fbpx

الدورة الشهرية ليست مجرد حدث علمي!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

هكذا كبرنا، نخفي عن العالم أننا كائنات تنزف وتتألم حد الجنون، يُطلب منا ألا نخبر أحداً تجاربنا. كبرنا ونحن نعتقد أن “دورة” كلمة إرهابية، وأن رحمنا مجرم حرب أو مطلوب سياسيّ.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

الساعة الثالثة فجراً، أتشارك أنيني مع وسادتي بصوت خافت، لا ضوء في البيت ولا في الشارع ولا في المدينة. أحدّق في اللاشيء مستنجدة، لا يهمني في هذا الوقت من سينقذني فأنا حرفياً على وشك الجنون، على وشك القيام بأي شيء لأتخلص من هذا الألم. الرابعة فجراً، هذه حبّة الدواء الثانية، لا بد أن يكون لها حكم آخر، لا بد أن تأتي هذه اللحظة أخيراً، عندما يهدأ العالم في قلبك وتسكت الأصوات في رأسك ويستريح جسدك. أنا لا أتكلم عن لحظة الموت أبداً ولا عن يوم القيامة، هذه لحظة الحياة والبداية الجديدة التي تأتي بعد ساعات متواصلة من الألم المخيف. ثم تصبح الساعة الخامسة فجراً، لقد عوّلت على الحبة الثانية أكثر مما يجب، لكن لا بد للحبة الثالثة أن تشفيني. ثلاث حبّات والالم لا ينقص ولا يملّ، أشعر بأن كل من تألم من فجر التاريخ حتى اليوم، يمر في جسدي. 

كنت أتمنى لو أن هذه المقدمة هي ذكرى أليمة لحدث حصل مرة واحدة وانتهى، لكنه وصف مبسّط لحدث يتكرر شهريّاً. هذه ليست معاناتي وحدي وليست المعاناة بجميع تفاصيلها، بل مجرد مقتطف من إحدى ليالي الدورة الشهرية، هذه احداث لم يخبرنا عنها أحد ولم يهيئنا أحد لتحملها. كنّا صغاراً نرى أمهاتنا مُتعبات، يستخدمن أشياء غريبة مرة كل شهر، أشياء لا يجب على رجال البيت أو صاحب الدكان أو المارّة في الطريق أن يروها، لذا كنا نبتاعها نيابةً عنهنّ بكيس أسود حالك ونحاسب صاحب الدكان بسرعة ونرحل، محمرّات الوجه خائفات من أن يكتشف فعلتنا أحد، نهرول الى البيت نسلم الأمانة دون أن نسأل. ثم كبرنا وباتت هذه الاجنحة التي لا تشبه اجنحة الملائكة ولا الطيور بشيء، أغراضنا نحن. لم تتغير طريقة الشراء، ما زلنا ندخل الدكان ونطلب من صاحبه كيساً أسود بالسر فيعطينا إياه دون النظر في وجهنا، كأننا على وشك إخفاء جثة فيه. 

عندما بلغنا العاشرة، طلبت المعلمة من بنات الصف الحضور فوراً إلى القاعة، استقبلتنا هناك مندوبات الأجنحة ليشرحن لنا عن الدورة الشهرية والفوط الصحية. 

هكذا كبرنا، نخفي عن العالم أننا كائنات تنزف وتتألم حد الجنون، يُطلب منا ألا نخبر أحداً تجاربنا. كبرنا ونحن نعتقد أن “دورة” كلمة إرهابية، وأن رحمنا مجرم حرب أو مطلوب سياسيّ، كبرنا ونحن نعتقد أن الآلهة والطبيعة تكره النساء، نشعر بالخجل والعار من أجسادنا، ننعزل في غرفنا نتألم ونبكي وحيدات وممنوع علينا الصراخ. 

قرأت مرة أن كلمة “تابو” تعني في الأصل دم الحيض، واليوم أصبحت كلمة تابو تعني كل ما هو “خط أحمر” وممنوع أو “مقدس” ولا يمكن المساس به. أصبحت الكلمة شائعة بخاصة في مجال الصحافة، حيث أدرج تحتها مئة عنوان ممنوع من التناول. كانت أجسادنا منبع هذه العناوين، وعلى رأس القائمة كانت دورتنا الشهرية. لسنين طويلة اعتقد العالم أن النساء مدنسات وساحرات وشياطين بسبب الحيض، مُنعنا من الاقتراب من الطعام لأننا نفسده، أُرسلنا بعيداً من القبائل وتُركنا لمواجهة الوحوش وحدنا لأننا كنا نحيض، ويا ليته تاريخ. ما زالت بعض النساء تضطر لدفن “قماشة الحيض” خوفاً من العار وخجلاً من العالم. لقد رأى الرجل القديم قدرة النساء العظيمة على الإنجاب فحاول كسرها وإخضاعها للسيطرة، وبعض الرجال كانوا يقطعون أيديهم او أعضاءهم التناسلية أو أي جزء من جسمهم كي ينزفوا ويصبحوا هم المضحون والعظماء. وبعد تطور الحضارات لم يقلّ جنون المجتمع الابوي وادواته، ربما لم نعد نُرسَل بعيداً، لكننا بقينا منبوذات ومبعدات من السلطة والسياسة وسن القوانين وتنفيذها، ما زال الحيض يُعتبر فعلاً ناقصاً عند النساء، يمنع اتصالهن بربهن فالصلاة ممنوعة، يمنعهن من اتخاذ القرارات المهمة والمصيرية، لأننا “كائنات هرمونية”. بعد سنين من النضال والكفاح ومقتل كثيرات، استطعنا إخراج الدورة الشهرية من معتقل التابوهات قبل أن تعيد الابوية بأدواتها المختلفة زجها بمعتقل آخر اسمه العلم. صحيح أننا قادرات اليوم على الكتابة عن دورتنا الشهرية والحديث عنها، لكن أصبح هناك شرط جديد، لا بد أن نتحدث عنها بشكل علميّ وبمصطلحات “مناسبة”. فلا يحق لنا مثلاً التعبير عن شدة الالم دون التطرق لهرمون البروجيسترون والاستروجين، لا يحق لنا التعبير عن الانزعاج من الفوط الصحية، أو مثلاً كيف لا نقوى على خوض نقاش او الذهاب الى العمل او خوض امتحان أثناء الدورة. لا! أين العلم في ذلك؟ اين المصطلحات التي تؤكد للمجتمع أننا “خلوقات” لم نخرج عن طوعهم؟ أين الدلائل في نصي هذا على أنني ما زلت أخجل من دماء الحيض واكره جسدي النازف؟ 

إقرأوا أيضاً:

الممنوع الثاني هو الحديث السياسي عن أجسادنا. ممنوع ان نحاسب السلطات على أسعار الفوط الصحية الخيالية واختيارها دعم شفرات الحلاقة الرجالية بدلاً منها، وممنوع مثلاً لفت النظر إلى طبقية العلم وذكوريته، فغالباً ما لا يجد الحلول إلا عندما يتعلق الأمر بالرجل الأبيض والأغنياء. النساء ينزفن ويتألمن منذ بداية الحياة، وما زلن بلا دواء حقيقي لهذا الالم وهذه المعاناة. 

حين كبرنا، تعرفنا إلى نساء لا يخجلن، كنا في البداية نخاف منهن ونبتعد، كان أهالينا ينبهوننا ويحذروننا من الاقتراب منهنّ. تعرفنا إلى نساء يبتعن الفوط بلا خجل وأكياس سود، نساء يتحدثن بصوت عالٍ عن الدورة، يسمونها باسمها دون الحاجة لاختراع اسم تخفيفي، تعرفنا إلى نساء شرسات في الدفاع عن حقوقهن وحقوقنا، أدركنا حقيقة أن النساء اللاتي نبهونا من الاقتراب منهن هن بطلات نسويات يفهمنَ اجسادنا كما نفهمها نحن، يقدرنَ آلامنا ويشعرنَ بها، يصفقنَ لنا كلما نجونا، يُصدقننا ويؤمنَّ بما نقول. لقد كبرنا واصبحنا النساء اللواتي كنّا نخشاهن، وهو أعظم ما حدث لنا.

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!