العامل النفسي هو الذي يتحكم هذه الأيام بسعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية. هذا ما يقوله الخبراء الاقتصاديون. لا منطق اقتصادياً ولا مالياً، ولا اسباب ملموسة(تتعلق بالعرض والطلب) للتلاعب الكبير الذي يطال سعر الصرف، سوى المضاربات والأثر النفسي الذي يبدو انه يتحكّم باللعبة.
ثمة لاعب، أو لاعبون كثر، في المنظومة، يعرفون تماماً دور السايكولوجيا في السيطرة على الجماهير. شيء يذكّر بكتاب عالم الاجتماع الفرنسي غوستاف لوبون الشهير(“سايكولوجيا الجماهير”- دار الساقي، ترجمة هاشم صالح)، الذي يرى فيه أن الجماهير لا تعقِل، وهي تتصرف بلاوعي حيال ما يقوله لها الزعماء، فترفع أقوالهم إلى مصاف المثال ثم تندفع بها. ومن لا يشاطرون الجماهير اعجابها بكلام الزعيم يصبحون هم الأعداء.
مع الحذر طبعاً والإنتباه من الإنسياق إلى المنطق العنصري الذي يختبئ(وأحياناً يجاهر بحضوره) بين كلمات لوبون ونظرياته التي تعود إلى القرن التاسع عشر وتشبه زمنه، يمكن بقياس بسيط على الحالة اللبنانية اليوم، أن يظهر لنا حجم تأثير المنظومة على الجماهير، واللعب على نقاط الضعف النفسية لدى الاغلبية، وإلهاء الناس حتى عن معيشتهم اليومية، بألعاب ذات طابع نفسي، تشبه التعلّق المرضي لمدمني القمار المفلسين والمديونين باللعب في الكازينو.

ما حدث في اليومين الماضيين، من ارتفاع جنوني في سعر صرف الليرة مقابل الدولار، ثم انخفاضه دفعة واحدة بنسبة أعلى، يشكّل مثالاً ساطعاً على التحكّم المدروس من قبل المنظومة بسايكولوجيا الجماهير اللبنانية، التي انساقت بمعظمها إلى لعبة المضاربات، إما من موقع المضارب، أو من موقع المشارك بالمضاربة، أو من موقع المتفرّج والمتحمّس للمضاربة، أو من موقع المتلقّي لأثر المضاربات التي لا ناقة له فيها ولا جمل.
ثمة لبنانيون كثر أصيبوا بالإحباط بسبب انخفاض سعر صرف الدولار، وشعروا بالخسارة بسبب الانخفاض المفاجئ بالسعر بعد تصريح حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي اعلن فيه عن تأمين الدولارات للجميع عبر منصة صيرفة ابتداءً من يوم (غد) الإثنين. كان هذا التصريح كفيلاً بتراجع الدولار من ملامسة 37 الف ليرة لبنانية، إلى ما دون 27 ألف ليرة لبنانية. وكان لبنانيون كثر، في خضمّ الارتفاع المتسارع للدولار بعد صدور نتائج الانتخابات النيابية، ينتظرون بلوغه مستويات قياسية قبل ان يصرفوا ما بحوزتهم من دولارات، ليشعروا بشيء من الربح في الكازينو، الذي لا يربح فيه إلا أصحابه، فيما روّاده خاسرون دائماً بالمحصّلة. وروّاد هذا الكازينو هم اللبنانيون جميعاً، جماهير الطوائف والهاتفون بحياة الزعماء، فضلاً عن ما يسميهم لوبون في كتابه بـ”الأفراد المعزولين”، أي اولئك الخارجين على الجماعات، والذين يتسنى لهم في كثير من الأحيان أن يحكّموا العقل وان لا ينساقوا إلى “الانفعالات التحريضية”.

لكن في خضمّ السعار الجماعي، لا رجحان للعقل، وصوته ضئيل ومخنوق لا يمكن سماعه في موجة الضجيج العالي، التي تشوّش على كل فكرة منطقية أو أي طرح عقلاني أو إصلاحي. تنساق الجماهير اللبنانية، المتجانسة منها(في الطوائف والملل نفسها) وغير المتجانسة في المنظومة الطائفية كلها(مجموع الطوائف التي تشكّل النظام) بغالبيتها إلى العواطف والانفعالات في مقابل الهدوء والتروي، وإلى الربح السريع (الخاسر) في مقابل تخفيف الخسائر الهائلة ومحاولة إصلاح ما يمكن اصلاحه.
تنشغل هذه الجماهير بألعاب الخفة التي يقوم بها سحرة النظام، وكبيرهم الذي علّمهم السحر رياض سلامة(الذي تصفه وسائل إعلام المنظومة بـ”البطل”)، عن أبسط حقوقهم البديهية كتأمين حدّ أدنى من الكهرباء إلى البيوت، أو وسائل النقل الرخيصة، أو توفير الخبز أو الطبابة والدواء. في العتمة شبه الشاملة، يتابع كثير من اللبنانيين لعبة الدولار وهو يرتفع وينخفض كدمية خشبية مربوطة بخيطان يتحكّم فيها “محرّك العرايس” رياض سلامة من مكان خفيّ، ويستخدمها لحرف الانظار عن مأزق المنظومة الذي يتعاظم بفعل اللامبالاة والاستمرار بالعبث والفساد وبسياسات تحميل الخسائر للناس عبر جمع أصول الدولة في “صندوق سيادي” وبيعها لإنقاذ المصارف والسياسيين والمنتفعين من المنظومة، وعدم تحميلهم أي خسائر تذكر.
فيما جماهير المنظومة الأوفياء، بالإضافة إلى المأخوذين في سيلها الجارف، يؤمّنون لها شبكة أمان عبر الإنسياق في خطتها المدروسة لإلهاء اللبنانيين عن حقوقهم البديهية، ودفعم إلى التجذيف في بحر بلا شطآن وبلا نهاية، بقوة التحريض وبقوة الإنفعالات. فهذه الجماهير، كما يقول لوبون “تستطيع ان تعيش كل أنواع العواطف، وتنتقل من النقيض إلى النقيض بسرعة البرق وذلك تحت تأثير المحرّض السائد في اللحظة التي تعيشها”.
هكذا تفرح هذه الجماهير بغالبيتها، بشكل مدهش- بدل ان تحزن- بارتفاع سعر صرف الدولار. وتنتقل، نفسياً، إلى النقيض بسرعة البرق، حينما ينخفض سعر الدولار، فتحزن وتصاب بالإحباط، بدل ان تطمئن، لأنها لا تثق بلاوعيها بالمتحكّمين بالدولار صعوداً ونزولاً. فهي، دائماً بحسب لوبون، “تشبه الأوراق التي يلعب بها الإعصار ويبعثرها في كل اتجاه قبل ان تتساقط على الأرض”. ويمكن مع قليل من التصرّف(والصرف) استبدال الإعصار برياض سلامة، والأوراق التي يتحدث عنها لوبون بأوراق نقدية من فئة المئة ألف ليرة، وتخيّل المشهد ودلالاته!
إقرأوا أيضاً: