط عمر أولئك الذين غادروا البلاد كان 32 سنة، وأن 80 في المئة حصلوا على قدر من التعليم العالي على الأقل”. هذا فيما اشار 3 في المئة فقط إلى أنهم سيعودون إلى روسيا في الأشهر المقبلة، مقابل نحو الثلث لم يقرروا بعد. واعتبر المشاركون في الاستطلاعات أن معارضة الحرب والخوف من القمع وانعدام الآفاق الاقتصادية هي أسباب رئيسية لرحيلهم. 

ووفقاً لمزود بيانات التوظيف “هيد هانتر”، يفكر حوالي 40 في المئة من المتقدمين الروس لوظائف تكنولوجيا المعلومات في الانتقال إلى الخارج.  

“حان وقت مغادرة روسيا”

تضم مجموعة على “فيسبوك”، تسمى “Time to get out”، أو “حان الوقت للخروج”، حوالى 230 ألف عضو يناقشون موضوعات مثل البحث عن الرحلات الجوية والحصول على الوثائق، وتحويل الأموال إلى الخارج. ومن بين هؤلاء، رجل الأعمال المقيم في موسكو، كيريل روزكوفسكي، الذي يخطط للمغادرة وبناء شركته الناشئة التالية في الخارج، ويرى أن “السوق الروسية تقلصت وتضاءل الاستثمار الأجنبي واختفى الوصول إلى التكنولوجيا الأجنبية”، بحسب ما نقلت عنه الصحيفة، مشيرا إلى أن “الحل الوحيد هو الذهاب إلى بلد آخر”.  واشارت الصحيفة نفسها إلى أن من بين الفارين بعض كبار الأطباء الروس، مثل ألكسندر فانيوكوف، الذي ترأس قسم الجراحة في مستشفى موسكو السريري، أحد المراكز الرئيسية في العاصمة، لمرضى “كورونا”.

من السوفيات إلى بوتين

يتجه الاتحاد الأوروبي إلى الإعلان عن الحزمة السادسة من العقوبات على روسيا في إطار الضغوط لارغامها على وقف العدوان على أوكرانيا. واشار معهد «إيفو» الألماني للبحوث الاقتصادية الى أن هذه العقوبات ستحدث المزيد من الآثار السلبية على اقتصاد البلاد. وقال الخبير ستيفن ميهم، أستاذ التاريخ في جامعة جورجيا الأميركية، في تقرير نشرته وكالة «بلومبرغ» للأنباء، إنه بينما كان الرئيس بوتين يطلق معركته لاستعادة المجد السابق لروسيا من خلال تدمير أوكرانيا، بدأ شيء على القدر نفسه من الأهمية لمستقبل بلاده يتكشف في الداخل. فقد اعرب الشباب وهم أكثر الفئات الاجتماعية اهمية لروسيا عن رغبتهم في الرحيل. وأظهر استطلاع للرأي أجرى قبل الغزو الذي بدأ يوم 24 فبراير (شباط) أن 43 في المئة من الروس بين 18 و24 سنة، أعربوا عن رغبتهم في مغادرة البلاد للأبد. ومن بين هؤلاء، ذكر 44 في المئة أن الوضع الاقتصادي هو السبب الرئيسي للمغادرة. ومن المؤكد أن هذه المشاعر ستتزايد بسبب تأثير العقوبات الدولية ضد روسيا وعمليات القمع في الداخل. مع تزايد أعداد المواطنين الروس الراغبين في مغادرة بلادهم، سيواجه بوتين مأزقاً يشبه أسلافه الشيوعيين الذين عانوا خلال الحكم السوفياتي من هجرة الأدمغة. وأعاد مراقبون ومحللون الذاكرة الى القرار الذي كان اتخذه الرئيس الأميركي هاري ترومان بإصدار برنامج الهاربين للولايات المتحدة الذي استهدف المنشقين السوفيات البارزين، وقدم فيه اغراءات للمفكرين والعلماء وغيرهم للفرار من الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشيوعي في أوروبا الشرقية والقدوم إلى الولايات المتحدة والبلدان الغربية لإظهار مواهبهم وقدراتهم. وأشارت “بلومبيرغ” على سبيل المثال الى فرار حوالى 20 في المئة من سكان برلين الشرقية إلى الغرب آنذاك، “كانوا الأكثر ذكاءً والأفضل تعليماً والأصغر سناً في المجتمع الألماني الشرقي”.. 

روس يبحثون عن الخلاص في جمهوريات سوفياتية

لعل اكثر ما يثير الدهشة والسخرية في الوقت ذاته في روسيا بعد غزوها لاوكرانيا، هو ان مئات العقول الروسية طلبت الملاذ في دول الاتحاد السوفياتي السابق التي تعاني من تفاقم أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، فلقد دعا أحد أعضاء البرلمان في قيرغستان الحكومة إلى الشروع، وبشكل عاجل، بخلق فرص عمل وتخصيص مساكن موقتة لخبراء تكنولوجيا المعلومات الذين يصلون يومياً من روسيا. 

اوصل بوتين روسيا التي يصفها بـ”الدولة العظمى” الى حالة يلجأ فيها مواطنوها بخاصة نخبتها العلمية إلى طلب العيش والعمل حتى في دول فقيرة في آسيا الوسطى تصدّر عمالة مهاجرة رخيصة لمشاريع البناء ومطاعم الوجبات السريعة الروسية. 

ووفقا للخبير الاقتصادي في جامعة شيكاغو كونستانتين سونين “حوالى 200 ألف روسي فروا خلال الأيام العشرة الأولى من الغزو، إلى أرمينيا وجورجيا وإسرائيل وكازاخستان وقيرغيزستان وتركيا”. أي باختصار، إلى أي بلد يسمح للروس بدخوله دون الحصول على تأشيرة. 

هذه الموجة الجديدة من الهجرة، كانت سبقتها هجرات عدة بسبب السياسات الرعناء لنظام بوتين ومغامراته الخارجية واستخدامه أجهزة القمع الروسية لاساليب قاسية ضد المعارضة الداخلية. فعام 2014، ومع ضم شبه جزيرة القرم للاتحاد الفيدرالي الروسي حدثت هجرة ولكنها لم تكن كبيرة بالمقارنة مع الحالية، كما أن معدلاتها لم تسجل في الإحصاءات الرسمية، ذلك أن كثراً من المهاجرين احتفظوا بمنازلهم وجوازات سفرهم الروسية. إلا أن تقريرا أعدّه المجلس الأطلسي، وهو مركز أبحاث في واشنطن عام 2019، قدر حجم “الهجرة الجماعية بسبب بوتين” منذ عام 2000 بما يتراوح بين 1. 6 مليون و2 مليون شخص. استقر أكثر من نصفهم في الغرب، مستفيدين من عقود العمل وبرامج تبادل الطلاب، بينما حصل عدد كبير منهم على حق اللجوء السياسي. في الخلاصة، أدى غزو أوكرانيا عام 2022 إلى تدمير أي أمل يراود الملايين من الشباب الروسي.

إقرأوا أيضاً: