fbpx

من يقرر كيف نُشفى من المتحرشين؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

اليوم أطلب من الذين يرمون تحليلاتهم أن يضعوا أنفسهم ولو لثانية في حذاء أي ضحية، أن يضعوا أنفسهم مكان ردود الفعل التي يمكن أن  تختلف بين ضحية وأخرى.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في كل مرّة نسمع بخبر تحرش ضحيته فتاة من الطبقة العاملة الكادحة غالباً ما تظهر شرائح من طبقة مثقفة تناقش وكأنها محيطة بكل شيء، حتى بمشاعر الفتيات وردود أفعالهن. نُواجه بنقاشات غريبة وغير واضحة. 

من السهل أن نعرف أنّ “التلطيش” في الشارع هو “تحرش لفظي”، ومن السهل أن نسمّيه تحرشاً، ومن السهل أن نحييّ فتاة ضربت شابا قال لها “شو يا قشطة” أو رمته عن “الموتسيك” (الدرّاجة النارية بلغة شعبية). من السهل أن ندعمها، ومن السهل أن نتقبّل جميع ردود فعلها، فلا يوجد أي مسألة غير واضحة هنا، هي فتاة تمشي في الشارع قرر شاب أن “يتحرش بها لفظياً”، وهي حرّة ولها الحق الكامل في القيام بردة الفعل التي تريدها. لكن الوضع يصبح معقّداً في حال أقدم شاب “مثقف” على التحرش بفتاة في الـ18 من عمرها. هنا تطالعنا نقاشات تبدو غريبة ويبدأ مفهوم التحرش الذي من السهل أن نبني “تسمية” له في حالات أخرى يتغير ويصبح مائعاً. في حالة كهذه يغلبنا الشعور بأنّنا محاصرون من طبقة مثقفة وبما تفهمه عن الحياة، فقط لأنّ المعتدي كان صديقاً ربما وسيماً، لديه مستقبل وعاش حياة مهنية ناجحة. 

حينما كنت في الـ13 من عمري، تعرضت للتحرش، وكان أكثر من “تحرش” بالنسبة إليّ. لا أرغب في استعادة تفاصيل هذه القصة، فقد كانت قاسية، واستغرقني الأمر سنوات لأفهم أنّ ما جرى لم يكن بسببي. حينما أخبرت طبيبتي النفسية عن الأمر، كانت محادثة عابرة، فأنا لا أضع أهمية لهذه القصة، لأنّني بالفعل شفيت منها، وهذا بالطبع بفعل قدرتي على تخطي الأمور والوقوع فيما يسمى بـComplex PTSD، حيث أصبحت الحادثة مجرد تروما بين “تروماياتي” الكثيرة. 

تخبرني طبيبتي النفسية التي اعتمدت أسلوب العلاج المعروف بـpsychoanalysis أنّ هذه ليست المرة الأولى التي أتعرض فيها لاعتداء جنسي أو تحرش. فشرحت لي أنّ كل من يتعرض لهذا النوع من “الاعتداء” وهو بمثابة “احتلال” يكون قد جرّب هذا الأمر مرة، ويشعر المعتدي أنّه في إمكانه أن يفعل هذا مرة أخرى، لأنّني “أبدو كضحية”. رفضتُ تحليلها بالفعل. ورفضتُ أن أغوص في فكرة أنّ هناك من احتلّ جسدي قبل سن الـ13. أنا لا أتذكر، ولا أملك التفاصيل، ولا أريد أن أغوص فيها بالفعل. 

ظلَمَنا فرويد بهذا التحليل. لقد جعل التحرش والاحتلال والاعتداء أمرا سيستاميكيا، وله قواعد. أخفى عنّا مشاعرنا التي تتغير وحالاتنا التي تتقلّب، ربط كل شيء بلا وعينا، وأصبح يخبرنا أنّ لا وعينا يجذب متحرشين، ليتناسى ظروفنا ومشاعرنا. 

هنا تقع خلافاتنا مع جيل فرويد، أو الجيل الذي استمع إلى تحاليله. فرويد يجعل المشاعر “منظومة” بقواعد، وهكذا ربّى جيلاً كاملاً على فهم الأمر استناداً إلى هذه القواعد. أخفى عنهم ماذا يعني أن نكون أفرادا، عبر تجارب مختلفة وقصص فريدة، ومشاعر غير متشابهة. 

اليوم أطلب من الذين يرمون تحليلاتهم أن يضعوا أنفسهم ولو لثانية في حذاء أي ضحية، أن يضعوا أنفسهم مكان ردود الفعل التي يمكن أن  تختلف بين ضحية وأخرى. ومع هذا، ما زلنا نستمع لتحاليل مبنية على تجربة المتفرج. 

“أنا كنت ضربتو” و”أنا كنت قلتلو لأ”، كلها تحاليل بالية قديمة. أذكر أنّ صديقة لي أخبرتني منذ سنة أنّ شابا تعرفت إليه عبر تطبيق “تندر” حاول اغتصابها. والفريد في قصتها أنّها كانت أول فتاة تشرح لي لماذا قابلت هذه المحاولة بما هو معروف بالـFreezing. تجمّدت يومها، لكنها تجمدت لكي تخطّط للهرب، فقد بدا أنّه غير متّزن، تجمدت حتى خططت تكتيكياً للهروب لتتمكّن من استجماع قواها بعد الصدمة، فتذكرت جميع أساليب الدفاع عن النفس قبل أن تطرحه أرضاً وتهرب، وهكذا هربت. ربما ما فعلته يبدو مفهوماً للطبقة “المثقفة”، فهي تملك تبريراً للأسباب التي جعلتها تتصرف بهذه الطريقة. لكن الضحية الأخيرة التي نشرت قصتها في لبنان عن تعرّضها للتحرّش من صحافي معروف، لا تملك تبريراً لـ”جمودها”، ولماذا لم تهرب. تملك تبريرا لنا، اللواتي يفهمن ماذا يعني أن تكون في هذا المكان وهذا  الزمان وهذا الظرف مع رجل كهذا، في هذا العمر، ومع هذه المشاعر وردود الفعل. نحن نفهم الضحية وما تعرّضت له من دون أن نضطر إلى وضع التفكير في مصير المعتدي ضمن أولوياتنا، ومن دون أن نكترث، في خضّم تدمير مستقبل الضحية، لما سيجري لمستقبل الجلّاد. نفهم مشاعرها ورحلة الشفاء التي مرت وتمر بها. 

رحلة الشفاء التي تختلف بيني وبينك وبين التي علمها والدها كيف تدافع عن نفسها. رحلة الشفاء التي ربما دفعتها إلى فضح هذا الصحافي. ربما هذا ما جعلها تُشفى منه ومن قرف ما فعل. ومع هذا نرى من ينزعج ويحزن لأنّ الضحية قررت الانتقام، وقررت العقاب. الضحية لم تقرر بالفعل. هو الذي قرر للأسف، وهو ما أوصل نفسه لهذه المرحلة. 

لم يعلّمني والدي شيئا، لم يعلّمني حتى أن أقود دراجة، ومع هذا، أنا من الأشخاص الذين يصرخون ويضربون ويخططون عندما أكون في خطر. آخر مرة حاول شخص اغتصابي، هي حينما كنت في الـ13. لم أصادف حادثة مماثلة بعدها. ولم يجذب لاوعي أي مغتصب منذ ذلك الحين. في المرة التي تعرضت إلى تحرّش لفظي في الشارع، في وسط الضاحية الجنوبية، صرخت في وجه الشاب بأقسى شتيمة سمعها ربما. وهكذا أقول لفرويد “خود”. لكن بالطبع، ما زلت أحمل ردود فعل غريبة، أجابتني عنها طبيبتي النفسية. علاقتي مع “الاحتلال” لحيزي الخاص والانتهاك وعلاقتي بجسدي. وهنا ربما أكون ممتنة إلى فرويد ونظرياته الغريبة، والتي جعلتني أربط تفسيرات عدة بما يجري. هناك الكثير من الظروف والمشاعر، نحن أفراد بقصص مختلفة، وخلفيات أخرى. تقول لي صديقتي إنّ فكرة أنّني مثلية أمر جيد لي في قصص كهذه. فإن أردت أن أخبر قصتي عن شاب تحرش بي، لن يقول لي أحد أنّني أغريته أو أعطيته wrong signal، ومن السهل تصديقي. وهذا أمر حزين، أن تفكر الفتيات بكل هذه المفاهيم قبل أن تتكلم. أن تفكر أنّ هناك شريحة في الخفاء تحكم على ردة فعلها، وتحاول أن تفهم إن كانت قصتها حقيقية بناءً على ما تفهمه من الحياة وما مرت به. كل هذا أمر يخذلني، ويخذل صديقاتي اللواتي ما زلن يخفن من التكلم والإفصاح. 

أختم هذا من دون الحديث عن أية مفاهيم معروفة مثل الـpower dynamics والـshaming وما إلى هنالك. أحياناً القصص أقرب إلى المثقفين من هذه التسميات كلها وهذه التعريفات التي يراها البعض معقدة. أطلب من شريحة المثقفين التي أرى خطاباتها على فيسبوك، أن لا تتجاهل ولا تقلّل من أهمية مشاعر الفتيات، أو من ردود أفعالهن أو من رحلة الشفاء الخاصة بهن.

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!