fbpx

شائعة أبي الهول “النائم”… الخرافة ملجأ المصريين الذين أنهكهم الواقع

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“إذا أغلق أبو الهول عينيه، فليهرع كل جنود الفرعون إلى المخابئ، دون عودة أبداً فإن رع سيعود وسيفنى البشر”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بعبارات أسطورية كتلك، تفاعل المصريون، خلال الأيام الماضية، مع إحدى أغرب الشائعات في التاريخ. 

لم يكن أغرب شيء في الخبر الذي تم تداوله على نطاق واسع في القاهرة حول إغماض تمثال أبي الهول لعينيه وغفوته، سوى الإقبال الجماهيري الكبير على زيارة منطقة الأهرامات للاطمئنان على ذلك التمثال التاريخي، الذي لُقّب في مراحل سابقة من التاريخ الفرعوني بـ”حارس مملكتي الأحياء والأموات”. 

تصديق المصريين الشائعة- غير المنطقية- بوابة لموسوعات من الأكاذيب العالقة في التاريخ الفرعوني والأثري في مصر، وهو ما سمح لشائعة أبي الهول النائم بالانتشار في دقائق، بعدما نشر أحد روّاد “فيسبوك” فيديو وصوراً “خضعت للكثير من التلاعب” تبدو فيها عينا التمثال مغلقتين، ليبدأ حديثاً وبحثاً طويلاً عن الأسرار وراء “غفوة أبو الهول”، وأسئلة عن مدى صحة الصورة، ونفي من مصادر حكومية، وتفاعل رسمي أخرج “ترند” خيالياً في مواقع التواصل الاجتماعي إلى موائد النقاش الجادّة، وأخرج إرثاً من الخرافات المصرية إلى السطح، ليكشفَ مساحات واسعة من الإيمان والتصديق ببعضِ الروايات والحكايات الأسطورية والخرافية، التي لا تزال تتلاعب بعقول المصريين، ويتزايد الأمر الآن تحت تأثير الأزمة الاقتصادية التي تمرّ بها البلاد الآن.

من وراء نشر الخرافات في المجتمع المصري؟

تقع خرافة إغماض أبي الهول عينيه ضمن قائمة طويلة من الخرافات، والتفسيرات الأسطورية، وتروّج لها وسائل الإعلام المصرية، ومواقع التواصل الاجتماعي، عبر نشر موضوعات صحافية وحلقات تلفزيونية وما يعرف بـ”لايفات” تتناول السحر والشعوذة والأعمال السفلية وتأثيرها في حياة البشر، وفي رمضان الماضي، امتدّ الأمر إلى مسلسلات أنتجتها شركات كبرى في المجال الدرامي المصري. 

ومن هذه المسسلسلات، “المداح2″، بطولة حمادة هلال، الذي حقَّق نسب مشاهدة عالية للعام الثاني على التوالي، ويعرض سيرة الشيخ صابر الذي يحلّ المشكلات ويتعامل مع الأمور المعقدة والصعبة بطاقة ربَّانية، وبعض القوى الخرافية، حتى يصل إلى حل، ليؤمن الناس بأن في يدِه مفاتيح كل الأبواب المغلقة بناءً على شيء يشبه السحر، أو القدرة الخارقة على السيطرة على الأمور الخارجة عن السيطرة. 

أمّا المسلسل الثاني، فهو “جزيرة غمام”، الذي يقدّم قصة أسطورية عن قرية مصرية يتصارع فيها الخير والشر، بمكوناتهما المختلفة كالإسلام الأصولي والإسلام المنفتح، والدير المسيحي، والشيطان في هيأة بشرية، وبناءً على نبوءة شيخ عرفه الناس ببركته، وقدرته على توقّع المستقبل وإدراك الأسرار، تنتظر القرية حدثاً عارماً قد يفنيها من على الأرض، وقد سموه “الزوبعة”، ليأتيَ شيخ آخر زاهد يدعى “عرفات“، يعرف الأقدار، ويتنبَّأ بالمشكلات قبل وقوعها، ويواجهها بطاقة خفية، لا أحد يعرف سرّها، تمكّنه من اختراق الحوائط، وفكّ القيود، وقراءة ما يفكر فيه الناس، ومحو أشياء مكتوبة إذا نظر لها. مجموعة ظواهر “أسطورية” يتحلّى بها عرفات، وتمكّنه من إنقاذ من اختارهم في القرية من الهلاك بأثر “الزوبعة” التي تحدث في نهاية المسلسل. 

يشجع النظام المصري حالياً تلك التصوّرات، باعتباره المُنتج الدرامي في مصر عبر شركات تابعة لأجهزته السياسية، تقنع الناس بأن بعدهم عن الله هو المشكلة، وأن حل أزماتهم الدنيوية كغلاء الأسعار، والخطر الذي يحيط بهم من كل جانب، والمصير المجهول الذي ينتظرهم، ليس بشرياً، إنما حله بالإيمان والزهد والتقوى، وانتظار قوى خارقة من جهات مجهولة تساعدهم، أو تفني حياتهم. 

تتقاطع تلك التصورات والافتراضات مع ما حصل في شائعة غفوة أبي الهول، فقد سرت حالة قلق بمواقع التواصل الاجتماعي، وتصديق بأن تمثالاً من حجارة عمره 4 آلاف عام قد يغمض عينيه الآن، وأن ذلك سيؤدي إلى فناء البشرية، أو بعض الترتيبات المستقبلية التي تهدد حياة البشر. 

“اكتئاب وقلق عام” وراء التفاعل الكبير

يعلق د. إبراهيم حسين، اختصاصي الطب النفسي، على واقعة أبي الهول، قائلاً: “شريحة واسعة من المصريين، وهي النشطة بمواقع التواصل الاجتماعي، تعاني حالياً بعض المشكلات النفسية والاضطرابات الناتجة عن القلق، ونشهد حالياً تغيراً في الأمزجة، لا يعرف تفسيره الناس، لكن الحقيقة أن هذا اضطراب نفسي يعرف في الطب النفسي بأنه يتزامن مع الأزمات التي تواجه الشعوب، ومن تجلياته المشاجرات في الشوارع، وتصديق الخرافات، وتشجيع النصابين والمحتالين من خلال الإيمان بهم والدعاية لهم”.

ويوضح لـ”درج”، أن ظاهرة “المستريح” الذي احتال على الناس، وخدعهم بجمع أموالهم للإتجار في المواشي، وحصد أرباح ضخمة، هو حلقة في سلسلة تصديق الأوهام والإيمان بقوى خفية قد تنصفهم، مثله مثل تصديق شائعة أبي الهول، وما ينجم عنها من أحداث في المستقبل، وفي العام الماضي، صدّق الناس أن “ميكروباص” سقط في النيل، وأنّ ركّابه انتقلوا إلى عالم موازٍ، في حين أن أحداً لم يبلغ عن فقدان أحد أفراد أسرته، ولم تسجّل الكاميرات ذلك، لكن “هناك من صدق، ولا يزال يصدّق ذلك، ويؤمن أن هناك عالماً موازياً قد ينتقل له يوماً ما ليعيش مغامرة أو يحسّن حياته”.

يضيف إبراهيم حسين : “يميل الإنسان، نفسياً، حين يتعرّض لصدمات تهدد وجوده أو تضيّق عليه حياته، وحين يشعر بأنه لا يستطيع تدبير أموره، ورؤية المستقبل بوضوح، إلى تصديق الخرافات واللجوء لها وترويجها والبحث عنها، وهنا تنتشر حالة عامة من البحث عن مخرج آمن، وتنتشر في المجتمع صيغ بديلة لاستكمال الحياة بشكلها الحالي، فتجد تزايداً في حالات المرضى النفسيين مدّعي النبوة، ومدّعي الألوهية، وذلك بهدف تغيير الواقع أو التوصّل لحلول للمشكلات الحالية ولكن بشكل خرافي، لأن حله بالطرق الطبيعية والتقليدية لم ينجح”.

ويلمح حسين إلى سبب آخر لتلك الحالات، وهو الركود: “حين يعيش الناس ركوداً مستمراً لسنوات، دون تغيير في شكل حياتهم أو طقوسهم أو العالم من حولهم، أو حتى مشكلاتهم، يبدأون في اختراع مشكلات وخزعبلات للتفاعل معها من باب التجديد، وكسر الملل، ويؤثر ذلك مع الوقت في كيمياء المخ، الذي لا يعتاد عدم التغيير هو الآخر، وتلك الحالة تغرقه في الاكتئاب المرضي وتصوّر أشياء غير موجودة وتضخيمها”.

تصوير أبي الهول “النائم” ممنوع

تفاعلاً مع القلق المُحيط بأبي الهول، والشكوك حول نومه المفاجئ، كشفت تقارير صحافية مصرية ومقاطع فيديو، تزايداً “تاريخياً” في أعداد زوّار أبي الهول في اليوم التالي لنشر صور “الغفوة” المفبركة، وهو ما يشير إلى أنّ كثيرين صدّقوا الشائعة، وذهبوا في اليوم التالي للتأكّد.

نفى خبراء آثار القصة برمتها وقالت مصادر رسمية من وزارة السياحة والآثار إن “الصورة مزيّفة وقد تم تصويرها بزاوية عكس الشمس، وبكاميرا ضعيفة لم توضح ملامحه، ما جعل الصورة تظهر بهذا الشكل”، ثم تداركت مصادر رسمية أخرى، وقالت إن الأمر كله “تعديلات بالفوتوشوب”.

وجه آخر للسلطات المصرية، بعيداً من وزارة الآثار، طغى على السطح، خوفاً من تصدير صورة سيئة عن أبي الهول ليبيّن التفاعل الخرافي الذي جمع الشعب والحكومة معاً.

يروي أحمد.ت، صحافي مصري، تمّ تكليفه من صحيفته في مصر بتغطية حادث “نوم” أبي الهول المصطنع من منطقة الأهرامات، أنه فوجئ بتشديد أمني، ومنع الصحافيين والمصوّرين من ممارسة عملهم. يفسر ذلك ساخراً بأن السلطات “خافت أن يكون أبو الهول نام فعلاً”. 

ويضيف لـ”درج”: “ألقت قوات الأمن القبض على عدد من الصحافيين والمصوّرين والزوار الذين يحاولون التقاط صور لأبي الهول أو التجمّع أمامه ثم أطلقت سراحهم على بوابة الأهرامات، ولا سبب لذلك، حتى إنني حاولت بثّ لايف (بث مباشر) من أمام أبي الهول وفشلت، فاكتفيت بالتصوير في منطقة الأهرامات”.

وقبل نهاية اليوم، اضطر أحمد إلى حفظ ما صوّره في ذاكرة خفية داخل هاتفه، حتى لا تحذفه قوات الأمن إذا فتشته، كما فعلت مع كثيرين آخرين، لكنه سجّل ملاحظة أخرى عجيبة حول المصريين الذين زاروا أبا الهول في اليوم التالي للشائعة، على عكس الأجانب.

يقول: “كان الشباب والكبار المصريون الذين يزورون أبا الهول مصدّقين أن عينيه أغمضتا فعلاً، ونام، وذهبوا لمشاهدة هذا الحدث مباشرة، الأجانب تعاملوا مع الأمر بنوع من الفانتازيا، كانوا واثقين أن لا تغيير طرأ على التمثال، لكنهم أرادوا رواية القصة لأصدقائهم وعلى صفحاتهم بتطبيق إنستغرام، وضحكوا من مصريين جاءوا للاطمئنان على تمثالهم التاريخي. وبرغم أننا ذهبنا للتغطية ونحن نعرف أن لا شيء حدث، لم أتخيّل أننا سأجد آخرين صدّقوا وجاءوا ليتأكّدوا ويلتقطوا صوراً جديدة لأبي الهول”.

إقرأوا أيضاً:

علم الآثار الزائف… و”الأسد الحارس” الذي يطارد المصريين 

الأساطير التي يؤمن بها المصريون كثيرة، تحديداً الأثرية، وتندرج في بند “خرافات لها تاريخ”.

وقد راجت الأساطير الأثرية التي تحيطها عشرات الخرافات والروايات الغريبة والعجيبة ضمن ما يعرف بـ”علم الآثار الزائف” في الستينات والسبعينات على يد إريك فون دانكن، وكان الكتاب الذين يلجأون للترجمة في مصر قلة، وفي مقدمتهم أنيس منصور.

وبفضل هذه الخرافات التاريخية، حققت كتب منصور مبيعات هائلة، وتحوّلت تلك الخرافات الأثرية والتاريخية والمنطقية إلى ذاكرة أجيال، بدءاً من أن “اللحوم إذا وضعت في الهرم لا تفسد”، وإجراء تجربة بوضع أمواس داخل الأهرامات فلم تصدأ، وصولاً إلى أساطير عن لعنة الفراعنة والزئبق الأحمر والكائنات الفضائية التي أدت دوراً في بناء الأهرامات.

واستند علم الآثار الزائف إلى نظريات عن تفوق العرق الأبيض، وسيطرته، وضعف بقية الأعراق، لتجريدها من جميع إنجازاتها، فلا تجد فيها أنّ الكائنات الفضائية كان لها أي فضل في بناء الحضارة الرومانية، بل تدّعي أنها أسّست الحضارات ذات الأصول العربية والأفريقية فقط. 

ومن أنيس منصور ورفاقه من الكتاب الذين تبنّوا تلك الكتابات المُسلية دون أن يدركوا وقعها التاريخي، تم تحميل الآثار والتاريخ أكثر مما يحتملان من معجزات وخرافات وخزعبلات لا يزال المصريون يؤمنون بها حتى الآن، أو يردّدونها، وتجد صدى واسعاً بالقرى والمناطق النائية. وتحوّلت إلى خرافات آمن بعض المصريين بتأثيرها ودورها الكبير في حياتهم ومستقبلهم، وإشاراتها التي قد تغيّر الواقع.

وحتى الآن، تطارد تلك الخرافات المصريين، ويترجمونها في صيغة بحث دائم عن تفسير الحلم بأبي الهول، أو رؤيته في المنام، بخاصة أنه منذ بدء التاريخ تمثال غامض، تحوم حوله شبهات وروايات مختلفة، ويؤصل باحثون سر قوته بأنه على جسد أسد، أقوى الحيوانات، وقد حلم به الملك المصري تحتمس الرابع، يأمره بنفض التراب الذي غطّاه ويبشره بأنه سيكون ملكاً على عرش مصر، وتحقّق الحلم.

إنه حلم جماعي يستعين به المصريون ليتخلّصوا من بؤسهم، وسوء الحال الجماعي الذي يطاردهم. وهو ما حصل في واقعة “غفوة” أبي الهول، التي تمنى الكثير من المصريين أن تكونَ حقيقة حتى تغير شيئاً من واقعهم الصعب. 

إقرأوا أيضاً: