fbpx

الفن مقابل الغذاء: هل ننجح بما فشل به عنترة؟ 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في بلد ينهمك أهله في تأمين الطعام، هل من الأخلاقي أن نسأل من يجهد لتأمين قوته أن يتوقف هنيهة لقراءة قصيدة حب؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“هل غادر الشعراء من متردم/ أم هل عرفت الدار بعد توهم”، بهذه الأبيات نظم عنترة بن شداد مطلع معلقته الشهيرة على وزن البحر الكامل. عنترة المولود عام 525 للميلاد، وهو أقدم الشعراء الذين نتعلم قصائدهم في المدرسة، يقول Yن الشعراء لم يتركوا موضوعا الا ونظموا عنه شعراً. بعد حوالي 1500 سنة، كيف نبتكر جديدا اليوم؟ 

معضلة الابداع والتجديد تمتد الى أبعد من الشعر لتكون في صلب العمل الروائي والصحافي والاعلامي لاسيما الشق الثقافي منه. يواجه العاملون في هذه المجالات تهميش رؤساء التحرير والجهات المانحة للمواضيع الثقافية أو، في أحسن الأحوال، تهميش تسييسها وطرحها كمواضيع إنسانية بحتة بينما تكون في صلبها سياسية. تنقل الأعمال الفنية جماليتها المنزوعة من السياق العام بدل من أن تنقل بسبب رأي مبتكرها، ليصبح الفن إبداعاً مجرداً من الحقائق يباع كسلعة لنجاحه في الاستمالات العاطفية.

تحاك هذه الاستمالات حول المعاناة التي تتعرض لها فئة أو فئات مهمشة في مجتمعاتنا العربية أو حول ضحايا الحروب والانقلابات والثورات. كأن الإعلام ودور النشر برمتها تريد أن تكون صوتا للمستضعفين. بينما تزداد أعداد المستضعفين وتتكرر قضاياهم وتتقاطع قصصهم، تتمدّد الأنظمة التي تفاقم مآسيهم ويطول عمر الحروب والاحتلال والغزو. ليصبح الشق الثقافي عبارة عن تكرار المآسي وتصويرها أو تصوير العيش في ظلها والتعامل معها اذ لم تعد حدثاً عابراً بل أمست ظاهرة يعاد انتاج محتوى ذكراها سنويا وواقعا يرافق الأجيال. 

التلقي المتكرر للماسي لا يولد سواها ويخلق بيئة عديمة الابتكار، إذ يتعين على العاملين في الشق الثقافي العيش في عالمين متوازيين: الأول حقيقي ودائم ومتكرر واخر طوباوي وفاضل بتغيره المستديم. يجبرون على رؤية العالم بعين الحاضر وذوق الماضي وعقل المستقبل. يشهدون على قنص متظاهرين عزل بين الجموع ويحسبونهم وروداً حمراء في حقل. ينجون من انفجار ويصورونه انفجارا كونياً ينذر بولادة عالم جديد. يكتبون شعرا جماليا عن قباحة العالم ويخلقون حياة من رماد.  

قد يرتكز العمل الثقافي على النقد الفني وهنا تكمن مشكلة أخرى: اختيار الفنان. بعد التحقق من انتماءاته السياسية والتأكد أنها تناسب تطلعات الطاقم الاداري أو الفريق التحريري، يقترح الصحافي أو الإعلامي اسماً ليستضاف في مقابلة أو يكتب عنه مقالا ينتزع عمله من السياق السياسي. يقول لي رفيقي الذي يعمل في اعداد برنامج ثقافي على تلفزيون عربي:”لم يرفض  اسم اقترحته خلال السنوات العشر التي عملت خلالها في هذه المحطة. الأسماء التي سترفض معروفة سلفا لذلك أتفادى اقتراحها كي لا تنشب خلافات مع مدير البرامج”. جزء من الواجبات يكمن في معرفة اختيار الضيوف والجزء الآخر في معرفة اختيار المواضيع، والإبداع يأتي لاحقا أو قد لا يأتي لكنه ليس أولوية لدى المحطة (المنتج) لذا لن تكون أولوية لدى المستهلك (المشاهد).

لذلك، تعج وسائل الإعلام ورفوف المكتبات بالكتّاب والمحللين السياسيين في ظل شبه غياب أو شح في العمل الإبداعي بهرمية واضحة بالتعامل مع الكتّاب والمواضيع المطروحة في الكتب ليكون كتاب عن الثورات العربية أكثر أهمية وترويجا من آخر عن الفن الذي خلق إبان هذه الثورات أو للدفاع عنها. كما تحشر الفئة الأولى من محطات التلفزيون والراديو في لبنان، وهي تلك التي تحمل ترخيصا بنقل الأخبار، المقابلات مع الفنانين (الفنانين وليس المشاهير) والفقرات الثقافية في “عالم الصباح” وتخصص سائر النهار لمقابلات مع “أخصائيين في الشأن العام” وللنقل المباشر. 

لا يسع الجمهور أمام هكذا محتوى الا أن يشاهد ويسمع ويعيد الخطاب فيحور عن الشعر والرسم والفلسفة شيئا فشيئا ويعتب على العاملين في هذه المجالات باعتبار عملهم “لا يعبر عن الواقع”. كيف تعبر عنه وهي تعاني التهميش و”المنتجة”(التوليف) لتلائم تطلعات التحرير ورأي الممول وتتقلص لتعبئة الهواء الضيق المتاح لها؟ الوسط الثقافي يخسر حريته اذ يكبله فريق الانتاج فيتفرغ من مضمونه ليعبر عن المشهد السياسي المتكرر وعن تطلبات الجمهور وعن ادارة المحطة التي تسعى إلى الربح. 

اليوم، العمل الفني يعبر عن جميع الأطراف الا صاحبه فيغرّب الفنان عن عمله ليؤمن قوته. يكتب ليأكل وليقرأ الآخرين رأيهم بكتاباته. تمسي المعادلة للعمل في الشقّ الثقافي: الرأي مقابل الطعام. وبهذا تكلفة مضاعفة على الفنانين اذ إن العمل الذي يفترض أن يعرف حياة العامل أصبح يعرف حياة غيره. والفن الذي يفترض أن يكون ردة فعل جمالية على قبح العالم يتحول الى رد آخرين باستخدام موهبة الفنان. والفنان أداة لا أكثر، ازميلاً ينحت أو كاميرا تصور لكنه ليس انساناً يدافع عن نفسه بواسطة فنه. 

يرسل الفنان إلى ساحة حرب لينقل أحداثها كالمراسل تماماً. لكنه لا يحتمي بدرع، بل تنتزع أسلحته اذ تنتهك حريته في التعبير. والفن هنا كأداة للعيش ووسيلة لحماية الذات واختلاس لبعض الحياة أو محاولة إنقاذ ما تبقى منها. ومنعه أو تحديد أطره يكون بمثابة قتل بطيء متعمد لكل من يمارس الفن للعيش أي البقاء على قيد الحياة عبر تأمين الحاجات الأساسية كما محاولة انقاذ الذات اليومية. 

الرقابة الدائمة والقوانين المجحفة تقتل الحرية شيئا فشيئا وتجبر الفنان على صنع جمال تحت المجهر أو تحت مقصلة الرقابة. فن يدقق به قبل النشر وبعده فيمنع من النشر ويلاحقَ ناشره. أو ينشر وينبذه الجمهور لأنه “لا يحل مشاكله”. أو يعدَّلَ ليلائم مدير البرامج أو دور النشر التي، نود لو نحاكمها، لكنها تؤمن  منبراً ولو ضيقا وتضمن مساحة ثقافية ودخلاً بسيطاً، فتصبح العدو والحليف، المكروه والمبتغى. 

والأهم، تمثل هذه الجهات السلطة الوحيدة التي قد تمن على الفنانين بالرضا يوما ما في ظل غياب سياسات لدعم الثقافة وصون حقوق الفنانين، إلا أولئك الذين لا ينتقدونها ويحوّرون اهتمام الناس عنها عبر خلق فن يروج للسردية التي تريد نشرها أو على الأقل لا تدحضها. لذا تتحول حرية التعبير من شعار رنان الى سياسات اقتصادية واجتماعية تؤمن عيش الفنان كي لا يرتهن فنه أو ينحصر ابداعه على طلب السوق. كما أن هذه الكفالة، التي لا يسع أي جهة تقديمها سوى الدولة، تضمن تنوعاً للجمهور لينتقي ما يفضل، مما يترك للفنانين خيارا وحيدا وهو خلق فن غير سياسي من غزل ليتماشى الفن مع أذواق المحررين والجماهير كافة. لكن في بلد ينهمك أهله في تأمين الطعام، هل من الأخلاقي أن نسأل من يجهد لتأمين قوته أن يتوقف هنيهة لقراءة قصيدة حب؟ 

إقرأوا أيضاً: