fbpx

ورحل سمير صبري… أرشيف الضحك والمجد والفن والسياسة 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يعيدنا سمير صبري إلى ظاهرة صناعة النجوم، والطريقة التي يُعامل بها المنتجون السينمائيون الفنانين لا بالمال فحسب، بل بتطوريهم واستثمارهم أيضاً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في نهار يوم شتوي عام 2013 وأنا أعبر شارع 26 يوليو في الزمالك، شاهدته من بعيد، كان سمير صبري يمشي برفقة رجلين، أحدهما حارس عقار، ويتحدث معهما بجدية في أمر بدا خطيراً، ثم فجأة انطلقت ضحكاتهم عالية، ابتسمت أنا أيضاً عندما رأيت ضحكته وانتابني الخجل من السير خلفه في شارع شجرة الدر لأصافحه. تكرر الأمر وشاهدته مرتين في حي الزمالك أيضاً، مرة في سيارته يجلس بجوار سائقه، ومرة وهو يسير إلى مطعم “فايف بيلز” برفقة رجل بدا لي مساعداً له، والغريب أنه، وبرغم تقدمه في السن، إلا أن البهجة والخفة اللتين تستقران على قسمات وجهه لم تختفيا ولم تذبلا. عندما سمعت بخبر وفاته، تذكرت تلك الخفة وأغنياته الراقصة وكأنه رجل عاش حياته ليغمرنا بالبهجة وحسب. وبرغم حزني جلست لساعات أردد أغنيته الشهيرة “سكر حلوة الدنيا سكر”.

عندما نستدعي المحطات المختلفة في مسيرة الفنان سمير صبري لا نقف عند توصيف واحد له، ولا نضعه في قالب محدد، التمثيل، الغناء، الاستعراض، تقديم البرامج الإذاعية والتليفزيونية أم رجل فقرة المنوعات في الأفراح الخاصة؟ هذا هو المنطلق الذي نبدأ منه الحديث عن سمير صبري، الـOne Man Show، الرجل الذي إذا اعتلى المسرح وأمسك الميكروفون يستطيع أن يقدم لك ترفيهاً خالصاً دون ابتذال، يسليك بالغناء أو الرقص، يقلد الفنانين، أو يغازل الجمهور بحكي مواقف وذكريات طريفة، رجل يعرف كيف يجعلك تمضي وقتاً ممتعاً، لذلك فإن كل ذكرياته في عقول جمهوره مرتبطة بشعور غامر بالمتعة لا تستطيع معه إلا أن تحبه، ربما لذلك وصفه الأديب يوسف إدريس بـ”أمير البهجة” ووصفه الأديب خيري شلبي بـ”صديق الكاميرا”.

تحت أضواء المدينة

دائماً ما يتحدث سمير صبري عن دعوات أمه التي دفعته إلى الشهرة ومحبة الناس له، فلا ينكر أن القدر كان له نصيب من شهرته، وهو ما حدث بالفعل  عندما اكتشف أن عبدالحليم حافظ يسكن معه في العمارة السكنية ذاتها وكانت هذه بوابة الصداقة بينهما التي جعلت عبدالحليم يرشحه للعمل بالإذاعة لسنوات، ثم جاءت المصادفة الثانية عام 1964 في مهرجان التلفزيون الدولي بالإسكندرية الذي قدمته الإعلامية ليلى رستم في حضور عدد من الممثلين الأجانب والمصريين، لكنها نسيت أن تذكر الفنانيين المصريين الحاضرين في القاعة وركزت في ترحيبها على الأجانب مثل “روجر مور، جين راسل، جاردنر ماكيه” وفي كواليس المهرجان بحث القيّمون عن وجه جديد من الإذاعة يصعد إلى المسرح ويتدارك الخطأ، فاختاروا سمير صبري الذي كان اختياراً موفقاً لحسن مظهره وإجادته الإنكليزية. رحب بالنجوم وقدم فقرة قصيرة أعجبت الحضور ولاقت نجاحاً على شاشة التلفزيون.

 منذ ذلك الحين لفت الأنظار، وأصبح اسمه مرشحاً بقوة للانتقال من الإذاعة إلى شاشة التلفزيون استثماراً لقبوله وحضوره الخفيف وثقافته الواضحة. أحبته النجومية وأحبها، والأضواء التي تلاحقه أصبحت جزءاً من شخصية الفنان التي يريد أن يكونها. وبمرور الأعوام، انتقل برنامجه الإذاعي “النادي الدولي” إلى التلفزيون المصري وبات من أهم البرامج الحوارية وأول برنامج “توك شو” في التلفزيون المصري والعربي.

“البرنامج الدولي”

شكَل سمير صبري جزءاً من نجاحات ماسبيرو في مرحلة السبعينات وسنوات حكم السادات التي اهتمت كثيراً بالتنوع في طبيعة البرامج الحوارية والترفيهية، إنها المنصة الإعلامية للدولة المصرية وقوتها الناعمة التي تخاطب بها المواطن المصري، بالترفيه مرة وبالجدية مرة أخرى. أثبت سمير صبري في برنامجه الشهير “البرنامج الدولي” قدرته على إدارة الجهتين بالكفاءة ذاتها، يستضيف النجوم والفنانين وأهم المطربين، وينتقل بفريق برنامجه إلى حطام خط بارليف لينقل بعيون الكاميرا مواقع القتال مع  العدو الإسرائيلي في حرب 73، ويلتقي بجنود الحرب وأبطالها. زادت شعبية صبري كثيراً لدرجة جعلته مرشح الرئيس السادات لإدارة لقاءات إعلامية مع شخصيات كبيرة كما اختاره السادات لمحاورة إعلامية مع السلطان قابوس في زيارته مصر عام 1970.  

تتكرر في حديث سمير صبري في مذكراته المعنونة بـ”حكايات العمر كله” مواقف تضعه فيها المصادفة أمام شخصية عامة فأول ما يفكر فيه أن يحضر الكاميرا ليسجل معها حواراً إعلامياً، ويشير في مذكراته إلى لقائه مع الإمام موسى الصدر في زيارة سريعة إلى القاهرة عام 1978. وهو ما يكشف عن مهنية سمير صبري الذي لا ينسى عمله في زحام أيامه العادية فيتحول فجأة من شخص عادي إلى إعلامي يمسك الميكروفون ويدير حواراً جاداً.

سمير صبري والسلطان قابوس

لمع نجم صبري كواجهة مصرية إعلامية، وكان هو وفريق برنامجه النادي الدولي، ضمن المدعوين لتقديم احتفالات الإمارات بالعيد الوطني عام 1972 أمام الشيخ زايد ضمن مجموعة من الفنانين المصريين على رأسهم أم كلثوم. إذا كان الفن المصري سفيراً لتوطيد العلاقات الديبلوماسية فإن سمير صبري كان له جناحه المحلق أيضاً داخل الدولة وخارجها لما يملكه من مظهر وحضور جذاب، ولغة أجنبية وعربية متمكنة، إلى قدرته على إدارة حوارات ديبلوماسية وإضفاء أجواء ترفيهية دون الوقوع في فخ الابتذال، وهي معادلة صعب أن تجدها في فنان شامل بمعنى الكلمة، ومثقف دون ادعاء وغطرسة، فهذا الإعلامي والنجم الاستعراضي حصل على درجة الدكتوراة من جامعة أكسفورد وكان موضوع رسالته عن أثر السينما المصرية على المجتمعات العربية من عام 1940 إلى 1980.

يعيدنا سمير صبري إلى ظاهرة صناعة النجوم، والطريقة التي يُعامل بها المنتجون السينمائيون الفنانين لا بالمال فحسب، بل بتطوريهم واستثمارهم أيضاً. بعد نجاح سمير صبري ونجلاء فتحي ومحمود يس في فيلم “حب وكبرياء” لفت صبري الأنظار باعتباره الممثل الظريف والمغني الاستعراضي الذي يكسر تراجيدية الفيلم بالاستعراض والرقص، وهو حضور داخل السياق الدرامي يتم توظيفه ليلقى رواجاً وقبولاً لدى الجمهور الذي يخرج من الفيلم يتذكر القصة ويدندن أغنياته، هنا تحول سمير صبري إلى “كاراكتر” في حد ذاته يتم توظيفه في سياقات فنية مختلفة داخل الأفلام وخارجها. وهو ما لفت نظر المنتج رمسيس نجيب الذي قال لصبري، “أنا هعمل منك حاجة كبيرة، خلطة ما بين جين كيلي وفرانك سيناترا ومحمد فوزي”، وهو ما حدث بالفعل فأصبحنا أمام سمير صبري الذي يقدم خلطة من كل هؤلاء لكن بأسلوبه الخاص الذي لا ينافسه فيه أحد، بل إن قبوله أمام الجمهور في التلفزيون هو ما أكسبه رهان نجاحه السينمائي والاستعراضي اللاحق.

منذ بداية الستينات شارك سمير صبري في السينما بأدوار ثانوية وأحياناً ظهور شرفي عابر، لكن فيلم حب وكبرياء إخراج صديقه حسن الإمام كان المحطة الكبرى التي انتقل فيها من الأدوار الثانوية إلى بطولات ثانية ثم أولى أصبح له فيها وجود على أفيشات الأفلام مثل: البحث عن فضيحة، في الصيف لازم نحب، بمبة كشر، حكايتي مع الزمان، المذنبون، الإخوة الاعداء،” ويذكر سمير صبري إشادة الرئيس السادات بإعجابه بدوره في فيلم “وبالوالدين إحساناً”. كانت السبعينات والثمانينات هي سنوات المجد والألق التي استطاع فيها صبري أن يعزز فيها حضوره أمام الجمهور وداخل الوسط الفني سواء في السينما أو التلفزيون، فأصبح حاضراً قوياً في كل الشاشات.

كان لسمير صبري حظ كبير في علاقاته داخل الوسط الفني، وهي في رأيي السبب الرئيس في كل الفرص التي أحسن استغلالها ليضع قدماً واثقة في فضاء الفن؛ يقول سمير صبري في مذكراته “عندما استرجع كل ذلك اسأل نفسي: يا ترى أنا تعلمت الحياة والدنيا كلها من الإذاعة أم التلفزيون أم من صالون عبدالحليم حافظ الذي شاهدت فيه عظماء الفن والإعلام في مصر والعالم العربي؟”. هذه الشبكة من العلاقات الإنسانية جعلته محبوباً بين الجميع، لذلك عندما كتب مذكراته ابتعد من حياته الشخصية التي لم يكن يحب التطرق إليها واختار أن يقسم فصول مذكراته بالشخصيات العامة والفنية التي عاش معها أيامه ويملك معها حكايات خاصة، واختار اسم “حكايات العمر كله” عنواناً لمذكراته وحياته التي وهبها للفن، واللافت أيضاً أن جزءاً من فقراته الاستعراضية في الأفراح كانت تتضمنها حكايات يرويها عن مواقف طريفة مع أصحاب الفرح أو شخصيات عامة من الحضور، وكانت هذه طريقته الخاصة في كسر أجواء السهرة لتكون أكثر حميمية.

ملك الأفراح

في مرحلة الثمانينات والتسعينات بات لسمير صبري حضور خاص في الأفراح المصرية، وهي المرحلة التي أسس فيها فرقة استعراضية ضمت ما يقرب من 30 عازفاً و20 راقصاً وراقصة من جنسيات مختلفة، وهي مساحة جديدة مارس فيها الغناء والاستعراض، بل وأنتج ألبومات غنائية  مثل “يوم الخميس، أبو علي، كان زمان، تعالى”. وقد استعاد في بعض الأعمال أغنيات قديمة وأخرى جديدة تليق بالأفراح والسهرات وكانت جزءاً من فقرات فرقته الاستعراضية. 

بات سمير صبري جزءاً من ذكريات مئات الشخصيات والعائلات التي وثق حكاياتها، وقد أصبح بعضها مادة متاحة للمشاهدة على “يوتيوب” وفضاء الإنترنت المفتوح. يعيدنا هذا التراث المتشعب لسمير صبري إلى الأرشيف المرئي، بخاصة ما تحتفظ به ماسبيرو ولم تفرج عنه بعد على قنواتها الرسمية وعلى “يوتيوب”. قد تغيب عن الأجيال الشابة قيمة سمير صبري ومشاركاته في فعاليات فنية وثقافية، لكنه سيبقى حاضراً بقوة في الأرشيف الفني المصري، فصلاً مستقلاً بذاته ووجهاً يألف الجميع، ولا ينطفئ.

لعل آخر ما تحتفظ به ماسبيرو من تراث سمير صبري هو حلقات “لغز رحيل السندريلا” التي أنتجها صفوت غطاس عام 2001، وكانت أقرب لتحقيق صحافي في ملابسات موت الفنانة سعاد حسني، صديقته التي شهد بنفسه قصة حبها مع صديقه عبدالحليم حافظ. سافر صبري إلى لندن بالكاميرا وكان الإعلامي الوحيد الذي استطاع أن يدخل بيت سعاد حسني وينقل لنا بالكاميرا موقع الجريمة ويطرح الأسئلة التي ترددت في أذهان الجمهور ولم تحسم إجاباتها حتى الآن لكنه وضع موتها في دائرة شبهة، مستبعداً أن يكون موتها انتحاراً.

بين الظهور الأول والأخير

اعتلى سمير صبري خشبة المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية ليرافق الفنانة نيلي في تكريمها في الدورة الأخيرة لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي قبل أشهر، كان هذا آخر ظهور ولقاء حي بين سمير صبري والجمهور، وكأن الزمن لم يبدد فيه شيئاً، وقف على المسرح متماسكاً محتفظاً بروح الدعابة التي لا تفارقه، وعلى الخشبة ذاتها التي وقف عليها في أول دورة لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي حين اختاره الكاتب كمال الملاخ ليكون مقدماً لها. 

رحل سمير صبري وطوى معه سنوات طويلة من البهجة والمتعة الخالصة ومشاهد خاصة تحمل اسمه فقط، اسأل نفسي الآن هل نملك سمير صبري آخر؟ هل سيمتد هذا الخيط الذي انقطع برحيله؟ لا أجد جواباً مبشراً على أرض الواقع، ربما لهذا السبب سيبقى سمير صبري فناناً لا بديل له، ولم يحتل أحداً مكانه حتى في سنوات ابتعاده من الأضواء، لكن يكفي أننا نملك أرشيفاً مرئياً لرجل يعرف جيداً كيف يمتع جمهوره بأقل مجهود ممكن، وبابتسامة مرحة لا تفارقه.

إقرأوا أيضاً: