fbpx

متحرش “التكنو”: الخوف من أن يكون موت “الترند” مقدّمة لموت الحقيقة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أملي حالياً أن يكون القانون منصفاً، ويتلّقى السعد عقاباً يليق بالترهيب الذي مارسه على عشرات الطالبات، وأن لا يسقط ما فعله في النسيان، ويعود اسمه ليُذكر بشكلٍ عاديّ، كأغلب المتحرشين في العالم، كـسعد لمجرد ومن هم على شاكلته.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]


اعتدتُ أن أستيقظ كل صباح وأتصفّح موقع “تويتر” لأرى ما هي المصيبة الجديدة التي أنتجها العالم، والتي غالباً ما تكون مصيبة تقع على رؤوس النساء، وطبعًا، لم يخِب ظنّي. 

قبل أسبوعين، انتشرت في الأردن قضية عرفت بقضية متحرش “التكنو”. هي قصة أخرى كان على العالم أن يصدّق الناجيات منها بلا لفّ ودوران. بعد أسبوع من شيوع القضية التي تدور حول إقدام استاذ جامعي على التحرّش بطالباته، توقّف الحديث عنها كأي قضية أخرى تصبح محلًا لنقاش الرأي العام. الجديد في قضية متحرّش التكنو أن جامعة العلوم والتكنولوجيا المعنية بالقضية اتخذت إجراءً ضد الدكتور المُتّهم بالتحرش، وأحالت قضيته إلى المدعي العام بعد فتح لجان تحقيق داخل الجامعة وتقدّم عدد من الطالبات بشكاوى في عمادة شؤون الطلبة.

قضية متحرش “التكنو” هي قصة تبدو شائعة لكثير من النساء اللواتي درسن في الجامعات. دكتور متحرش يقرر نجاح الطالبة من عدمه لقاء صمتها عن اعتدائه عليها. أتذكّر وقت دراستي في الجامعة الهاشمية، قبل ٩ سنوات تقريبًا، كان أحد الأساتذة الذين يدرّسون المواد الحرّة متهمًا بالاتهامات نفسها، وطوال دراستي كنت أتجنب تسجيل المواد عنده. وقتها، لم يتحدث أحد عن الموضوع بصوتٍ عالٍ، فقط كانت الطالبات يتبادلن المعلومة بينهنّ ويحذّرن بعضهنّ من تسجيل المواد عنده، أو من الذهاب لزيارته في المكتب بلا مرافقة، وكان الطلّاب الذكور يتعاملون مع الموضوع بسخرية، بقولهم جملًا مثل: “لو كنتْ بنت بنزّل عنده المادة أ+”، على افتراض أن الطالبات مستفيدات من كونهن إناث، ويتقبّلن التحرش من أجل النجاح.

اعتدنا في الأردن أن صوتنا لن يصل إلى الجهات المعنية، وسوف نُقمع إلكترونيًا قبل أن نُقمع على أرض الواقع، وينطبق الحال نفسه على كل القضايا، على رأسها قضايا النساء. لذا، جاء قرار الجامعة بالاستماع حقيقةً إلى شهادات الطالبات ليحمل ولو قليلًا من بصيص أمل يجعلنا نثق ثانيةً بأنفسنا كنساء، وبقوّة اتحادنا، وفي أن العدالة ستأخذ مجراها، ولو بعد حين.

بالطبع، بعد أن صدر قرار الجامعة بالإحالة إلى المدعي العام، اختفت القضية عن الترند، فهذا هو حال مواقع التواصل الإجتماعي. ستذهب كل البوستات والتحليلات والتغريدات إلى مكبّ الأرشيف، وعندما تتكرر القصة مرة أخرى، سنضطر أن نعيد كلامنا كله، ونرفع دفاعاتنا ثانيةً، باحثاتٍ عن مبرر أمام عالم لا يصدّق الناجيات.

استوقفني خلال الفترة الماضية أنه وعند أي قضية تخص النساء، يتجه الحديث رأسًا نحو تبريرات من نوع “ماذا كنّ يرتدين؟”، “هل كنّ يضعن المكياج؟”، و”لماذا يذهبن أساسًا لزيارة رجل لوحده في مكتبه؟”، متجاهلين علاقة الطالب بالدكتور الجامعي، حتى يصل الموضوع إلى خروج بعض الأشخاص شاهرين مقولات “الأردنيات الشريفات” لا يتورطن في هذه المواقف، في خلط متعمد يجعل ضحية التحرش مسؤولة عمّا تعرضت له.

تتكرر مثل هذه الاستنكارات والتكذيب على ألسنة مسؤولين أردنيين، أهمّها عندما ظهر النائب السابق محمود الخرابشة في برنامج جعفر توك وحكى جملته التي تلخّص هذه العقلية: “إنتِ أردنية عمّو؟” وهي جملة أسخف من أن تستحق تكرارها، لكنها تعبّر عن عقلية نسبة كبيرة من المواطنين والمسؤولين، على افتراض أن التحرّش شيءٌ تبادر الفتاة لتقديمه، وليس اعتداءً واضحًا.



يملك الأردن العديد من الإشكالات فيما يخص موضوع التحرش: أهمّها أنه لا يوجد تعريف حقيقي وواضح للتحرش في القانون، يعني ذلك أنه لا يوجد عقوبة، وكنتيجة لهذا الأمر تتردد النساء في نقل قضاياهن إلى الشرطة أو إلى جهة مسؤولة، لعدم ثقتهن في تحقيق عدالةٍ ما. الإشكال الآخر ليس محصورًا في الأردن فقط، وهو أن القضايا التي تواجه النساء تكون دومًا قابلة للتشكيك، فهي ليست واضحة للعيان كحادث اصطدام سيارة أو جريمة قتل، وتعتمد أغلب الوقت على الشهادات اللفظية، وذاكرة الضحايا، ليصبح الشكّ تجاهها مضاعفًا، ويكون تكذيب الضحايا أسهل.

أهم ما أثار استياء شريحة واسعة من النساء والضحايا هو استضافة قناة رؤيا لأحمد السعد (المتّهم بالتحرّش) وإعطاءه منبرًا على أضخم شاشة تجمع الجمهور الأردني، ليدافع عن نفسه ويستهزئ بالضحايا ويكذّب النساء ومن وقف في صفّهن. تكّشفت مشكلته جلية عند اتهامه لطلاب الجامعات أنهم غير واعين ولامسؤولين، وهو اتهام يخرج من فم دكتور جامعي، أي أنه يرى هؤلاء الأشخاص غير مؤهلين للحديث عمّا يواجهونه من اعتداءات، وهذه إشكالية ضخمة تؤثر على المُخرجات التعليمية ولها امتدادات أخرى لا علاقة لها بموضوعنا مباشرة.

من الواضح أن قناة رؤيا كان همّها الأكبر هو جمع المشاهدات، وهذه إشكالية السوشيال ميديا والتلفاز حاليًا، لا يوجد تضامن حقيقي مع الضحايا، فقط اهتمام بما يريده الترند وكيف نزيد نسبة المشاهدات والتفاعل، وبالتالي الأرباح. كان من الأجدر بمنسّقي البرامج أن يتحدثوا عن غياب العدالة، وعن بقاء السعد في موقعه استاذاً في الجامعة وهو ما يعني إعطاءه مساحة للاعتداء أكثر من عشر سنوات، على الرغم من أن أعماله مكشوفة لأغلبية الطلاب.

الآن، وبعد أن ماتت قضية متحرش “التكنو” على منصات التواصل الاجتماعي، تتوجه مخاوفي نحو موتها في الواقع أيضاً. 

حقيقةً، وعلى الرغم من عدم تفاعلي مع القضية، لأسباب ذكرتها سابقًا، إلا أنّي كنت سعيدة بقدرة النساء على الوقوف إلى جانب بعضهنّ البعض، وتصديق شهادات الاخريات والسعي نحو إيجاد حل للمشكلة. أكثر ما لفت انتباهي هو عندما أخذت الضحايا خطوة نحو تسليم الدلائل لعمادة شؤون الطلبة، وقتها لم يصل للعمادة إلا شكاوى معدودة، على عكس ما انتشر على تويتر وفيسبوك، لذلك، بدأ سيل اتهامات من كل مكان أن المواضيع عندما تصبح جدّية سينسحب كثيرون من المواجهة، وهذا أمرٌ طبيعي، في مجتمع لا زالت نساؤه واقعات تحت ضغط الفضيحة والأهل والمخاطرة بالكشف عن الهوية وبالتالي التعرّض لأذى أكبر من التحرش. قرأت الكثير من التغريدات عن اللواتي تطوّعن لإيصال الشهادات، ومن كتبن أن لوم الضحية لن يحلّ المشكلة بل سيوّلد مشاكل أخرى، أظن أن هذا النوع من الدعم هو ما نحتاجه في المقام الأول.

تزامنت القضية مع محاكمة جوني ديب وآمبر هيرد، التي أظهرت الكثير من الذكورية والميسوجينية التي اعتدنا عليها كنساء، والتي حاول كثيرون من خلالها تدنيس جملة “نصدق الناجيات”، على افتراض أن المحاكمات الهوليوودية يمكن إسقاطها بسهولة على نساء الشرق، مع اختلاف المجتمع والظروف والتوجّه القانوني للتعامل مع هذه القضايا. لكن، بالرغم من التكذيب والتهميش، استطاعت النساء أن يجمعن الأدلة بسرّية، وشجعنّ بعضهنّ على البوح.

الآن، وبعد أن ماتت قضية متحرش “التكنو” على منصات التواصل الاجتماعي، تتوجه مخاوفي نحو موتها في الواقع أيضاً. 

نحن كنساء نعرف تماماً كيف أن السُلطة قادرة على الفوز دائماً، السلطة الأبوية، والقانونية، وسلطة رأس المال، بالإضافة إلى سُلطة العشيرة والعائلة والعُرف الذي يغفر أخطاء الرجال دون مراجعتها. لذلك، أملي حالياً أن يكون القانون منصفاً، ويتلّقى السعد عقاباً يليق بالترهيب الذي مارسه على عشرات الطالبات، وأن لا يسقط ما فعله في النسيان، ويعود اسمه ليُذكر بشكلٍ عاديّ، كأغلب المتحرشين في العالم، كـسعد لمجرد ومن هم على شاكلته.

إقرأوا أيضاً: