fbpx

لا كهرباء ولا إنترنت… لبنان والطريق الطويل
إلى رقمنة القطاع العام ومكافحة الفساد

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يأتي لبنان في المركز الـ154 من أصل 180 دولة في ما يتعلق بالفساد عام 2021، وفقاً لمنظمة الشفافية الدولية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كلّ من اضطر للتعامل مع الإدارات الحكومية والمؤسسات العامة في لبنان يعرف يقيناً أن الممارسات المتبعة في طريقة إنجاز الأعمال ومعالجة البيانات، باتت قديمة ومرهقة، فضلاً عن سهولة رشوة جزء من الموظفين الحكوميين لتسريع الإجراءات التي يجب أن تتم بشكل أسرع من البداية. 

 شهدت السنوات الأخيرة، تطوير مبادرات لرقمنة البيانات العامة لا لجعل الوصول إلى الخدمات العامة أكثر كفاءة، وحسب،  ولكن أيضاً لمكافحة الفساد المنهجي المتفشي في البلاد. يسعى النشطاء وموظفو الخدمة المدنية وأعضاء المنظمات غير الحكومية جاهدين من أجل التحول الرقمي في لبنان، فيما تمر البلاد بواحدة من أخطر الأزمات في تاريخها.

إذا كان عليك التعامل مع المؤسسات الحكومية في الآونة الأخيرة، فأنت تعلم أن الأمور أخذت منعطفاً نحو الأسوأ منذ بداية الأزمة. يلخص أحمد المشهد، ووظيفته هي التعامل مع الإدارات الحكومية نيابة عن العملاء، قائلاً “لا كهرباء، ولا إنترنت، والخوادم لا تعمل، ولا ورق ولا أقلام، وغالباً ما يكون الموظفون في إضراب”.

وحتى قبل الأزمة، كانت كمية الوثائق والأعمال الورقية المطلوبة لتخليص أي معاملة مهولة. علاوة على أن المراسلات بين الإدارات تتسم بالبطء، نظراً إلى أن عملية التواصل غالباً ما تتم عبر الفاكس أو البريد السريع.

هذا الوضع ليس بسبب عدم وجود خطط لتسهيل الإجراءات، من خلال رقمنة القطاع العام.

يوضح محمد نجم، مدير منظمة “سمكس”، وهي منظمة غير حكومية تدافع عن الحقوق الرقمية للمواطنين في الشرق الأوسط، أن “الفكرة من وراء رقمنة القطاع العام هي تسهيل جميع أنواع العمليات المختلفة بين الأفراد وهيئات القطاع العام. وجعل حياة الناس أسهل. فبدلاً من الذهاب إلى الضمان (الضمان الاجتماعي) والانتظار في الطابور لساعات طويلة، يمكنك القيام بهذه الإجراءات عبر الإنترنت”.

في أوائل حقبة التسعينات، وضع لبنان سلسلة من الاستراتيجيات الرامية إلى إنشاء حكومة إلكترونية وتطبيق تحول رقمي حقيقي لإدارة البلاد. وفي أيار/ مايو 1997، تأسست اللجنة الوزارية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات لمناقشة الاستراتيجيات التي يجب اعتمادها من أجل تنفيذ الحكومة الإلكترونية. وقامت اللجنة، بالتعاون مع مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية، بصياغة سلسلة من خرائط الطريق والاستراتيجيات. بيد أن الأمور ظلت على ما هي عليه حتى عام 2018 حين طور مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية استراتيجية تحول رقمي لإعادة النظر ليس في طريقة عمل الحكومة وحسب، لكن أيضاً في الإجراءات والمؤسسات ومهارات الموظفين. 

غير أن واقع الأمر هو أن مجلس الوزراء لم يُنفذ على الإطلاق أياً من هذه المبادرات التي كان يمكن أن تُحدث تغيراً جذرياً في أداء الإدارة اللبنانية. وعندما سألت جيسيكا الشمالي، نائبة المدير التنفيذي لـ”المفكرة القانونية” والحاصلة على زمالة “مجتمع موزيلا”، عن السبب، قيل لها إن المناخ السياسي لم يكن مناسباً على الإطلاق.

تقول جيسيكا الشمالي، “لم يتم حتى وضع الاستراتيجيات المختلفة للحكومة الإلكترونية أو التحول الرقمي على جدول أعمال مجلس الوزراء. ولهذا السبب هناك مشاريع كثيرة بدلاً من استراتيجية حقيقية يتبناها مجلس الوزراء”.

وأعربت عن عدم وجود إرادة سياسية من المسؤولين لتنفيذ التحول الرقمي. نظراً إلى أن تبسيط الإجراءات الذي ينطوي على هذه العملية، إضافة إلى شفافية وضع البيانات على الإنترنت بدلاً من كتابتها بخط اليد، لن يكون في مصلحة مختلف الوزارات والنخبة السياسية والاقتصادية.

فساد على أعلى المستويات

تقول الشمالي، “إن وجود نظام معقد يفتقر إلى التنسيق من شأنه أن يسهل الفساد والتدخل السياسي. فضلاً عن أنه يسهل تجاوز الرقابة والإشراف على ما يحدث في الوزارات. ولهذا السبب يحصل مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية على تمويل لتقديم الخبرات التقنية، بيد أن الوزارات المسؤولة عن التنفيذ لا تتبع توصياته. حتى إن تمويل التحول الرقمي لم يُدرج في الميزانية الوطنية”.

تتطرق سلام يمّوت التي عملت منسقة لاستراتيجية تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في مكتب رئيس الوزراء بين عامي 2010 و2016، إلى المسالة من منظور أعمق:

“أكبر فساد في البلاد يحدث في اجتماعات مجلس الوزراء. فالمجلس هو هيئة قادرة وقوية، يُتخذ من خلاله الكثير من القرارات بما في ذلك تخصيص الأموال، أو منح العقود، أو حتى تجاوز القوانين، وهو أمر غير دستوري. ويمكن وصف مجلس الوزراء بأنه صندوق أسود مغلق، حيث تجتمع مجموعة من الرجال حول الطاولة، وجميعهم لديهم انتماءات سياسية، ويمارسون أعمالهم التجارية علناً من خلال قرارات صادرة عن مجلس الوزراء دون مراقبة أو إشراف”.

يأتي هذا الفساد بتكلفة باهظة للغاية، وهي إهدار 10 مليارات دولار سنوياً وفقاً للأمم المتحدة، 5 مليارات دولار، بسبب سوء تخصيص الأموال العامة والعائدات المحدودة على الاستثمارات، و5 مليارات دولار أخرى، بسبب ضياع الفرص الاقتصادية المرتبطة بهروب رؤوس الأموال وعزوف المستثمرين المحتملين. 

للتوضيح، تمثل الـ10 مليارات ما يقرب من 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد عام 2018 (قبل الأزمة)، و50 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد عام 2021، بعد عامين من الأزمة.

 ويأتي لبنان في المركز الـ154 من أصل 180 دولة في ما يتعلق بالفساد عام 2021، وفقاً لمنظمة الشفافية الدولية.

بعض الجهود نحو الرقمنة

على رغم ذلك، حققت بعض الوزارات والإدارات مستوى معيناً من الرقمنة والشفافية: فالأمن العام، حيث تجرى معظم العمليات رقمياً، من أبرز الأمثلة، وكذلك وزارة المالية؛ حتى اندلاع الأزمة، كان بإمكانك الإفصاح عن ضرائبك ودفعها عبر الإنترنت. وفي السنوات الأخيرة، وضعت وزارة الصحة العامة سلسلة من الإجراءات لجعل خدماتها العامة متاحة على الإنترنت. وأنشأت البرنامج الوطني للصحّة الإلكترونية، وهو تطبيق يسهل عملية طلب الخدمات من وزارة الصحة العامة، إضافة إلى تطبيق “معاً” الذي تم إطلاقه في بداية جائحة “كورونا” لمنع انتشار الفايروس.

تقول الشمالي، “استغرق الأمر من وزارة الصحة العامة عقداً من الزمن للوصول إلى هذا المستوى من الرقمنة، لكن لا أحد يستخدم هذه الأدوات فعلاً”. مضيفةً، “وعندما تسألهم لماذا لا يستعملها أحد، فإنهم يعتقدون أن الناس ربما لا يعرفون عنها. وربما نحتاج إلى زيادة الوعي بشأن هذه التقنيات أو القيام بحملات وطنية”.

غير أن ما نحتاج إليه هو مستوى معين من التنسيق بين الإدارات من أجل ضمان تحول رقمي فعال حقيقي في البلاد. يقول عبد قطايا، مدير المحتوى الرقمي في منظمة “سمكس”، “إذا كنت ترغب في رقمنة القطاع العام، فيجب أن يتم ذلك في إطار استراتيجية كبيرة. وليس مجرد ممارسات بسيطة هنا وهناك، وهو ما يحدث الآن”.

تؤكد يمّوت أن التنسيق يتعسر بسبب غرور الموظفين الحكوميين، مضيفةً أن “كل وزارة تعتقد أنهم معينون من الله”. وقد تمكنت منصة “إمباكت” (IMPACT)- “منصة البلديات المشتركة للتقييم والتنسيق والمتابعة”- من إحداث فرق حقيقي في هذا الصدد: فقد تمكنت من الربط بين مختلف الوزارات، والمنظمات الدولية، وكذلك المواطنين، الأمر الذي سمح بعملية رصد شاملة من قبل التفتيش المركزي ومساءلة القطاع العام.

تجربة “منصة إمباكت”

في بداية جائحة “كورونا” عام 2020، أصبحت منصة “إمباكت” مألوفة للأشخاص المقيمين في لبنان. بيد أن قلة من الناس يعرفون أن “إمباكت” كانت مصممة في الأصل كأداة للمراجعة والتدقيق، وليس منصة للحكومة الإلكترونية: فقد كان التفتيش المركزي يفتقر إلى الموظفين- ولا يزال كذلك، لأن عملية التوظيف مسيسة للغاية- ويحتاج إلى أداة لمساعدة المفتشين على أداء عملهم.

ولذا انطلقت منصة “إمباكت” في نهاية عام 2019، كوسيلة لزيادة التعاون بين الإدارات.

وعندما بدأت الجائحة، تحولت من أداة داخلية (خاصة) إلى أداة خارجية (عامة)، واستُخدمت لمراقبة عدد الحالات التي ما زالت مصابة، وحالات دخول المستشفيات، ثم لمنح التراخيص الشخصية أثناء عمليات الإغلاق.

يقول القاضي جورج عطية، رئيس التفتيش المركزي منذ عام 2017، “كانت هذه هي المرة الأولى التي يحصل فيها المواطنون على خدمة عامة من خلال هواتفهم المحمولة”.

وعندما بدأ برنامج التطعيم بعد عام، لجأت وزارة الصحة العامة إلى منصة “إمباكت”، حيث كان لديها مئات الآلاف من اللقاحات لتوزيعها في ظل رقابة صارمة من البنك الدولي، ولا توجد وسيلة للقيام بذلك.

توضح كارول شرباتي، مديرة شركة “سيرين”، وهي الشركة المسؤولة عن تطوير منصة “إمباكت”، “كانت الفكرة هي رقمنة العملية برمتها من البداية إلى النهاية”. مضيفةً “في ما يتعلق باللقاحات، فهذا يعني تنظيم الأشخاص الذين سجلوا، واتباع المعايير التي وضعتها وزارة الصحة العامة لتحديد من له الأولوية لتلقي التطعيم ومتى، وإرسال الرسائل القصيرة لتذكير المواطنين بحجز مواعيد التطعيم، وتنسيق المواعيد، ووضع جداول زمنية مع المستشفيات، وتلقي التطعيمات فعلياً، وأخيراً إصدار الشهادات. عند رقمنة العملية بأكملها، هناك إمكانية للمراجعة الفورية في الوقت الفعلي. وهو ما يؤدي إلى الشفافية والمساءلة داخل الإدارة العامة”.

النزاهة بفضل التصميم

ما فعلته منصة “إمباكت”، نظراً إلى أنها كانت أداة مراجعة وتدقيق، هي أنها دمجت بعض مبادئ الحكم الرشيد في تصميمها. وهذه المبادئ الخمسة، التي قررها القاضي عطية، هي الإنصاف والشفافية والمساءلة والخصوصية والأمن.

من وجهة نظر تقنية ومن حيث التصميم، هناك فكرة النزاهة بفضل التصميم التي تبدو جلية في جميع أعمال شركة “سيرين”. تقول شرباتي، “دائماً ما أقدم هذا المثال لتوضيح المسألة، إذا كنت أريد أن أجعل هذا الطريق أحادي الاتجاه. فإذا وضعت علامة “قف”، فسيظل الناس يسيرون عكس الاتجاه. وإذا وضعت شرطياً لإرغام الناس على الالتزام بعلامة التوقف، فسوف يتجاهل الناس الشرطي أو يقدمون له رشوة وسيستمرون في السير عكس الاتجاه. لكن إذا وضعت كتلة خرسانية، فلن يتمكن الناس من السير عكس الاتجاه. وهذا هو المقصود بالنزاهة بفضل التصميم. إذ إنك تتحكم في سلوك الموظفين الحكوميين من خلال النظام والقدرة على الوصول التي تمنحهم إياه”.

فضلاً عن أنها تُمثل طريقة لحماية الموظفين الحكوميين، تقول شرباتي، “الأمر ليس سهلاً على الأشخاص الذين يعملون داخل الإدارات، إنهم يتعرضون لضغوط كبيرة، لأن المواطنين اعتادوا على الفساد لتحقيق غاياتهم. ولكن عندما تقدم لهم نظاماً لا يسمح لهم بالتحايل عليه، عندئذ يمكنهم إلقاء اللوم على النظام، ويمكنهم القول إن النظام لا يسمح لهم بذلك”.

ليس نظاماً مثالياً لأنه يفتقر إلى الإطار التنظيمي

منصة “إمباكت” لا تنجو من الانتقاد، على اعتبار أنه ليس نظاماً منيعاً.

تعلق شرباتي، قائلةً “بالطبع كانت هناك عمليات احتيال، ولكن ما هي نسبتها؟ 10-20 في المئة؟ أليس أفضل من 90 في المئة؟”.

ثمة أيضاً قلق بشأن أمن البيانات، على رغم أن الأشخاص في شركة “سيرين” يؤكدون أنه تم اتخاذ جميع الإجراءات لتأمين المنصة: مثل مفاتيح التشفير المزدوجة، وجدران الحماية، و بحسب قول شرباتي “نحن نتبع النظام الأوروبي العام لحماية البيانات”.

بيد أن الجدل الرئيسي المثار يدور حول من يمتلك البيانات. رسمياً، جميع البيانات التي تم جمعها عبر منصة “إمباكت” تخضع لإشراف التفتيش المركزي.

يقول محمد نجم، “دور التفتيش المركزي هو الإشراف على المؤسسات العامة الأخرى”، مضيفاً أنه “ليس من الجيد أن تكون نفس الوحدة التي تقوم بجمع البيانات، هي في الوقت نفسه المسؤولة عن الإشراف على الهيئات الأخرى. إذ لا يمكنك القيام بذلك وفقاً لمعايير حماية البيانات”.

يجيب عطية على هذا النقد بأنه جزء من مهمته، قائلاً “إذا أمعنت النظر في اختصاص التفتيش المركزي، فنحن لسنا فقط هيئة تأديبية، بل من حقنا وواجبنا تسهيل العمليات الإدارية في الإدارة اللبنانية، والتنسيق بين هيئات عدة. ومن حقنا وواجبنا أيضاً تقديم المشورة للسلطات الإدارية”.

ومن أجل القيام بذلك، فإنهم بحاجة إلى بيانات. ويوضح عطية أن “الأسماء التي نجمعها ليست مهمة، بل المهم هو الأرقام والأعداد، والبيانات التي ستدفع صانعي القرار إلى اتخاذ قرارات استراتيجية جيدة. هذا هو ما نعمل ونتطلع إليه. وهنا تكمن مسؤولية التفتيش المركزي”.

وما يجعل الأمور أكثر تعقيداً هو أنه لا يوجد في لبنان قانون خصوصية للبيانات العامة. وفي حين يوجد قانون للمعاملات الإلكترونية يعود لعام 2018، يحمي البيانات من القطاع الخاص. لكن في الوقت الحالي، لدى الحكومة مطلق الحرية لفعل ما تريد بالبيانات العامة.

وهنا تكمن المشكلة. يوضح محمد نجم قائلاً، “اليوم، إذا سربت منصة “إمباكت” البيانات، فلا يمكنك مقاضاتها، لأن القانون اللبناني لا يسمح لك بذلك”. مضيفاً “وحتى لو اتبعوا لوائح النظام الأوروبي العام لحماية البيانات، فنحن لسنا دولة أوروبية، لذا لا يمكننا فعل أي شيء من الناحية القانونية”.

بعض التقدم قيد التطوير

تسعى الجهات الفاعلة في هذا القطاع إلى إجراء نقاش حول البيانات العامة والخاصة.

لا سيما أن لدينا قانوناً “الحق في الوصول إلى المعلومات”، القانون رقم 28، منذ عام 2017، والذي بإمكان المواطنين استخدامه لمحاسبة الحكومة. ويسمح للمواطنين بطلب المعلومات من الدولة، ويفرض على الدولة نشر قراراتها وبياناتها المالية والإدارية. على الرغم من أن القليل من مؤسسات الدولة تلتزم بهذا القانون.

 يرى أسعد ذبيان، المدير التنفيذي ومؤسس “مبادرة غربال“، أنه من خلال نشر البيانات عبر الإنترنت، بإمكان المجتمع بأكمله أن يكون جزءاً من عملية الرقابة.

يقول ذبيان، “إن إتاحة البيانات هي الخطوة الأولى في محاولة إيجاد حل للفساد ومحاسبة المسؤولين الحكوميين. لكن مجدداً، ينطوي ذلك على معضلة كبيرة، ونحن بحاجة إلى جميع الأطراف من أجل نجاح هذا الأمر. نحن بحاجة إلى القضاء والنشطاء والصحافيين وكاشفي الفساد. يجب على الجميع العمل معاً”.

بيد أن تطبيق القانون ليس ساري المفعول بعد، وغالباً ما لا تستجيب إدارات الدولة لطلبات الحصول على المعلومات، أو ترفض الطلبات دون إبداء أي مبرر حقيقي. فقد كشفت “مبادرة غربال” في أحدث تقرير لها أن نصف الهيئات الحكومية التي شملها الاستطلاع حول نفقاتها المالية لعامي 2018 و2019 شاركت بمستويات متباينة من المعلومات. وعلى هذا، تلقت “مبادرة غربال” 95 رداً من أصل 200 طلب قدمتها، و41 منها فقط في غضون المهلة القانونية.

وعلى رغم عدم الامتثال للقانون، يصف أسعد ذبيان حدوث تطور إيجابي، إذ تضاعف عدد الردود مقارنة بالسنوات الأخرى.

“لم يقتصر الأمر على تلقي المزيد من الردود فحسب، بل صارت جودتها تتحسن على نحو أكثر. على سبيل المثال، قبل بضع سنوات، كان حلماً بالنسبة إلينا أن تقدم الإدارة قائمة بالمقاولين التي تتعامل معهم. والآن أصبح لدينا قائمة تضم أكثر من 60 ألف عقد تبلغ قيمتها 4 مليارات دولار”.

الفساد الصغير مقابل الفساد الكبير

تكمن المشكلة في أن كل هذا يحدث على مستوى ما يسمى بالفساد الصغير. بيد أن معظم الفساد يحدث على مستوى آخر، وهو مستوى أعلى، لا سيما في قطاع الجمارك والمشتريات. إذ يقدر حجم الخسائر بنحو مليار إلى ملياري دولار سنوياً بسبب التهرب من دفع الرسوم الجمركية في لبنان، خصوصاً في المرافئ.

أما في ما يتعلق بالمشتريات، فقد قدرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن 57 في المئة من قضايا الفساد في جميع أنحاء العالم ترتبط ارتباطاً مباشراً بصفقات المشتريات. ولا يخفى على أحد أن المشتريات العامة في لبنان كانت بوابة رئيسية للفساد بسبب غياب المنافسة والشفافية.

أقر لبنان عام 2021 قانون مشتريات جديد طال انتظاره، وكان هذا القانون مدرجاً على قائمة الإصلاحات الهيكلية اللازمة لضمان الإدارة المالية.

فقد باتت عمليات الشراء الآن تتم بطريقة لا مركزية، وتتولى سلطة مركزية تنظيمها وتمارس الرقابة عليها. غير أن المشكلة هي، كيف يمكنك تنظيم المشتريات بين أكثر من 1100 بلدية ومئات الإدارات العامة، إذا لم يكن لديك نظام رقمي؟

ولهذا السبب يقول عطية، “لا يمكننا قبول نظام لقانون مشتريات عامة جديد دون وجود منصة الحكومة الإلكترونية تحت إشراف التفتيش المركزي. في رأيي، أعتقد أن الطريقة الصحيحة هي أن يكون لدينا منصة مركزية يمكن أن تمتلكها وتستخدمها سلطة مركزية لكي تتمكن من الاضطلاع بالمهمة التي أسندت إليها، ويمكن أن يستخدمها أيضاً التفتيش المركزي للقيام بدور الرقابة والمراجعة في الوقت الحقيقي”.

تعتقد شرباتي أن تجربة منصة “إمباكت” يمكن أن تساعد في محاربة الفساد الكبير، “لقد تعلمنا كيفية تصميم عملية من أجل الحد من عمليات الاحتيال: النزاهة بفضل التصميم، وفصل السلطات، وكيفية التحكم في سلوك المستخدمين من خلال منحهم بعض الصلاحيات دون غيرها، والشفافية، وإتاحة البيانات للجمهور، وما إلى ذلك”.

طريق طويل أمامنا

أعربت جميع الجهات الفاعلة التي أجريت معها مقابلات أثناء إعداد هذا المقال، أن التحول الرقمي للقطاع العام سيحدث لا محالة، لأن هذا هو التوجه الذي يتبناه العالم. لكن بأي وتيرة؟ لا أحد يستطيع الجزم بذلك.

أما بالنسبة إلى الأشخاص الذين يتعاملون مع الإدارة الحكومية على أساس يومي، فإن الأمور بالتأكيد لا تبدو واعدة، يقول أحمد “لقد ازداد الفساد سوءاً. فقبل الأزمة كان بوسعك الحصول على حقوقك دون اللجوء إلى دفع رشوة في كل مرة. أما اليوم، يتعين عليك دفع رشوة للموظفين الحكوميين بسخاء، وخلال كل خطوة لمجرد الحصول على حقوقك”.

على رغم أن هذا لا يردع الأشخاص الذين يعملون في الصفوف الخلفية. على العكس من ذلك، تعتقد شرباتي أن “ضعف الدولة اليوم يشكل فرصة سانحة، لأن السياسيين لا يملكون الوسائل التي تتيح لهم التأثير على القرارات”. لهذا السبب توجد شبكة “دعم” للحماية الاجتماعية، وهي البرنامج المعني بالبطاقات التمويلية التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية، على منصة “إمباكت”، لأن البنك الدولي، الذي يمول البرنامج، يضغط على الحكومة.

وتضيف، “لقد تمكنا من استخدام التكنولوجيا من أجل الصالح العام، وهذا لم يحدث من قبل في لبنان. يعتقد الأشخاص الذين يأخذون بزمام السلطة أن كل شيء يحدث على المستوى السياسي، لكن السياسة تقود إلى طريق مسدود. نحن نحتاج إلى بناء مؤسسات، وهذا عمل مروع، لأنه يتطلب ملايين العمليات، والبرمجيات، والأنظمة، والتدريب، والكفاءات، لبناء نظام يعمل على نحو صحيح”.

ولهذا السبب يساور محمد نجم القلق، قائلاً، “لن يكون الأمر سهلاً، ولا أعتقد أن هذا الجيل من موظفي القطاع العام سيكون قادراً على تطبيق هذا التحول الرقمي، فهم بالكاد يستطيعون استخدام أجهزة الكمبيوتر. إنه مشروع كبير. وسيستغرق الأمر بعض الوقت”.

بيد أن عطية يبدو على قدر كبير من الثقة. إذ يصف حدوث تغيير حقيقي في الثقافة الرقمية حيث لن يبدأ الناس في استخدام التقنيات الرقمية العامة فحسب، بل أيضاً فهم فوائدها لمكافحة الفساد.

يقول، “إن مستقبلنا بات على المحك، فإننا لم نخسر أموالنا فقط، بسبب ما فعله نظامنا التقليدي على مدى 30 عاماً، بل فقدنا مستقبلنا. لذا نحن نحاول أن نبدأ من جديد حتى تصبح الإدارة، في غضون 5 إلى 10 سنوات، منفصلة تماماً عن المصالح السياسية”.

إقرأوا أيضاً: