fbpx

نقرأ مع علاء: مقاومة صامتة بالكتب والأمل

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
منى آدم

علاء حبيس في سجنه لا يرى من العالم سوى فردًا واحدًا من أسرته لمدة عشرين دقيقة كل شهر.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بدأ الأمر من لحظة بعيدة جدًا، سنوات لم يعد أحد يذكر متى انطفأ فيها الضوء لتحل الظلمة، عندما أودع علاء عبد الفتاح منفردًا في زنزانته. الصمت يخيم والجسد يقاوم ليحافظ على أنفاسه المنهكة.

علاء عبدالفتاح

لا يزال الناشط السياسي والمبرمج علاء عبد الفتاح في السجن منذ 2019، سجن “شديد الحراسة 2″، وهو بحسب وصف أسرته من أقسى السجون. قالت عنه سناء سيف “سجن شديد الحراسة دا  مصمم عشان يقضي على كل إنسانيتك”. بدأ علاء إضرابًا مفتوحًا عن الطعام يوم 2 إبريل الماضي وحتى اليوم اعتراضًا على حرمانه من أبسط حقوقه: التريض ودخول الكتب التي تحملها له أسرته في زياراتها الشهرية. علاء حبيس في سجنه لا يرى من العالم سوى فردًا واحدًا من أسرته لمدة عشرين دقيقة كل شهر. 

نشرت الصحافية لينا عطا الله حملة تضامنية عبر وسم #نقرا_مع_علاء توضح فيها حالة علاء، وتأثير حرمانه من أبسط حقوقه كالقراءة باعتبارها طريقته الوحيدة للتعايش. دعت لينا الناس إلى المشاركة في الوسم عبر اقتراح كتب يتمنون أن يرسلوها إلى علاء في سجنه لتؤنسه؛ تقول لينا “القراءة حق. صحبة. صحبة للروح والجسد كمان. وسيلة للتعايش وتمضية الوقت، القراءة ممكن تحمي من الاكتئاب. القراءة من أول ما ذُكر في القرآن، في صيغة أمر مقدس، فيها قدرة التعافي. القراءة ممكن تخلق أمل”. 

الوسم نجح في إيصال مجموعة من الكتب إلى علاء في سجنه للمرة الأولى منذ سنوات، كما أعلنت أخته الناشطة منى سيف في منشور على فيسبوك. ومن بينها كتب “كوميكس”، ودفتر ملاحظات وأقلام. لكنها قالت إنه لم يخرج إلى الشمس لممارسة التمارين وتنشّق الهواء منذ مدة طويلة، كما أن ضوء “الفلورسنت” في زنزانته لا ينطفئ أبداً، وهو ما يمنع السجناء من النوم.

متابعة الوسم عبر فيسبوك أو تويتر يضعنا أمام مشهد جديد من التضامن والمشاركة والحراك الذي شكل منذ انطلاقه حشدًا مؤثرًا في صفحات الواقع الافتراضي. يصف البعض الوسم بأنه “من أحن وأرق طرق الدعم” وتقول الناشطة السورية مرسيل شحوارو “يزعجني احساسي بالعجز. الإحساس بالعجز مليءٌ بالموت والغياب. أوليسَ ذاك هدف السجون والمجازر والإخفاء القسري؟ غيابنا كلنا، موتنا كلنا، أن نختفي؟ يمرُّ في خاطري في خضمّ ذلك كله السؤال عن جدوى فعل شيءٍ في مواجهة التغييب”.

وقفت كثيرًا أمام تساؤل مرسيل، قمت بإعادة تحميل صفحة الوسم على تويتر ثم فيسبوك، تأملت المنشورات الجديدة المضافة وتنقلت بين أغلفة الكتب، إنها محاولات قوية للطفو على السطح عوضًا عن الغرق الصامت في القاع، فإذا كان الواقع لا يمنح المتضامنين حرية التظاهر والهتاف بصوت عالِ تعبيرًا عن الغضب أو حتى التعاطف والمحبة فإن هذا الوسم بدا لي هتافًا للصامتين، في ظاهره غلاف كتاب وفي باطنه ينطق بالكثير من الكلمات التي تكشف عن محاولات لاستجلاب الأمل، وإقصاء عبثية المشهد الذي يسعى إلى تغييبنا.

من ميكي لجرامشي

أشعار رياض الصالح حسين، حكايات للأطفال من التراث الشعبي الفلسطيني، رواية كوميس عن حياة حنا أرندت وسيرتها الفكرية، رواية قمر على سمرقند، وكلبي الهرم كلبي الحبيب، وقلب مالح، مقدمة ابن خلدون، وأعداد قديمة وحديثة من مجلة ميكي. بين كل هذه الكتب تنوعت اختيارات المشاركين في الوسم، تمامًا كتنوع ذائقة علاء في قراءاته بين العلمية والأدبية والكوميكس. ما يميز الوسم أنه ينطلق من قضية عامة شائكة إلى مساحة شخصية للمشاركين فيه، اشتباك في معركة باردة بباقات من الورود، لا وجود للبنادق هنا، ولا العنف بطبيعة الحال، إنها فقط محاولات للبحث عن مساحات تضامن آمنة من داخل كتب تمنح قارئها شعورًا غامرًا بالمؤانسة.

اختار البعض كتبًا أعجبتهم بشكل شخصي، والبعض اختار كتبًا كبيرة في الحجم لتأخذ وقتًا في القراءة، وهو ما يساعد أي سجين في قتل الوقت، أمر لن يفكر فيه كثيرون، نحن الذين نهدر أوقاتنا في اللهو واللعب وانتظار القطار في المحطة نملك العديد من الخيارات لنمرر الوقت، لكن أحدًا لا يفكر في أن السجين لا يملك سوى الوقت وأربعة جدران صامتة.

“أنا أذوب في مصلبي من الملل. اقرأ رواية بابا سارتر لعلي بدر وأتمنى ألا تنتهي. أقتصد في مضغ كل صفحة؛ لأن انتهاءها يعني ثقلاً أكبر على صدري من الملل وبطء مرور الوقت”.

كتب الروائي أحمد ناجي الجملة السابقة في يومه السابع في السجن بعد أن قضى عام 2016 عقوبة السجن لمدة 10 أشهر بتهمة خدش الحياء لنشره فصلاً -اعتبروه اباحيًا- من روايته استخدام الحياة في جريدة أخبار الأدب. نحن لم نختبر تجربة السجن من قبل، لكن جملة ناجي تضعنا في تماس مع دوائر العقاب التي تلتف حول عنق السجين، لا لقتله بل لتهديده بالموت، والعقاب هنا هو الوقت الذي كلما مر بطيئًا أصبحت حياة السجين نافذة تطل على الموت بحقيقته ومجازاته. يوثق ناجي اللحظات التي لم يقرأ فيها ويصفها بالثقل، وفي المقابل تصبح لحظات القراءة هي الخفة التي يتمنى ألا تنتهي لأن الحياة تصبح فيها أكثر احتمالاً. 

الأمل والهواجس والخيبات

لم تقتصر المشاركات في الوسم فقط على أصدقاء علاء عبد الفتاح المقربين أو المتضامنين عن قرب مع قضية، اللافت أن المشاركات اجتمعت على الدعم والتعاطف في محاولة للوقوف على أرض مشتركة تعري شيئًا من الحقيقة الغائبة. تحدثت مع الصحافية التونسية ريم بن رجب وعن مشاركتها في الوسم قالت: “لا أعرف علاء عبد الفتّاح بشكل شخصيّ ولم تجمعنا الصدف سابقًا ولكنّني أحسّ بأنّه قريب، قريب جدًا من هواجسنا وأحلامنا وخيباتنا نحن اللواتي والذين آمنّا بالثورة. علاء يختزل معاناة جيل كامل صدّق لحظة 2011، تلك اللحظة التي أهدتنا الأمل وسرقته منّا دفعة واحدة. كيف نُحافظ على الأمل ونحن نعيش في ظلّ أنظمة تروّج للرداءة وتحتفي بالزنازين والعصيّ. تبدو فكرة الأمل صعبة بعد سنوات طويلة من الفجائع ولكنّني عندما أتذكّر بأنّ علاء وغيره من المعتقلين/ات مازالوا يقاومون حتّى بأجسادهم، يُدغدغني الأمل وأصدّقه من جديد”.

تعيدني كلمات ريم إلى المقاومة كفكرة تعيد تشكيل وطرح نفسها عبر الوسم، سألتها عن التأثير الذي يطبعه الوسم على صفحة اللحظة الحالية من الواقع؛ استكملت قائلة: “شاركت في حملة “نقرأ مع علاء” إيمانا منّي بفكرة الأمل كسبيل للنجاة ولمقاومة رغبتنا في الإنطفاء. أحسست بأنّه يُمكننا تجاوز ذواتنا والانصهار داخل مجموعة تحمل القيم والمبادئ نفسها. فكرة الحملات قائمة أساسا على تهديم البُنى الفردانيّة التي طوّقتنا في السنوات الأخيرة فصرنا عاجزين وعاجزات عن التحرّك كمجموعات. همّ الجماعة تبخّر تدريجيّا وصارت همومنا الفرديّة، على أهميّتها، أكثر كثافة وحضورا في اليوميّ. مثل هذه الحملات مهمّة ليس فقط لطابعها الرمزيّ في علاقتها بفكرتيّ الأمل والمجموعة وإنّما للتذكير بشكل مباشر وصريح بأنّ السجون هي مؤسّسات عقابيّة تضبط أجسادنا وتقمع حريّاتنا. السلطة تُريد تأديبنا وتكميم أفواهنا لا غير وهي بعيدة كلّ البعد عن فكرة العدالة. 

شاركت ريم في الوسم بكتاب “الحبس كذّاب والحيّ يروّح”، وعن اختيارها للكتاب قالت: “الكتاب للمناضل اليساريّ التونسيّ فتحي بالحاج يحيى. صحيح أنّ هذا الكتاب يُعدّ من من بين أهمّ دفاتر اليسار السجنيّة في وقت بورقيبة في السبعينات ولكنّه مختلف وبعيد كلّ البعد عن السرديّات المتداولة. الكتاب خفيف الظلّ ويحتفي بشخصيّات من الهامش لا أحد تجرّأ على الاحتفاء بها. سيُحبّ علاء هذا الكتاب وسيبتسم، وسنبتسم جميعا ذات يوم رافعين ورافعات نخب الحريّة”.

كالطيران بعيدًا

لفت نظري مشاركة لبنى علاء في وسم “نقرا مع علاء” باختيار رواية “طيران” أول أعمال الكاتب والمترجم محمد أ.جمال. أعرف لبنى، صداقتنا الافتراضية على تويتر تخبرني عنها الكثير، فتاة ذكية، بسيطة، صريحة لدرجة محببة إلى قلبي، كما أنها  قارئة جيدة تملك ذائقة خاصة في الكتب التي تقتنيها؛ تحدثت معها عن مشاركتها في الوسم فاستعادت بنبرة حميمية ذكريات بعيدة “تقول أمي أن جدتي كانت دائمًا تكرر “ربنا يكفيكم شر عتبتين، السجن والمستشفى”. أعاني من الضجر الدائم ولا استطيع البقاء في مكان واحد لفترة طويلة، أتذكر دعاء جدتي، ودائما يأتي علاء في بالي. من بداية وعيي بالثورة وعلاء يسجن، أتذكر أنني رأيته مرة واحدة، كان خارجًا من السجن لتوه وتم سجنه بعدها بفترة قصيرة”. 

سألتها لماذا اخترت رواية “طيران” تحديدًا لتشاركي بها في الوسم؟ قالت:”أتغلب على ضجري بالقراءة، أقرأ في أي وقت وفي أي مكان ويزعجني حين أعجز عن ذلك، لا أتصور أن يضعني أحدهم في غرفة ويتركني هكذا. قرأت رواية “طيران” وسحرتني الحرية، في مراهقتي كنت أحلم دائمًا بالطيران، في الحلم كنت أجري بأقصى سرعة ثم أبدأ بالارتفاع عن الأرض، في الرواية كان الطيران أسهل من ذلك بهدوء ويسر ترتفع عن الأرض. ملأتني الرواية بالخفة، كنت أقرأ بخفة وانهيتها بخفة، حين رأيت هاشتاج “اقرأ مع علاء” تمنيت أن يشعر بهذه الخفة”.

ما دفعني للحديث مع لبنى أنها تطرقت في الوسم إلى الكتابة عن مفارقة مؤلمة قارنت فيها بين عدد قراءاتها وبين عدد قراءات علاء في السجن، قالت لي: “بعد قراءتي لـ”طيران” قرأت 55 كتابًا، عبرت 55 طريقًا ومررت ب 55 حكاية، وخلال هذه المدة عبر علاء طريقاً واحداً ومر بحكاية واحدة، السجن. أشعر بالعجز وليس بيدي غير التمني، أتمنى أن تؤنس وحدته الأمنيات، أمنياتنا جميعًا، أتمنى أن يخرج ليقرأ كل ما دعي لقراءته، أتمنى أن يخرج ليقرأ ويدعونا نحن للقراءة”.

تدعونا مشاركات الكتب في الوسم إلى تأمل تأثيرات حملة التضامن والشعور الذي يطرح نفسه بقوة، في الأمر مقاومة ما، وقراءة جديدة للحرية كسلوك إنساني يومي؛ إن أبسط الأفعال التي نمارسها في يومنا العادي ونمرر بها الوقت في المواصلات العامة وعلى الأرائك المريحة وفي المقاهي هي رفاهية لا يمتلكها سجين في زنزانته، والوقت الذي نهدره بكامل إرادتنا يكبل السجين ويحاصره، إذا يسحب منه امتياز القراءة، سينفرد بوحدته، بصمت الجدران الخرسانية، بحقيقة أنه لا مفر لديه من اللحظة الحالية ولا حتى في الخيال. أليست القراءة نوعًا من الهروب؟ بلى. ربما يجيبنا هذا السؤال عن أسباب تعنّت السجان مع سجينه وتعمد حرمانه من الكتب.

من المنطلق ذاته يمكننا تأمل الحالة النفسية التي تحاصر علاء الآن وأي سجين مثله ينفرد بوحدته، حرمانه من أي نشاط وحبسه داخل جسده هو بمثابة عقاب معنوي يلف السجين في دوائر الاختناق والكبت، اليأس، فقدان الأمل الذي بات شبحًا مرعبًا. نحن نعيش في زمن يهرب فيه الإنسان من ذاته وأفكاره لينجرف في ملهيات الحياة اللانهائية، يمكننا الآن تخيل الإنفراد بالذات كعقاب لا يغتفر، لنتخلى عن التمسك بالأمل.

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.