fbpx

“مو مبين عليك إنك سوري”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

عبارة “مو مبين عليك إنك سوري” هي من أكثر العبارات المحرجة في الحقيقة، فكل المعاني التي تشير إليها تلك العبارة، تجرح. فمثلاً، ما الصفات التي يبني عليها الآخرون انطباعاتهم، لتحديد ما إذا كنت سورياً أو عراقياً أو من أي مكان آخر!

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بعد أكثر من خمس سنوات على وجودي في لبنان، وإقامتي في بيروت تحديداً لأكثر من عامين، صرت أنتبه، بينما أكون ماشياً وحدي في الشوارع، أو جالساً في الأماكن العامة، إلى عادةٍ، لا أعرف كيف التصقت بي، وهي تفنيد الناس، من خلال لهجاتهم، تصرفاتهم، ثيابهم، هدوئهم، أعمالهم، وصولاً إلى مظاهرهم الخارجية. فأقول بيني وبين نفسي، ذلك عراقي، وهذا سوري، وأولئك من فلسطين، وتلك العائلة من حلب، وأخرى من الجنوب. أختبر من خلال هذه العادة، قدرتي على تمييز جنسيات الآخرين، من خلال ما ذكرته. وربما لا يكون هذا بالأمر المستحسن من الناحية الأخلاقية، فجميع الناس “خير وبركة” وكلنا أولاد تسعة. لكن هذه العادة لا تتجاوز فكرة تزجية الوقت. وبعيدة جداً من التصنيف. لذلك قد أُخطئ أحياناً، وقد أصيب أحياناً أخرى. لكن في نهاية الأمر، صرت من خلال علامات معينة أتمكن من معرفة الأشخاص من حولي، من أي بلد جاؤوا. وربما تكون بيروت، التي اعتادت طوال عهدها، أن تكون موطئاً لأي قدم غريبة أو لاجئة، هي التي أثارت في داخلي هذه العادة، على إثر الخليط الهائل من البشر، الذي يمكنك أن تشاهده عند مرورك في شارع واحد، أو جلوسك في مطعم ما.

قد يفكر البعض، ما الدافع الكامن وراء كتابتي عن ذلك، وقد لا يكترث آخرون. لكن المثير في الأمر بالنسبة إلي، هو ما يقوله لي أحدهم، حين يدور بيني وبينه حديث عابر، سواء في سيارة الأجرة أو في أي مكان آخر، يسألني مباشرةً، “من وين حضرتك”، لأجيبه: من سوريا. فينظر إلي نظرة جانبية ويقول: مع أنو مو مبين عليك!

ألتزم الصمت، وأفكر: هل هذا جيد أم لا؟

عبارة “مو مبين عليك إنك سوري” هي من أكثر العبارات المحرجة في الحقيقة، فكل المعاني التي تشير إليها تلك العبارة، تجرح. فمثلاً، ما الصفات التي يبني عليها الآخرون انطباعاتهم، لتحديد ما إذا كنت سورياً أو عراقياً أو من أي مكان آخر!

ربما تكون هذه الصفات هي نفسها، التي على أساسها أقوم أنا بتفنيد الأشخاص كما ذكرت في بداية هذا المقال. 

هنا نجد أنفسنا في دوامة، تفضح هشاشة انتمائنا، الذي تشوه لدرجةٍ جعلتني أرتبك جداً أمام سؤالٍ، طرحه علي أحد الأصدقاء: “بتحس حالك عندك هوية ثابتة؟!”. 

العلامات المميزة… 

لم تعد عبارة “خال على الذقن” أو عبارة “وحمة في الوجه” أو مثلاً “جرح في الجبين” من العبارات التي تشير إلى علامات مميزة. لقد تجاوزناها إلى ما هو أبعد من أن يُرى. ولكي تعرف أن فلاناً سوري، ليس عليك سوى أن تلاحظ  بعض الأمور الدقيقة. فلقد قرأت منذ فترة قريبة، منشوراً لأحد الأصدقاء على “فيسبوك” وهو سوري يقيم  في ألمانيا، يقول فيه: إنك تستطيع أن تعرف السوري في أوروبا، من خلال الطريقة التي يتلفت بها من حوله.

هناك أمور كثيرة، تجاوزت المظهر الخارجي، والدم، وطريقة الهندام، تدل على صاحبها من أين ينحدر، ولا يختلف عاقلان يعيشان في المناطق العربية، على أن هذه العلامات هي أول ما يلجأ إليها البعض، لتحديد جنسية الآخرين، فمثلاً، صاحب سيارة الأجرة، حين سألته “كيف لازم كون ليبين عليي سوري؟”. قال : “بالعادة بس يطلع معي سوري، بكون كتير متلبك، وأول شغلة بيطلبها بس يركب، أنو ما نمرق على الحواجز”.

تخيلوا الخوف الذي صار من علاماتنا المميزة، الارتباك، والتزام الصمت في معظم الحوارات مع الغرباء.

رهانٌ ودي خسرناه جميعاً

دخلتُ منذ فترة قصيرة في رهانٍ مع أحد الأصدقاء، هنا في بيروت، وهو أن نسأل كل شخص نشاهده يحمل حقيبة في الشارع، إن كان سورياً أم لا، إذ كنا في حديث عن أن السوري غالباً ما تعرفه من حقائبه، التي تنتقل معه من مكان إلى آخر، وطبعاً، إن الحديث هنا بعيد من التعميم، وأقرب ما يكون إلى تسليط الضوء على أحد الثيمات التي تدل علينا نحن السوريين، الحقائب. وقد لاحظنا بعد عدد لا بأس به من الناس الذين سألناهم، أن سبعة أشخاص من أصل عشرة، كانوا فعلاً سوريين. وكان الحديث هنا، عن الحقائب المحمولة على الظهر، وأغلب حامليها، كانوا يضعون فيها ثياب نومهم، لأنهم على حد تعبير أحدهم، كل يومين أو ثلاثة، ينامون في  مكان مختلف. فمرة عند أحد الأصدقاء، ومرة عند أحد الأقارب، ومرات في أماكن عملهم.

ربما جاءت هذه النسبة مصادفة، لكننا لم نتمكن لا أنا ولا صديقي من أن ننكر، أن الحقائب هي من العلامات الأكثر دلالة على السوري خارج سوريا… وداخلها. 

النسيان ليس سهلاً والزمن لم يعد كفيلاً

في تتمة جولتنا، أنا وصديقي، الذي كان وقتها من الواصلين حديثاً إلى بيروت، جلسنا إلى كرسي على الكورنيش البحري، وحاولت تشغيل أغنية لنسمعها مباشرة من “يوتيوب”، لكن الشبكة كانت ضعيفة، فقال لي إنه سيشغلها من عنده، لأن لديه خطين في هاتفه، أحدهما “سيرياتيل” والآخر “MTN”، وهما شركتان سوريتان. فنظرت إليه وقلت له “شكلك نسيت إنك صرت برا سوريا”. فما كان منه إلا أن ضرب بيده على رأسه متذكراً، إذ انتبهنا معاً، بينما نضحك بحسرة واضحة، إلى أنه يحمل حقيبة صغيرة في يده “حقيبة يد” يُطلق عليها في سوريا اسم ساخر”حقيبة الشب السوري”. يضع فيها كل حياته، بكل ما تحمله كلمة حياة من أوراق ثبوتية. هوية شخصية، بطاقة ذكية، دفتر خدمة العلم، صور شخصية، وثيقة مصدقة لتأجيل الخدمة، دفتر العائلة، فواتير الكهرباء والماء، وكالات شخصية ووكالات عامة عن أشخاص وأقرباء يعيشون في الخارج، وشرائح متعددة للاتصال… فسألته، “بما أنني أعرف قصة هذه الحقيبة وما تحتويه: ليش حاملها معك هون ومغلب حالك فيها؟”. فأجاب بأنها صارت قطعة من جسده، لا يستطيع الخروج من البيت بدونها، رغم أن كل ما يحتاجه منها في بيروت، لا يتعدى هويته الشخصية، وبطاقة إقامته الموقتة. 

إقرأوا أيضاً: