fbpx

زيارة متأخرة إلى الشمال السوري: ظلال “داعش” و”قسد” وجيش النظام

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم يكفْ رجال الجيش السوري والميليشيات المرافقة له عن الابتكار، عبر عقدهم الأخير، مستندين إلى تاريخ طويل من الابتكار: حق الردّ في الزمان والمكان المناسبين، الصمود والتصدي، تحرير لبنان، مناصرة القضية الفلسطينية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

خلف كل سوري حكاية، ما إنْ تلتقي به حتى يباشر بسردها، يمكن أن تسمي هذه المرحلة من التاريخ السوري: “الجوع إلى السوالف”.

تبدأ الأحاديث في مجالس كثيرة بحسب قانون الأسبقية والقدرة على المقاطعة، تلك عادة سورية خالدة في المقاهي والمجالس الشعبية، هناك شرهون للتعبير، يفهمون في كل شيء، ويتحدثون عن كل شيء في الوقت الذي يشاؤون، لم تغير الأحداث التي مرت على سوريا  الكثير من عادات الناس المستقرة، مقاطعة الحديث كذلك لا قواعد لها، أو ربما قاعدتها الرئيسة هي أن من حق المتقدّم في السن أن يقول رأيه في الوقت الذي يريد، في المقاهي الأمر مختلف، الأسبقية هي للأعلى صوتاً، بدا وكأن السوريين بهذا الإصرار على الحديث يحتجون على أنه فرصة التعبير لم تتح لهم من قبل، فتجدهم أول ما تتاح لهم الفرصة يكادون لا يصمتون متذمرين، ألأنهم منعوا من الاجتماعات؟ أم لكثرة “التابوات” في أحاديثهم؟ 

قبل عودتي لزيارة أمي في أيار/ مايو 2022 من طريق معبر سيمالكا/الوليد وفق نهر دجلة والمناطق التي تحكمها “قسد”، وفيما كنت أتحدث مع زميلة هولندية في سياق أحد الاحتفالات، جاء أحد الأصدقاء، قاطعنا، وبدأ بسرد حكايته، وفيما كنت محتاراً في كيفية التوفيق بين أن أسمعه كي لا يقال إن الجميلة قد شغلتني عن ابن بلدي، وألا أجرح زميلتي الهولندية، التي قالت لي قبل أن تنصرف محتجة: هذا عدم احترام منك، حين أعطيته أذنك، ونحن نتحدث معاً!

دفعتُ بانصرافها، الذي لا عودة عنه، ضريبة الإنصات، مع أنه، عادة، ما يدفع الناس ضريبة الكلام. كان من الصعب علي أن أشرح له أنه لا يجوز أن يبدأ حديثه، قبل أن ننتهي من حديثنا، وأن الأمر أوجع بكثير من كونها أنثى، وزميلتي الهولندية من جهتها ما درتْ أن قواعد الاتيكيت في كل مجتمع هي تمظهرات لأنماط التفكير والوجود والحرية والقمع وسوى ذلك!

في هذه الجلسة شرق الفرات، كنتُ كأنني مذيعٌ يحاول إدارة الحوار، بهدف الحصول على المعلومة من هؤلاء الجالسين، الذين مرت عليهم ويلات الجلجلة السورية عبر عقد من الزمان. لم أكن على وعي بمكانتي الجديدة كسارد للحكايات، لكن في الأيام التالية أخذتُ أوجِّه الكثير من الرسائل فيما أسرده حول عمل المرأة والعلاقة بين الناس، ومفاهيم النزاهة والعمل الجماعي الخيري، غير أنني لم أقرب موضوعين رئيسيين هما: كثرة الإنجاب، والزواج الثاني؛ لعدم جدوى الحديث عنهما في مجتمع يحسب أنهما حماية وضمان ومكانة. اكتشفتُ يوماً بعد يوم أن ملكاتي بالحديث وترتيبه، ورواية الطرفة في موضعها قد تطورت كثيراً، وأن رغبتي بالتأثير صارت أكبر، ربما نتيجة غياب سلطات الدولة، أو شعوري بالحرية، أو تجربة اللجوء في هولندا، أو لأنني وصلت إلى مرحلة من العمر تجاوزت فيها تفاصيلي الخاصة، وبت أملك سعة لتأمل الكثير من الظواهر والأفكار، بوجود مستمعين يصغون إليك، وتصدق عيونهم ما تروي، كوني أتيت من أوروبا بعد عشر سنوات، ما جعلني الشخصية المركزية التي ينصت الآخرون إليها ويستمتعون بحكاياتها. من قال إن المركزية نوع سيئ من أنواع الحكم، وكيف للشرقي أن يتقبل الفيدرالية والتخفيف من سلطات المركز: ديننا ومجتمعنا وعشائرنا وعلاقاتنا وطوائفنا كلها مع المركزية، ويأتيك من يقول لك إن الفيدرالية هي الحل؟ قد تكون حلاً لكن ليس لنا!

ها هو متحسِّرٌ على أيام “داعش” يقول: “ما تعرف خيره إلا تجرب غيره”، كل ما عدا “الدولة الإسلامية” لا يمكن أن نسمِّيه دولة. لا يزال الناس هناك يسمونها الدولة الإسلامية، غير مكترثين بعشرات الكتب التي سمتها “داعش”، ولا يعرفون شيئاً عن السباق بين باحثين وصحافيين، كلٌّ منهم يقول: أنا ابتدعت تسمية “داعش”. أقرَّ مصطلح “الدولة الإسلامية” في معجمهم بشكل قسري، لأن من كان يستعمل كلمة “داعش”، كان يعدُّ مجرماً، يوم كانت تحكمهم! من قال إن اللغة تخلو من القصر، الذي قد لا نستطيع أن نفارقه، ومن قال إن اللغة ليست لها جوانب إرهابية وسلطات تمارسها على مستعمليها، كما فصل في ذلك علي حرب في كتابه الإرهاب وصُنَّاعه: المرشد/الطاغية/المثقف.

 اعترض عدد من الجالسين في المجلس على حديث المتحمس لـ داعش، عبر الدمدمة، والهمهمة، أو استعمال عبارة: “اتق الله يا رجل”، طريقة إنكارهم لكلامه كانت ناعمة، كونه مُسِنّاً وقريباً لهم. وردّ عليه عددٌ منهم بأمثلة على مرويات عن مظالم أو حالات عنفية، في يوميات الناس، قامت بها داعش، أحدهم قال: إنَّ وجودها كان بلاء، ورحيلها كذلك، حيث سرق اللاحقون لها كلّ شيء منا.

 يوم طردَ التحالف الدولي والروس والإيرانيون والنظام وميليشياته فلول داعش من منطقة الضفة اليمنى لنهر الفرات وقتلوا أو أخفوا كل حيّ، وسرقوا كل مدفون من ذهب أو سلاح عبر أجهزة ترددية، سبقَ أن أدخلها إلى سوريا رفعت الأسد وآخرون من تلك العائلة اللئيمة، وجابت القبور الأثرية السورية لاعتقاد سائد آنئذ، في أن المسيحيين يدفنون ذهبهم معهم، نحن أجدر بالمسيحيين العرب حوّلنا كنائسهم إلى مساجد، ومن حسن حظهم أننا اعتبرناهم أهل ذمة ولم نطردهم خارج خلافاتنا او امبراطورياتنا، وها نحن اليوم نحاول إعادة الحياة إلى ما تركوه من ذهب ومجوهرات، نحن ورثة الجغرافيا، إن لم تجد تلك الأجهزة ذهباً فريما ستجد آثاراً وما دامت الآثار لم تسجل بعد في سجلات الدولة فهي مشاعة لأهل السلطة وهواة تجارة “الانتيك”.

لم يكفْ رجال الجيش السوري والميليشيات المرافقة له عن الابتكار، عبر عقدهم الأخير، مستندين إلى تاريخ طويل من الابتكار: حق الردّ في الزمان والمكان المناسبين، الصمود والتصدي، تحرير لبنان، مناصرة القضية الفلسطينية. تَعِبَ هذا الجيش من ابتكارات يستفيد منها الآخر، خارج البلد، وتوجَّه إلى شعبه ليبرّه بابتكاراته: البراميل المتفجرة، دفن الناس في الحفر أحياء، طحنهم في مطحنة، إطعامهم للسمك، وأخيراً نظرية التعفيش، وهي نظرية اقتصادية، تحاكي نظرية الغزو، غير أن الفرق بين غزو القبائل أنها كانت نمطاً تلجأ إليها القبائل أيام القحط، أما الجيش السوري فجعل التعفيش ثمناً مقابلاً لمن يرفع صوته، ذلك نظام جديد في المقايضة.

وهكذا ضمّنوا كل حي أو قرية لمتعهدين من حوالي مدينة حلب (ينسبون إلى السفيرة)، أو ممن حضروا من الساحل السوري وهم من طبقة اجتماعية سورية اسمها “المعفِّشين” يقومون بأخذ كل ما يجدونه بما فيه شبابيك البيوت وأسلاك الكهرباء، وهذا ما فسَّر للناس لاحقاً كيف أنهم أخذوا حتى كؤوس الشاي البلاستيكية والأشياء ذات القيمة البخسة، حمَّلوها بشاحنات كبيرة، إذ كانت تفرز وتباع لمعامل التدوير، أو تباع في أسواق المستعمل المنتشرة في عدد كبير من القرى السورية. كان مواطنو منطقة الفرات يتساءلون قبل ذلك: من أين يأتي الجيش السوري بالوقت لكي يقوم بسحب أسلاك الكهرباء من البيوت أو يفك صنابير المياه والمغاسل. عرف سكان تلك المناطق هذه المعلومات من مشاهدات ممن بقوا خلسة، بعد عودتهم إلى الديار، أو من “فصيل الزعران” السوري المسمَّى “الدفاع الوطني”. 

 استلم شاب ثلاثيني الحديث وكأن له موقفاً شخصياً معها: داعش هم من كانوا سبب حكم قسد، وسرقتها النفط بإشراف أمريكي، أو ضرب أبناء القبائل بعضهم ببعض، أو اغتيال مشايخهم. وأخذ كلٌ من الجالسين في “الديوان” يفصّل بسرد موقف عنفيّ سبق أن حصل معه شخصياً أو عايشه.

 أحدهم هجم عليه بالضرب، والعنف اللفظي، رجال من “حسبة داعش” يعيِّرونه بنواقض المروءة، لأن زوجته كشفت يديها.  خليل ابن خالتي، جلدوه لأنه كان يدخن، وحين سألوه عن السبب قال: إنّني أدخن، حسرة عليكم وعلى مآلكم، نتيجة الضربات الدولية. أغاظتهم إجابته، فزادوا من عقوبته. وأخذ خليل، إبان سرده على الحاضرين في الديوان، يقطع حديثه، ليأخذ نَفساً من سيجارته بين الفينة والأخرى في مشهد أقرب لبثّ شعور فيها أنه لا يزال مخلِصاً لها برغم أنف “داعش”.

مصطفى أتعبته تفاصيل الحياة، ونسي أن الوقت وقت صلاة، فأمطروه بعصا على ظهره. دمعت عيناه، وهو يسرد لنا حكاية ألمه، إذ ذكر أن “التونسي الداعشي” كما قال، ضربه أمام أطفاله، ولم يحترم شيبته. 

انسحبَ العم فالح، المتحسِّر على أيام داعش من المجلس منزعجاً، وقد مطّ شفتيه إلى الأمام متبرّماً، ورفعِ حاجبيه وبَحْلقت عيونه، هازّاً رقبته يميناً ويساراً في حركة احتجاجية رافضة لمجرى الحديث.

لا موسيقى في هذا المجلس، ولا أذكر أنني سمعت أغاني عراقية أو موسيقى في “الدواوين”، كأن الموسيقى ليست من شؤون الناس العامة، الموسيقى ارتبطت بالخصوصية، كما أنها لا تلائم جدِّية الدواوين، تسرح الحكايات وتمرح في الدواوين، الحكايات عدتُها والرجولة التقليدية مرامها، شجاعة أو تهوراً، أو كاريزما وحلّاً للمشكلات المستعصية التي يهبُّ الرجال الأشداء، بحكمتهم أو قوتهم أو بنادقهم ومسدساتهم ليضعوا حداً لها، ها هو صوت إطلاق النار ليلاً بين أعداء لا أحد يعرف تماماً لماذا يعادي الآخر، يعلو فوق كل موسيقا، وتعتاده آذان البشر، ويتناقلون أخبار الموتى، فالموت الذي كان جلجلة في هذه المنطقة؛ غدا حدثاً عادياً، دون رهبة أو قدسية.

لاحظت أن عدداً كبيراً من الزائرين كانوا يحملون معهم “روسياتهم” (بارودة الكلاشنيكوف) أو “مسدساً كبيراً” يضعه الشخص بجانبه، فيزيد هيبته ألقاً. وجدتُ حضوراً لنوع جديد من البنادق، وفي إطار المزاح سألت أحد أبناء العم: ألا تخاف من حواجز “قسد”؟ ردَّ علي بحدة وثقة: إنَّ من يحاول أن يقترب من بارودتي سأقتله في مكانه كائناً من يكون، ومهما كانت صفته. وأخذ يسهب في توصيف إطلاق النار الذي حدث الليلة السابقة، ومصدره، ونوع السلاح كأنه يريد أن يقول لي: إنه خبير بأنواع الأسلحة، وبما يتوفر من سلاح لدى كل جهة من الجهات التي تبادلت إطلاق النار البارحة، وأشار إلى أن ذلك كان تدريباً تكتيكياً على هجوم افتراضي من الميليشيات الإيرانية نحو مواقع التحالف في حقل العمر. 

خجلتُ من أن أحدِّثه عن الأرق الذي أصابني، نتيجة أصوات الأسلحة المرعبة، إذ إنني لم أسمع صوت رصاص في هولندا عبر عشر سنوات، بل لم أسمع صوت “زمور” سيارة، وحين مرت طائرة تدريب فوق “الكامب” الذي كنا نجلس فيه قبل الحصول على الإقامة؛ وصلنا اعتذار في اليوم التالي من الجهة، التي يتبع لها، خوفاً على أحوالنا النفسية، خفتُ إنْ حدثته عن شيء من هواجسي أن يذهب ذلك “البريستيج” الذي يستند إلى صورة قديمة لي، يوم كنتُ كتلة من المغامرة والتهور والشجاعة، لم أكن وقتها قد تحولت أو قرأتُ كتب زيغمونت باومان والخوف السائل أو الحداثة السائلة، التي ساعدتني على فهم نفسي أولاً، وما أصعب هذه المهمة.

وحين أخبرتُه أنني نمت في الأيام الماضية على سطح “الديوان”، وصفني بالبطل، أوضحتُ له أنني اليوم بتُّ أحمل جنسيةَ بلد، لا أبطال فيه، ولا نسمع في هولندا بكلمة “بطل”، مع أن البلد يعد بالمنجزات، والخدمات والقوانين. يتحدث الهولنديون عن حاجات وبيئة ملائمة وأشخاص يقومون بأدوارهم، توفير إمكانيات وقوانين تنظم ذلك، ووقت محدد للإنجاز، غير أنهم لا يجيدون الحديث عن البطولة القديمة، التي كانت بعصر “الفاكينغ” حيث سيطروا على بحار العالم فترة من الزمن، غير أنهم يحاولون اليوم دفن تفاصيل تلك المرحلة بالنسيان، وإقرار القوانين، وتغليب الجانب الإنساني في الشخصية الهولندية في التعامل مع الآخر، يتصالحون مع تاريخهم كي يمشوا إلى الأمام، وننبش تاريخنا كي نغرق في تفاصيلنا القديمة ولا نغادرها فنمضي أوقاتنا بالعودة إلى الخلف، نسمّمُ لحظة الحاضر بالماضي، فيما يجعلونها هم متعة خالصة.

بعد أن ينصرف الزائرون مساء، أفرح بلحظة أقوم فيها بخدمة نفسي، أختار فرشة ولحافاً ملوناً من النضيدة الموجودة في الديوان، مع وسادتين قاسيتين لأحملهما إلى السطح، تلك النضيدة تعطيني إشباعاً لونياً، ولمسياً إذ تجسّ أصابعي نعومة قماشها، وتتحاور مع ألوان افتقدتها لأكثر من عشر سنوات. دافعي الرئيس للنوم على السطح كان حبّ الاستمتاع بمنظر النجوم والقمر ولسعة البرد، ورغبة بتذكر أيام جميلة، حيث كانت توقظني شمس الصباح بحرارتها، وصوت أبي الذي يحثني: الشمس صارت ضحى! وهذا يعني في عُرف والدي أنه الوقت الذي لم يعد يليق بي أن أبقى فيه نائماً، فهل أقبل أن أكون نؤوم ضحى!

 أيقظتني حدّة أشعة الشمس صباحاُ من حُلم يكاد يتكرّر كل يوم، منذ عقد من الزمان، وهو أنني عدتُ إلى طلابي في جامعة دمشق، أعطي دروسي كل أسبوع حول علم الجمال والأدب العربي المعاصر ونقده، غير أنني حين وجدتُ العسكري البليد لايزال واقفاً على باب الكلية، حاملاً بندقيته وخلفه صورة رئيسه، أنحّي تلك الأمنية جانباً، فيعود الحزن ليخيم على شرايين القلب خوفاً وحسرة وانتظاراً.

همس شقيقي بأذني بنوع من الغيرة والتعالي: هل ترى ذلك الرجل الذي دخل ويلبس لباساً متميزاً، قلت له: نعم! قال: هذا ليس أكثر من راعي غنم، سافر ابناه إلى أوروبا فتغيرت أحواله.

أراقب الرجال الذين بلباس ثقيل مع أننا في شهر أيار/ مايو، وكان كثر يسألون: لِمَ لا ألبس “جاكيت”، مع أنني لا أشتكي من البرد، اكتشفتُ أن جسدي قد تغير شعوره بالبرد، أو اعتاد عادات جديدة، بعدما عشت في هولندا، كنت أراقب الألوان التي يلبسونها التي تكون غالباً باهتة وترابية. على عكس الهولنديين الذين يلبس كل منهم الألوان التي تشتهيها نفسه، دون أن يفكر بذائقة أحد. وفي الوقت نفسه كانت الأغطية والفرشات تضجّ بالألوان الحادة، فهم يلبسون الترابي ويتغطون بالألوان، ولا يكترثون بنظريات “علم نفس الديكور” التي ترى أنه لا بد من أن تكون ألوان أغطية السرير هادئة، بما تحمله من طاقة مساعدة على النوم، يعلمون أنهم نتيجة التعب الذي نال من أجسادهم سينامون دون عناء، تعلّم علم نفس ديكور البيت رفاهية أوروبية لن تصل إلى الشرق، قبل أن ينجز البنية التحية لمدنه وقراه، ويؤمِّن أساسيات الحياة، وما أبعد الطريق إلى ذلك!

الشمس الحارقة تدفع الرجال الزائرين لحماية رؤوسهم من حدتها عبر ارتداء الشماغ التقليدي أو المحرمة البيضاء (الغترة)، أما جيل الشباب فيرتدون ألواناً عدة من الشماغات مما لم تألفه ذاكرتي، وحين حاولت الاستفهام عن مصدرها قيل لي: إنها انتشرت أيام “داعش”، وبقيت موجودة بعد رحيله، فيها خلطة ألوان عجيبة غريبة، بعدما بدأت الحدود التي كانت تَسِمُ الألوان في تلك المنطقة تخفّ، وهي التي كان صيفها صيفاً وشتاؤها شتاء، وليلها ليلاً ونهارها نهاراً. اختلطت ألوان الشماغات، أو (ضاعت طاستها) إذ يبدو أن الألوان والطاسة ضائعتان، كذلك في هذه المنطقة، التي تبحث عن ملامح هوية جديدة، فالطاسة على رغم كبر حجمها، إلا أنها تضيع، إنْ استعملها عدد من البشر دون تنظيم، فتختلط الأمور ببعضها حتى ما يدخل منها في باب اليقين، لذلك إنْ استفهمتَ عن شخص أو حالة، ولم يكن هناك من إجابة مقنعة، يبادرك أهل الخبرة هنا بالقول: “الطاسة ضايعة”. كأنهم يريدون القول، بعد خبرة حياة، إن الأمور مختلطة ببعضها، وزمان اليقين قد صار من الماضي. 

حين سألتهم عمّن يقوم بالاغتيالات الليلية، قالوا: “الطاسة ضايعة” بين السلطات الحالية والسلطات القديمة وسلطات النظام. كلٌ منها يحاول أن يُبْقِيْ “الطاسة ضايعة”؛ كي يحافظ على دوره ولا يفقد أثره. أن تجد الطاسة يعني أن تتحدَّد المهمات والمسؤوليات والحقوق والواجبات، أن تكون “الطاسة ضائعة” يعني الانتظار والرمادية، وهما ضروريان في حالة مثل الحالة السورية.

أنا الآخر “طاستي ضايعة”، مذ غادرت سوريا، أول ما حطت قدماي على أرضها، شعرتُ بأنني وجدتي طاستي، لكن ما إنْ أوغلتُ في الجغرافيا وأنا أتأمل مآلاتها وأحوال الناس حتى ضاعت طاستي مرة أخرى، وأحاول أن أجدها، يرجى ممن يجدها ألا يتردّد في أن يعيدني إليها.

إقرأوا أيضاً:

هلا نهاد نصرالدين - صحافية لبنانية | 27.03.2024

“بنك عودة” في قبضة الرقابة السويسرية… فما هو مصدر الـ 20 مليون دولار التي وفّرها في سويسرا؟

في الوقت الذي لم ينكشف فيه اسم السياسي الذي قام بتحويل مالي مشبوه إلى حساب مسؤول لبناني رفيع المستوى، والذي امتنع بنك عودة سويسرا عن ابلاغ "مكتب الإبلاغ عن غسيل الأموال" عنه، وهو ما ذكره بيان هيئة الرقابة على سوق المال في سويسرا "فينما" (FINMA)، تساءل خبراء عن مصدر أكثر من 20 مليون دولار التي…