fbpx

مجتمع “الكوير” في مواجهة ثنائيات الألوان والسياسة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لقد أكد مجتمع الميم/عين ويحاول تأكيد في كل فرصة متاحة، بأن قضيته ليست منفردة ولا معزولة عن بقية القضايا الإنسانية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أجلس في غرفتي أراقب علم الألوان وأفكّر، كيف لقضية وجودية مضرجة بالدماء أن يكون رمزها بمثل هذا الجمال؟ 

يأخذني الأمر دقائق، أسترجع بعض ما أعرفه عن تاريخ هذا الصراع، لا أضع الدماء جانباً بل أرى من خلالها كيف كان هذا الصراع تحديداً يُخاض بحب وحرية ومن أجلهما، بالألوان ضد ثنائية اللون وكل الثنائيات القاتلة.

 دقائق ويسقط السؤال أنظر الى العلم مرة أخرى فأخسر من قلبي دقّة وأسترجعها مع نفس عميق، كأنني ما رأيت ألواناً من قبل… كأنني فهمت كل شيء دفعة واحدة. لن أهدر مساحة واحدة من المقال لأضع فيها معلومات علمية وبيولوجية، “تبرهن حق وجود” أحدهم/ إحداهنّ، من يرى أن حياة الإنسان وحقه/ا فيها تحتاج إلى ورقة طبية أو نص ديني أو مادة قانونية، من يرى أنه في موقع السماح وعدم السماح، من يرى أنه قاعدة الكون الوحيدة ومصدر “الطبيعة” الوحيد، لن تعجبه السطور التالية فقد أخذت ما يلزم من الوقت لأقدّر حجمي تماماً في هذا الصراع وهذا العالم، ولا أنوي تخطّيه.

“تشيرز”، بعد هذه الجملة عادة نشرب من الكأس ونضحك، ربما نرقص، نكمل نقاشاً، نقبّل من نحب، أو حتى نصمت، لكنك لا تتوقع أن يصفعك أحدهم مثلاً، أو أن يسوقك الى خارج الحانة ليمارس عليك العنف بأقسى أشكاله، صح؟ هذا بالضبط ما حدث في نيويورك في أواخر حزيران/ يونيو 1969، بعدما رصدت شرطة نيويورك حانة للمثليين/ات والعابرين/ات، لم يُنهِ أحد كاسه يومها. وعندما يكون وجودك غير قانوني في بلد ما، من البدهي أن تهرب من الشرطة أو تحاول الهروب على الأقل، أو تأخذ الطريق الأصعب وتواجه. لم يهرب أهل الحانة يومها، ولم يفتحوا أيديهم وصدورهم لضربات الشرطة، لم يفكر أحدهم في الكأس بحد ذاته يومها، بل بحق البقاء على قيد الحياة، لذا واجهوا. لقد كانت لحظة تاريخية لا رجوع فيها الى الوراء، بعد هذه اللحظة خرج الآلاف عن الهوامش، في عالم الأسود والأبيض تجرأ أصاحب الألوان. بعد مضي أكثر من خمسين عاماً على حادثة Stonewall Inn، ما زال حزيران من كل عام شهراً للاحتفال بالألوان، بل أصبح شهراً للافتخار بالهويات الجنسية المتنوعة، غير المحصورة بثنائية ولا ثلاثية ولا حتى رُباعية. أصبح حزيران شهراً نقول فيه، لا شأن للدولة وأجهزتها ولا شأن لك في الشفاه التي أقبلها (بالتراضي). لكن قدرتنا اليوم وجرأتنا على الاحتفال باختلافاتنا أتتا على دماء الكثيرين الذين قضوا على كراسي الإعدام أو على جوانب المدن أو حتى في البيت. لم ينقلب التاريخ من تلقاء نفسه، ولم تنتهِ المعاناة بعد، برغم كل التقدم الذي أحرزته الحركات الثورية التقدمية. وأن لا تنتهي المعاناة يعني أن لا ينتهي النضال فتستمر المعركة. 

ومعارك اليوم تختلف عن معارك الأمس، بأطرافها وأدواتها وظروفها. وفي ظل التطورات التكنولوجية والسياسية وبعد استرجاع هوامش كبيرة جداً من الحريات الإعلامية التي ساهمت بدورها بفرض حقوق الإنسان المختلفة، وبظلّ استفحال الأنظمة بالإجرام والقمع ووقاحة التيارات السياسية اليمينية بالتشبث بمواقفها المعادية للحياة والإنسان ومستقبل البشرية، مطلوب اليوم من كل واحد فينا بخاصة من يمتلك قوة وموقع تأثير، أن ينحاز بالحق وبالدفاع والقتال مع أولئك الذين تحاول الأنظمة سحقهم، وأن يكون الانحياز قولاً وفعلاً، شكلاً ومضموناً. فلا ننبهر مثلاً بالشركات الرأسمالية التي تقوم على دماء الفقراء والتي تنتهج سياسات عنصرية ضد النساء والسود، إذا أعلنت عن دعمها قضية المثليين/ات والعابرين/ات عبر تغيير لون التطبيق أو “اللوغو” الخاص بها. ولا ننبهر بغسيل الأنظمة الوردي ووقاحتها بالإعلان عن دعمها مجتمع الميم/عين وهي تمارس أسوأ أنواع الاستبداد والإجرام بحق الشعوب. من أهم المعارك التي يخوضها مجتمع الميم/عين هي تلك التي يواجه فيها استغلاله واستغلال قضيته من قبل السلطات والانظمة والشركات التي تكون سبباً في معاناته أصلاً. 

لقد أكد مجتمع الميم/عين ويحاول تأكيد في كل فرصة متاحة، بأن قضيته ليست منفردة ولا معزولة عن بقية القضايا الإنسانية، وثبّت موقعه في الصراع الى جانب كل المسحوقين/ات بوجه الأنظمة التي تسعى جاهدة الى تفريق وتمييع وتسطيح المعاناة واظهارها على انها مرتبطة بأحداث فردية غير سياسية تختلف بين حالة وأخرى ويختلف الجلاد في كل قصة. لكن الحركة النسوية الكويرية استطاعت بعد سنين طويلة وبعد مراكمة خبرات في التعامل مع الأنظمة تثبيت وعي سياسي في صفوفها يمنع انجرارها مع التيار ويثبت مواقفها. نضال هذه الحركة مستمر وقيد التطوير، بخاصة أن الطرف المعادي في الصراع يطوّر أدواته باستمرار، لا سيما أن الصراع ليس واحداً في جميع الاماكن. فما يواجهه مجتمع الميم/عين في بلادنا يختلف عن الظروف في فلسطين المحتلة مثلاً، والتي تختلف بدورها عن أوروبا. لكن الانطلاق يكون من مكان واحد ولا بد من الالتقاء عند نقطة واحدة في النهاية، الصراع ليس واحداً بالاستراتيجية والظروف لكنه واضح في أهدافه.

إقرأوا أيضاً:

على رغم اختلاف الصراع وأطرافه مع اختلاف الظروف الزمنية والمكانية، إلّا أن المشكلة برأيي تقع في الثوابت التي تفشل في أن تكون ثابتة، فلنأخذ مثلاً الحليف السياسي الأساسي لمجتمع الميم/عين، اليسار. وكي نكون أدق لنستطيع المحاسبة بشكل أدق، فلنأخذ أقصى اليسار مثلاً، أولئك الذين يدعون الى الجذرية في محاربة الأنظمة والجذرية في المواقف منها والجذرية في تحصيل حقوق المهمشين/ات. لا نرى هذا اليسار الجذري جذرياً في موقفه وموقعه في هذا الصراع، بخاصة في البلاد التي استطاعت فيها التيارات الدينية المتطرفة السيطرة عليه والتغيير بهويته ليصبح يساراً يمينيّاً غير قادر على حسم أموره بعيدا عن حساباته ووهمه بوجود مصالح مع هذه التيارات التي أصبحت تملي عليه المواقف. مشكلة كبيرة أن تقف هذه القوى غير قادرة على تحليل ظروف جديدة دون الرجوع الى نصوص مكتوبة بوضوح منذ عقود، فتحوّل نفسها من قوى قادرة على التطور والمواكبة والتحليل بأدوات فكرية عظيمة الى عقيدة ثابتة جامدة رجعية تحتاج دائماً إلى “أب روحي” يبارك أي خطوة أو موقف.  

اليسار هذا بأبويته الفكرية، الذي يخشى أن يكسر ثنائيات اليمين ليخرج بموقف ثالث يكون فيه الأرض الثابتة والآمنة والأرضية الفكرية الخصبة لأي نضال انساني يكسر أرجل النظام الرأسمالي الاستغلالي والاستبدادي الذي بات يعبر بوضوح تام عن نيته بأخذ البشرية الى جهنّم، يُضعف نضال الطبقة الكادحة بفئاتها المهمشة جميعها ويلعب دور المعرقل لأي حركة ثورية تقدمية، قادرة على قلب الأمور جذرياً. هذا اليسار الذي يفشل في وصل خيوط قضاياه، يفشل بربط حركة السود بالحركة النسوية الكويرية بحركة العمال والعاملات بحركة الطلاب بالحركة التحررية للشعب الفلسطيني، يفشل في ايجاد أن هذه الحركات تواجه جلّاداً واحداً بملابس مختلفة. هذا اليسار قصير النظر عاجز. 

في أي حال، التاريخ لا يرحم ووجودنا على هذا الكوكب ليس مضموناً في ظل سياسات يمينية صارمة متمكنة ومستفحلة يقابلها يسار متواطئ هش عاجز. لكن الأمل يبقى بقدرة أصحاب القضايا على إدراك أن اليسار ليس شخصية معنوية ولا مادية، يمكننا أن نتخلى عن دور الانتظار ونكف عن دعوة هؤلاء إلى الانضمام الى صفوفنا في المواجهة ونصبح نحن اليسار، نحن القوى السياسية الأقوى، ونكمل درب كل من مات في الطريق الى حاضرنا الافضل ولا نرضى الا بمستقبل أكثر عدالة. فلنشرب كأسنا كأنها الأخيرة، نخب أولئك الذين قضوا في شارع كريستوفر في نيويورك وفي كل الشوارع… “تشيرز”.

إقرأوا أيضاً: