fbpx

المصارف اللبنانية تستعد مجدداً لمعركة توزيع الخسائر

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

هل يكون اللبنانيون خلال المرحلة المقبلة أمام خطر تمرير أكبر عمليّة سطو على الأصول العامّة، لسداد فاتورة خسائر الفئة الأكثر نفوذاً في النظام المالي؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

سريعاً بدأت نقاشات مابعد الانتخابات النيابية في لبنان، خصوصاً تلك المتعلقة بخطط التعافي الاقتصادية وأي مسار ستسير. من هنا بدت تحركات جمعية المصارف مؤخراً بمثابة استكمال لمسار بدأ منذ الانهيار المالي عام 2019 بتحميل المودعين الخسائر.

فقد عقدت جمعيّة المصارف لقاءً مع نقابات المهن الحرّة، كونها معنيّة بودائعها وأموال صناديقها العالقة داخل النظام المصرفي، في محاولة لتسويق “خارطة طريق” الجمعيّة المقترحة لإعادة الودائع. لم يكن من قبيل المصادفة أن يأتي توقيت الاجتماع، وموضوعه، قبيل إطلاق الورشة التشريعيّة التي يفترض أن يقوم بها المجلس النيابي الجديد، لمناقشة مندرجات خطّة التعافي المالي التي وضعتها حكومة نجيب ميقاتي، وترجمة بنودها في قوانين ترتبط بمسار التصحيح المالي والخروج من الأزمة. 

توقيت الاجتماع وخلفيته

باختصار، وبعد توقيع الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد منذ أسابيع، سيكون على الحكومة المقبلة المضي قدماً في تحويل هذا الاتفاق إلى تفاهم نهائي، وبحسب خطة التعافي المالي التي وضعتها حكومة ميقاتي بالتفاهم مع الصندوق، وهو ما سيفرض الدخول في هذه الورشة التشريعيّة في البرلمان خلال الأسابيع المقبلة. وهكذا، أدركت المصارف أن لحظة الحسم اقتربت في ملفّات عدة، وأبرزها ملف توزيع الخسائر المصرفيّة وطريقة التعامل معها، لاتصالها برساميلها وأسهم أصحابها وما ستتحمّله من خسائر.

من الناحية العمليّة، استنفرت جمعيّة المصارف منذ أسابيع بمجرّد اطلاعها على خطة التعافي المالي، التي نتجت عن المباحثات مع صندوق النقد الدولي. فصندوق النقد، فرض على الحكومة اللبنانية تضمين الخطّة بنوداً واضحة، تنص على احترام “تراتبيّة الحقوق” في التعامل مع الخسائر، بما يعني شطب الرساميل والأسهم المصرفيّة بشكل تام، قبل تحميل الخسائر إلى أي طرف آخر لاحقاً. كما نصّت الخطّة على “الحد من أي مسار يمكن أن يفضي إلى استعمال الأموال العامّة”، للتعامل مع الخسائر المصرفيّة، ما سيحول دون خصخصة الأصول العامّة أو استثمارها، لسداد فجوة الخسائر المصرفيّة. بالتأكيد، امتلك صندوق النقد حساباته الخاصّة ليفرض هذه البنود، من ناحية حرصه على تعزيز الملاءة الإئتمانيّة للدولة التي سيقرضها، واحترام المعايير الدوليّة المعتمدة في عمليّات الإنقاذ المالي. وهذا التوجّه لدى الصندوق، وإن لم ينطلق من حسابات العدالة الاجتماعيّة، يمكن أن يقلّص- لحسن الحظ- من ثقل الخسائر التي تحاول جمعيّة المصارف تحميلها للمال العام، كما يمكن أن يقود المصارف لتحمّل نسبة أكبر من الخسائر من أموال مساهميها.

في أي حال، ما إن اطلعت جمعيّة المصارف على هذه الخطّة قبيل الانتخابات النيابيّة، حتّى شنّت الحرب الضروس عليها بالبيانات الرسميّة، وبالحملات الإعلاميّة التي خاضها الخبراء والإعلاميّون الذي يدورون في فلك الجمعيّة في العادة. فالمسألة بالنسبة إلى جمعيّة المصارف كانت وجوديّة، طالما أنّ المضي قدماً بالتفاهم المبدئي مع صندوق النقد، وخطة التعافي المالي المطروحة، سيعنيان خسارة المساهمين في القطاع رساميلهم وأسهمهم. ومن هنا بالتحديد، يمكن فهم استنفار بعض النوّاب المحسوبين على أحزاب المنظومة السياسيّة، بمجرّد تسرّب الخطّة، وإطلاقهم التصريحات ضد المعالجات المطروحة فيها. 

لكن بالتوازي مع محاولة ضرب الخطّة المطروحة في الوقت الراهن، بدأت جمعيّة المصارف تُعد العدّة لخوض حملة علاقات عامّة واسعة، لتسويق المعالجات البديلة التي تناسب مصالحها، ولو على حساب مصالح الشعب اللبناني. وهذه المعالجات البديلة، هي تحديداً ما أشارت إليه الجمعيّة في اجتماعها مع نقابات المهن الحرّة، عند الحديث عن “خارطة طريق” استعادة الودائع. ببساطة، لم يكن هذا الاجتماع سوى تدشين لحملة العلاقات العامّة التي أطلقتها الجمعيّة راهناً،  بهدف تسويق مقارباتها البديلة لتوزيع الخسائر، والتي يمكن أن تقلّص حجم الخسائر التي سيتحملها أصحاب المصارف من رساميلهم وأسهمهم.

البيان الذي أصدرته جمعيّة المصارف بعد اللقاء كان واضحاً من ناحية نوعيّة خارطة الطريق المطلوب العمل عليها لسداد الودائع، وتحديداً عند الإشارة إلى دور الدولة في سداد كتلة الخسائر المصرفيّة، التي تراكمت عبر مصرف لبنان، من الأموال العامّة. وبما أن الدولة لا تملك الإيرادات اللازمة لسداد الخسائر التي توازي اليوم نحو 3.5 مرّات حجم الاقتصاد المحلّي، فالمطروح ليس العودة إلى فكرة المساس بأملاك الدولة، وإن بصيغ ملتوية. بمعنى آخر، ما نتج عن الأزمة من خسائر، سيتم تحميله لعموم المقيمين أولاً، وللأجيال المقبلة ثانياً، بهذا النوع من المقاربات التي تسوّقها الجمعيّة. 

من خطّة جمعية المصارف للرد على خطة حكومة دياب عام 2020

تاريخ الفكرة

لم تكن هذه المرّة الأولى التي تلجأ فيها السلطة إلى محاولة تسويق هذه الفكرة بالتحديد، في سياق التجاذب الدائر حول توزيع الخسائر المصرفيّة. فعام 2020، ومع طرح حكومة حسّان دياب خطتها للتعافي المالي، والتي عُرفت لاحقاً بخطة “لازارد” نسبة للشركة الاستشاريّة التي ساهمت في إعدادها، ردّت جمعيّة المصارف بخطة ماليّة خاصّة بها، تركّز مضمونها على سداد الخسائر من خلال كيان سُمي في الدراسة “صندوق سداد الدين العام”. فكرة الصندوق قامت على تجميع كتلة من الأصول العامّة، بقيمة توازي نحو 40 مليار دولار، على أن يتم استثمار هذه الأصول ومشاركتها مع القطاع الخاص من خلال الصندوق لسداد كتلة الخسائر المتراكمة في مصرف لبنان، ومن بعدها تمكين المصارف من سداد التزاماتها للمودعين. 

منذ ذلك الوقت، بدا واضحاً أن مسألة صناديق استثمار الأصول العامّة، أو خصخصتها، أو إقحامها في شراكات مع القطاع الخاص، بات الهدف الأساسي للمصارف، كبديل عن تحميل رساميلها نسبة وازنة من الخسائر المصرفيّة. ولذلك، تركّز خطاب جمعيّة المصارف على مدى السنتين اللاحقتين، وحتّى اليوم، على فكرة تحميل الدولة مسؤوليّة التعامل مع أزمة الودائع، وتأمين هذه الأموال، في محاولة لتعبيد الطريق أمام مد اليد إلى الأصول العامّة. أمّا العقبة الأساسيّة التي حالت دون نجاح جمعيّة المصارف في مسعاها، فلم تكن سوى تحفّظ صندوق النقد على هذا النوع من الأفكار في جميع جولات المباحثات مع حكومتي دياب وميقاتي. فبعثات الصندوق اعتبرت أن تجريد الدولة من أصولها، لمصلحة المصارف، ستخفّض ملاءة الدولة الإئتمانيّة، ما سيعني تقليص قدرتها على سداد قروض الصندوق نفسه. كما ستعني هذه الفكرة، بالنسبة إلى الصندوق، التنازل عن الأصول والأموال العامّة للتعامل مع خسائر قطاع خاص، هو القطاع المصرفي، بدل تخصيص هذه الموارد والاستثمارات لإنعاش الميزانيّة العامّة.

مع الإشارة إلى أن فكرة جمعيّة المصارف تعرّضت منذ ذلك الوقت للكثير من الانتقادات، أبرزها عدم واقعيّتها في افتراض أن الدولة قادرة على جمع أصول عامّة بقيمة 40 مليار دولار، لاستثمارها أو خصخصتها أو تشريكها مع القطاع الخاص على هذا النحو. كما افترضت الخطّة أن كتلة من الأصول العامّة بهذه القيمة، قادرة بالفعل على التعامل مع كتلة خسائر مصرفيّة تناهز قيمتها 73 مليار دولار، وهو ما افتقد أيضاً إلى الواقعيّة. وبذلك، كان من الأكيد أنّ خطّة جمعيّة المصارف ستعني عمليّاً تبديد هذه الأصول العامّة، أو ربطها في صندوق مربوط بالخسائر المصرفيّة، دون تمكين المودعين من استرجاع سيولتهم في المستقبل. أما الغاية الوحيدة التي تخدمها هذه الفكرة، فليست سوى التملّص من أفكار تحميل الرساميل المصرفيّة كتلة وازنة من الخسائر. 

أمّا الجانب الآخر من الانتقادات، فارتبط بعدم عدالة الفكرة. فالخسائر التي تشير إليها جمعيّة المصارف هنا، ليست سوى نتاج القرارات الاستثماريّة التي اتخذتها مجالس إدارتها، والتي نتجت عنها خلال السنوات الماضية أرباح طائلة استفاد منها أصحاب المصارف، على حساب المجازفات التي تحمّلها المودعون. 

فيما استفادت المصارف بشكل كبير من أرباح تلك المرحلة، يأتي أصحابها اليوم ليطالبوا المجتمع بأسره بتحمّل كلفة مغامراتها، وتخصيص الأصول العامّة للتعامل مع الخسائر التي نتجت عن المجازفات. مع العلم أن ألف باء الرأسماليّة نفسها تقتضي تحميل المستثمر كلفة الخسائر من رساميله، قبل الانتقال إلى تحميل هذه الخسائر إلى أي طرف آخر. 

بروباغندا المصارف

كل هذا الطرح، يقوم على أساس بروباغاندا قامت بتسويقها المصارف منذ عام 2019، من خلال التركيز على الربط ما بين الدين العام، وكتلة الخسائر المصرفيّة، تمهيداً لفرض سداد الخسائر من الأموال العامّة، على قاعدة سداد الدولة التزاماتها لمصلحة مصرف لبنان والمصارف. وهذه البروباغندا تناقض من الناحية العمليّة جميع الأرقام المتوفّرة، والتي تشير إلى أن كتلة الخسائر الأساسيّة لا ترتبط بالدين العام وعمليّة إعادة هيكلته، بل بميزانيّة مصرف لبنان. بل وبحسب الأرقام التي صادق عليها حاكم مصرف لبنان نفسه، في خطة التعافي المالي، يتبيّن أنّ نحو 60 مليار دولار من الخسائر المصرفيّة ترتبط بميزانيّة مصرف لبنان، في حين أن أقل من 13 مليار دولار من الخسائر ترتبط بمسائل أخرى كإعادة هيكلة الدين العام والخسائر الناتجة عن القروض التي حصل عليها القطاع الخاص.

أما الأهم، فهو أن الغالبيّة الساحقة من خسائر مصرف لبنان نتجت عن عمليّات بينيّة مع المصارف التجاريّة، وتحديداً جرّاء الفوائد الفاحشة التي استفادت منها المصارف على حساب ميزانيّة مصرف لبنان، والدولارات الذي ذهبت لتمويل التحويلات إلى الخارج، والتي استفاد أصحاب المصارف وكبار المودعين من جزء أساسي منها. بمعنى آخر، كتلة الخسائر الأساسيّة التي يعاني منها القطاع المصرفي لم يرتبط جزء كبير منها بنفقات عامّة استفاد منها الشعب اللبناني، بل ارتبط بعمليّات قطاع خاص هو القطاع المصرفي، وبأرباح فئة صغيرة هي فئة كبار المودعين وأصحاب المصارف. وبذلك، ما تطلبه المصارف اليوم ليس سوى استنزاف مقدرات المجتمع بأسره، للتعويض عن مغامرات استفادت من أرباحها الحلقة الضيّقة الأكثر ثراءً في المجتمع. 

سيكون المجلس النيابي قريباً أمام استحقاق مناقشة مندرجات الخطة الماليّة، وهو ما سيفتح مجدداً ملف الصندوق السيادي أو الصندوق الإئتماني، الذي يترجم المقاربة التي تطالب بها جمعيّة المصارف. الإشكاليّة الأساسيّة، تكمن اليوم في تبنّي جزء كبير من الكتل النيابيّة هذه الفكرة، كـ”لتيار الوطني الحر” و”القوات اللبنانيّة” و”الكتائب اللبنانيّة”، إلى نوّاب مستقلّين كالنائب نعمت فرام، وهو ما ظهر خلال الأسابيع الماضية في برامج هؤلاء الانتخابيّة. وبذلك، بات من الأكيد أن جمعيّة المصارف فعلت ما بوسعها لتسويق هذه الفكرة، وأن الشعب اللبناني سيكون خلال المرحلة المقبلة أمام خطر تمرير أكبر عمليّة سطو على الأصول العامّة، لسداد فاتورة خسائر الفئة الأكثر نفوذاً في النظام المالي. 

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.