fbpx

حمّى الشهرة السلبية: عن تفاهة “العالم الأزرق”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

انتشرتْ في السنوات الأخيرة ظاهرة الشهرة السلبية، وهي التي يحقق جمع كبير من خلالها شهرة نسبية يلتفّ حولها بعض المراهقين أو بعض الشباب من الذين يعيشون في “العالم الازرق”. هل هذه حرّيتهم؟ نعم، لكن هواءهم الملوّث في عمق سمائنا، لذلك نعترض؛ لنحمي طيورنا.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“هناك شخص سرّي سليم في كل فرد”- بول شيبارد

لمّا اتّفقت المجتمعاتُ على سبر غور الحرّية الشخصية ومنح الفرد صلاحية مطلقة أو محدودة في ممارستها؛ لم يكن في خلفية ذلك التغيير إلّا أن تتوقف حرّية الفرد عند المساس بحرّية الآخرين. إنها تلك المنطقة الرمادية التي يتحسّسها ضمير الفرد بشفافية عالية أو بتجاهل سافر.

انتشرتْ في السنوات الأخيرة -بمساعدة السوشيال ميديا- ظاهرة الشهرة السلبية، وهي التي يحقق جمع كبير من خلالها شهرة نسبية يلتفّ حولها بعض المراهقين أو بعض الشباب وحتى بعض “المتصابين”، من الذين يعيشون في “العالم الازرق” ذلك؛ متجاهلين ذلك الشخص السرّي السليم في دواخلهم. هل هذه حرّيتهم؟ نعم، لكن هواءهم الملوّث في عمق سمائنا، لذلك نعترض؛ لنحمي طيورنا. 

هكذا يبدأ الامر، يقرّر “الباحث عن الشهرة” باختيار تفصيلة معيّنة يمرّر من خلالها خبراً أو يصنع خبراً كي يقدّمه على منصّات التواصل الإجتماعي وينتظر التفاف الآخرين حولها، وكلّما كان الخبر او مقطع الفيديو ساذجا أو عنيفا؛ كلّما كان مثيرا للاهتمام! 

لا شكّ أننا لا نتحدّث الآن عن الأفراد أصحاب المنصّات التوعوية التي تقول للمرء “قف قليلا، راجع الأم، تمعّن فيه، ثم اتخذ قراراً يصدر من رأسك، لا تطع الجماعة لأنها جماعة فقط”… بل نحن نتحدّث عن الأفراد الذي قرّروا تجاهل الموازنة بين الشهرة و(الأمور) الشهيرة، ظنّا منهم – أو إيمانا- بأنها ستمنحهم مفاتيحَ أبواب أخرى لا يمنحها وعي المرء أو إدراكه السليم. إنّ ممارستهم لتلك الحرية لهي أيضا تخريب وتشويه للعقول البيضاء التي ما زالت تتحسّس طريقها لتفهم مسالك الحياة وطرقها المعقّدة في التنوير. 

ما زاد الطين بلّة؛ أن كل ذلك التخريب يصبح بعد وقت قصير عُرفا اجتماعياً يجري عليه الحدث ويُقارن به الحديث، بينما تشارك البيئة الاجتماعية وتتناقل مقاطع الفيديو -المسيئة أو السامّة أو العنيفة أو التي لا تستحق الإشارة- بأساليب تهكّمية أو بسخرية علنية أو بتنمّر منظّم وغيرها- لكنّ الدعاية السلبية هي دعاية في آخر الأمر، نحن حين نشاركها نُساهم -مهما اختلفت النوايا- بشكل أو بآخر في تفشّي وباء انتشارها، في حين أنها ستنتهي بعد سويعات إذا جرى تجاهلها حتى تبرد ويُنسى أمرُها.

من نافل القول إن تأثير الجماعة على الفرد أقلّ من تأثير الفرد على الجماعة، وإن هذا التقليد غير المسؤول له تداعيات خطيرة على شريحة كبيرة تميل الى التقليد الهادم لا إلى الخلق البنّاء. وما يعزّز ذلك خوف الفرد من ردّ الفعل لو عارضَ الرأي الجمعي حول مسألة ما، وإن كانوا يتفقون معه سرّاً، لكنهم غير ذلك في العلن. إنّه سعي الطبيعة البشرية الى إرضاء مَن حولها، من خلال الميل الى الاتفاق مع الرأي العام تجنّبا لخسارة المؤازرة أو تحسّبا مِن أن يُرى مختلفا أو شاذّا.

لا شكّ أنّ سيطرة الوعي الجمعي تلك تهزّ وعي الفرد -المتشكّك- بتهديده بمنطقة السلام مع الاخرين وتطعن توافقه معهم. هذا ما يُخرجه من “المنطقة الآمنة” للحديث والتعبير عن تحفّظاته تجاه ما يراه مسيئا للمجتمع، فلا يشير الى دودة الحائط، بل يميل الى صبغ آثارِ سيرها مرّة بعد مرّة حتى يتهدّم الحائط على رؤوس المؤيدين. ذلك ما عزاه غوستاف لوبون الى امتناع الفرد عن التفرّس في طبيعته ومراجعته لها حين قال “إنّ انعدام الروح النقدية لدى الفرد لا تسمح له برؤية تناقضاته”، فهو رافض لهذه الحال لكنه منساق مع الجماعة!

لذلك تخلق عند الفرد -الذي يسير بخطوة مستقلة- مناعة ذاتية عن التأثّر بالفكر الجمعي، فنرى الكثير من المؤيّدين لنظرية تجاهل ذلك الهذر، لأن الأذن ستكفّ عنه بعد قليل، فإنْ أشرتَ؛ قدِ اعترفتَ بوجوده وصرّحتَ بأحقيته في البقاء، فلماذا تنبّه إذاً، إلى طنينِ ذبابة مغادر؟! 

ورغم أن الفرد لا يستطيع أن يفعل شيئاً لوحده؛ لكنّه يستطيع أن يبقى محافظاً على منطقته الخاصة من دون أن تمسّها رياح صفراء، حتى يصبح الفرد ذلك مجموعة تشكّل محورَ تأثير ربّما ولو على المستوى البعيد، بغير مناعته تلك فإنّ (الفرد القوي يضيع بين الضعفاء إلى أن يصبح ضعيفا مثل باقي البشر) كما يشير احسان عبد القدّوس. 

قد نتّفق أو نختلف في طريقة معالجة هذه الرثاثة المجتمعية التي تنخر الوقت والفكر وتستبدل نباتات صالحة بأدغال سريعة التكوّن تسيء الى حقّ المرء في تطوّر وعيه مهما بلغَ، لكنْ لا أظننا نختلف حول أن هناك مَن يبحث عن مكانته الشخصية من خلال مكانة الآخرين في السياق الاجتماعي وإنْ كانت مكانةً هشّة أو مرقّعة. هذه العلاقة التفاعلية – بين الفرد “المشهور باللاشيء” أو “صاحب المحتوى الفارغ” وبين الجماعة- تمنح اليد العليا للبحث عن أجوبة جاهزة عند غير المحصّن بوعي كافٍ لمقاومتها وعدم الانسياق معها. إنّها حاجة للإشباع الذاتي بالقرب من شخصية معروفة يستمدّ منها وجوده ويتعكّز عليها في سلوكه. 

سطوة الاسم تلك تسيء إلى الذائقة العامة، سواء في الأدب والفن أو في المجتمع وغيره. نعم، يدٌ واحدة لا تصفّق، لكنّ باستطاعتها صنع بعض الضجّة، فلنصنع إذن بعض الضجّة، ولنختلف قدر ما شئنا -في طرق التعبير السليمة أو الاعتراض البنّاء- حول ذلك الأمر، المهم أن تصبّ سواقينا أخيرًا في نهر عذب وأن تطير طيورنا في سماء آمنة. 

إقرأوا أيضاً: