fbpx

الصوت في الموسيقى… من الصمت وإلى الصمت يعود

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الصوت والصمت في الموسيقى وجهان لعُملة واحدة، وعلى قدر ما يكون التوازن بينهما مُحققاً في التأليف والأداء، تكون قيمة هذه العُملة ابداعاً ذهبياً من عيار أربعة وعشرين قيراطاً.  

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

المثل الشعبي القديم “إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب” يُفيد بأنّ قيمة السكوت أهم وأعلى ثمناً من الكلام. فهل هذا تبخيس لدور الكلام في التعبير؟ أم ثمة التباس في هذه المقاربة؟ وهل هناك أوجه شبه بين الصمت عن الكلام وبين الصمت في الموسيقى؟ ربما! بَيْدَ انّ النظر في الأمر من زواياه المختلفة ضروري وفيه من الجاذبية والاثارة ما يُغري.

فذاك المثل مُستخلص من حكاية شعبية عن رجل مُسنٍّ، عاش وحيداً ورغب بشخص يُؤنسه في أواخر عمره، قرر استئجار حكواتياً يأتيه كل نهار ليقُصّ عليه ما تيَسّر من الحكايا. وبعد فترة ملَّ العجوز من الحكواتي وقُصصه، لكنه استبْقاهُ على ان يدفع له الاجْر مُضاعفاً إنْ ظل ساكتاً. وافق الحكواتي مُعلِّقاً: “اذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب”.

تُشير هذه الإفادة بأن السكوت أمر مُستحب عندما لا يرغب السامِع لسبب ما بالاستماع، من دون انْ يعني انّ الكلام المُرسَل غير ذي فائدة. 

فالكلام تتحدد قيمته من اهميتِهِ للمُرسَل إليه. أمّا السكوت وحبس الكلام عمْداً من قِبل المُرسِلِ فقد يُفسَّر على انه حال من الرضا والتوافق او نوع من  المُخاتلة والمراوغة.

لكن ومن زاوية اُخرى، ثمة فارق بين السكوت وبين الصمت. فالسكوت هو فعل الإحجام عن الكلام عمداً أو كبتاً بصرف النظر عن دوافعه، في حين انّ الصمت حالة من طبيعة فيزيائية بالدرجة الأولى وميتا فورية  بالدرجة الثانية.

ينساب الصمت إلينا من عالم مجهول وغير مرئيّ، ليُشكّل فُسحة التفكير التي من دونها يأتي الكلام جِزافاً وعلى عواهنه.  وهو على هذا قد يأخذ بُعداً أدبياً يرمز إلى الموت في تعبير صمت القبور، او قد يلبس لبوساً اخلاقياً فيرمز الى الشرِّ بتشْبيهِ الصامت عن الحق بـ”شيطان اخرس”. وقد يذهب الصمت مذهباً نفسياً فيوصَفُ بكونه حيز السكون والسكينة، او قد يجري ادخاله في طقوس التعبّد كمثل جرس “داكوتو” المعروض في قسم الآلات الموسيقية القديمة بمتحف المتروبوليتان في نيويورك. هذا الجرس الضخم وعمره يفوق 2000 سنة والمصنوع من دون لسان، لكي لا يُصدر صوتا، استخدمه اليابانيون القدامى لمباركة محاصيلهم الزراعية فقدّموا القرابين اجلالاً لصمته، اذْ كانوا يؤمنون أن الخصب يولد مباركاً من الصمت.               

قد تنطبق مُجمل هذه المقاربات بشكل عام على فن الموسيقى الذي يشكّل الصوت مجاله التعبيريّ. امّا الصمت فيه فيظهر في وظيفتين تطورتا عبر تاريخ تعاقب المراحل الموسيقية: الوظيفة الأولى؛ صمت تقني يستريح فيه الصوت ويتنفس ليكشف عن ترابط المعنى. والوظيفة الثانية؛ صمت مفهوميّ conceptual مهمته تكثيف التعبير لإيصاله إلى ذروة درامية مُختلفة نوعاً وكمّاً.

الصمت في الموسيقى

لا يُشكّل الصوت السبيل الوحيد في التعبير الموسيقي. فالصمت ايضاً يسلك هذا السبيل، إنما في اكثر الطرق غموضاً وهلامية. يستند زعمي هذا إلى الحقيقة العلمية التي تحدّد قدرة السمع عند الانسان بين نطاقين 20 الى 20 ألف هرتز. وهذا يعني ان ثمة موجات صوتية تتذبذب خارج هذين النطاقين، تمتلك وجوداً في حيِّز نُسميه الصمت. 

في حيّز الصمت هذا تعيش المُخيّلة الإبداعية للفنان الموسيقي، ومنه ينطلق المؤدي الموسيقي في صراعه مع الصمت مُكابداً لإعطاء الصوت حياة ومعنى مؤقتين. في هذا يبدو لي ان الصوت في الموسيقى يُشبه القول الذي يربط ولادة الإنسان بموته؛ “من التراب وإلى التراب يعود”!           

جدلية الصمت والصوت

إنّ فنَّ التعبير بالصوت الموسيقي أتى لاحقاً للتعبير بالصوت كلاماً، ومتأثراً بحالات الصمت التقني في فنْيّ القصص والخطابة. إلا أن وجه الاختلاف بينهما يكمن في أن صوت الكلام وقبل بثّه، ينطلق من حالة تفكير نشطة في الدماغ، في حين أن الصوت الموسيقي يبدأ من الصمت النسبي مُخترقاً الأثير ومُنجِزاً مهام السماع ليعود من جديد إلى الصمت.

هذا التوالي والتناوب بين الصمت والصوت هو ما يجعل الموسيقى فناً تعبيرياً قابلاً للحياة والديمومة.

وفي هذا الصدد يخْلُص المؤلف الموسيقى أماديوس موتسارت الى القول “بأن الموسيقى لا تكمن في النوتات المكتوبة في المُدونة الموسيقية، إنما في فواصل الصمت التي تربط هذه النوتات بعضها ببعض”.

وبناء على هذا يتبيَّن جلياً ان جودة الأداء الموسيقي وصحة تأويله يعتمدان بالدرجة على قدرة المؤدي على منح فواصل الصمت فرصة العيش والتفاعل مع الصوت. فالصوت والصمت يُشكلان معاً وحدة أضاد جدلية لا فرصة لفكاك احدهما عن الآخر.   

إقرأوا أيضاً:

 موجز لتاريخ الصمت في الموسيقى

لا بد من الإشارة اولاً أن مُصطلح الصمت في ترجمته اللاتينية Silence لم يُستعمل في الموسيقى كدلالة تقنية، إنما استُعمِل لاحقاً كمفهوم للتعبير الدرامي في التأليف الموسيقي الحديث وادبياته النقدية الصادرة في القرن العشرين. في حين انّ الصمت التقني عُبِّر عنه بثلاث مصطلحات شائعة يتم استخدامها الى الآن: مصطلح اول Rest The أي استراحة الصوت، مُصطلح ثان Pause The  أي توقف الصوت لزمن مؤقت، اما ثالثهما فهو soupier Le أي التنهُّد كدلالة على تنفس الصعداء. والأرجح عندي أن المُصطلحات الثلاثة نُحتت من أسلوب الغناء الغريغوري، أي قبل تحديد قِيَم ثابتة لعلامات الصمت بكثير.      

منذ القرون الأولى بعد الميلاد وامتداداً الى القرون الوسطى لم يكن للصمت أهمية في الموسيقى، ولم يخضع لقواعد ثابتة. حينذاك كان الفن الغنائي المسيطر يُمارَس حصراً في الاديرة والكنائس بهدف جمع المؤمنين وحثهم على ممارسة الشعائر. الغناء الغريغوري كان ذروة تطور هذا الفن، حيث يقف مُغَنّو هذا النوع في صفيّن متقابلين، ليُرتلوا المزامير بالتناوب فيما بينهم مع توقف قصير بقِيَمة زمنية حُرّة هدفها فصل المزامير عن بعضها البعض، فيُعْطَى لكل مزمور معناه الكامل، من دون انقطاع في صوت مُرتكَز النغمة ostinato ، بفعل صداه المتردد في أرجاء الكنيسة.

كان من شأن هذا ان يُنظّم التناوب في التنفس بين المُرتلين انفسهم وبين جمهور المؤمنين ليوحي بوحدة التنفس والتنهُّد تماهياً مع جسد الكنيسة.

والجدير ذكره هنا أن استعمال الصمت كان وما زال شائعاً في تلاوة  النصوص المقدسة في مُعظم الأديان. فنلاحظ دلالات الصمت في تلاوة سُوَر القرآن، خصوصا بعد أن أصبح تجويداً في عصر الدولة العباسية المُزدهرة. والسورة القرآنية تتألف من مجموعة من الآيات يفصل بينها فترة صمت تطول او تقصر بحسب المُقرئ.

تلاوة النص القرآني، وبعد ان اُدخل عليه أسلوب الغناء والتلوين المقامي، اكتسب جودة في التعبير، وعليه سُمِّيَ تجويداً. امّا فترة الصمت الكثيفة بين آياته فجاءت لتُوحّد تنهدات المؤمنين، وتوحي لهم بالطابع المُقدَّس للنص. الصمت المُبين والقابض على الروح في التجويد القرآني يُردد صدى الرهبة والخوف في ذات المؤمن لأوصاف مثل: جهنم الحارقة والحساب العسير وقتل الكافرين ووعد الجّنة في الحياة الآخرة للمؤمنين الصالحين.    

عصر النهضة الممتد بين القرنين 15 و 16 في أوروپا والذي قدّم العلم والبرهان العلمي على الخرافة، شهدت فيه الموسيقى على تطورات هامة أثّرت على فهم الموسيقيين (عازفين ومؤلفين) لأهمية الصمت التقني وكيفية استخدامه كتعبير.

وأهم هذه التطورات، أولاً؛ دخول التدوين الموسيقي بشكله العلمي المتطور في كتابة النص الموسيقي وأسلوب أدائه. ثانياً؛ تطور صناعة الآلات الموسيقية وإدخال آلات جديدة على الأوركسترا. ثالثاً؛ نمو كبير لأسلوب التأليف البوليفوني وبداية ظهور الأسلوب الهارموني فيه.

كل هذه العوامل لم تكن لتتبلور وتتطور من دون دور حاسم لعلماء الموسيقى وابرزهم في ذاك الزمن  Franchinus Gaffurius (1567-1643) الذي حسم الجدل في كتابه “Practical Musicæ” فيما يخص أهمية الصمت التقني في الموسيقى، بجعل قيمته الزمنية ثابتة ومتساوية بالنسبة لقيمة زمن الصوت الموسيقي.

استفاد الصمت في التعبير الموسيقى من ثبات انجازات عصر النهضة، وبدا قادراً على المساهمة في تطوير أشكال موسيقية في عصر الباروك كالسوناتا التي اصبح الصمت فاصلاً إلزامياً يفصل بين حركاتها الأربع المتباينة في السرعة والإيقاع والمزاج. كما أدى تطور مفهوم الصمت التقني في التدوين والاداء، إلى ولادة نوع تأليفي جديد هو الأوپرا مع المؤلف كلاوديو مونتيفردي.

في التحدث عن الصمت الموسيقي يحضر تلقائيًا المؤلف لودڤيغ ڤان بيتهوڤن الذي تُعتبر مؤلفاته من أهم ما أنتجته المرحلة الكلاسيكية في الموسيقى، ومُستشرفة في الوقت ذاته بدايات المرحلة الرومنطيقية. لقد استعمل بيتهوڤن في سيمفونياته الصمت بشكل مختلف وغير مسبوق، بحيث حوّله من اداة شكلية للتطوير المفاجئ في المزاج الموسيقي، الى أداة ثورية للتعبير عن الصراع بين الصوت المُعترض من دون توقف من جهة وبين والصمت المّدوي الذي يُكثف المعنى ويُعطيه بُعداً درامياً أبلغ من الصوت نفسه.        

الموسيقيون الرومنطيقيون في ثورتهم على القِيَم الكلاسيكية تعاملوا ايضاً مع حالة الصمت بشكل يتلائم مع رغبتهم الشديدة بتحدي الواقع والعقلانية في قواعد الإيقاع والاوزان، عبر الإيحاء بأن الصوت بإمكانه الاستمرار في حياته طويلاً، وانه حالة حُرّة، ميتافيزيقية ومُترفِّعة عن الواقع المادي. الصمت المفهومي بالنسبة إلى الرومنطيقين الأوائل هو السكون والراحة الأبدية الذي يلجأ إليها الصوت ليرتاح فيه بعد صولات وجولات.

ولكن آخِر المؤلفين الرومنطيقيين غوستاف مالر الذي شكّل جسر عبور أساسي للموسيقى الحديثة في القرن العشرين استعاد مفهوم الصمت على طريقة بيتهوڤن انما بأكثر الطرق تراجيدية، بحيث يكون التناوب بين الصمت والصوت صراعاً وجودياً. ينتهي الصراع بتلاشي الصوت وتحوله الى صمت لا نهاية له. الحركة الأخيرة من سيمفونيته التاسعة تنتهي بصوت وحيد يستمر بالانخفاض شيئاً فشيئاً إلى أن يختفي وراء حُجب الصمت الكثيف ويتلاشى، ولدقائق معدودة تبقى وحدها بلاغة الصمت معلقة في الاثير، الى ان يقرر مُوَجّه الأوركسترا انزال يديه مغلقاً بوابة الصمت هذه.

الموسيقيون الانطباعيون الذين عاشوا في الربع الأول من القرن العشرين ابتكروا ألواناً للصمت تنتج عن الظلال الرمادية لترددات الصوت بعد تلاشيه في الأثير، مُفسحين المجال لحرية الأداء بأنْ تُقيم تسوية مبتكرة لإطالة او تقصير مدة الصمت التقني وتحويله إلى صمت مفهوميّ.

الموسيقيون الذين عاشوا في منتصف القرن العشرين، ليشهدوا على ثورة الاكتشافات العلمية في مجال فيزياء الصوت والاختراعات في مجالي التسجيل والبث الصوتي، طوروا مفاهيمهم لعلاقة الصمت بالموسيقى واطلقوا تيارات تأليفية عديدة ومتنوعة في هذا الصدد. لا تحتمل مساحة المقال هنا للتدليل عليهم او التوسع في أبحاثهم.

بيد أنّ أهمية قصوى تستدعي التوقف عند التطور الأهم في مسألة استعمال مفهوم الصمت الذي حققه المؤلف الموسيقي الأميركي جون كيدج (1992-1912) في عمله التأليفي 4:33’ (أربع دقائق وثلاثة وثلاثون ثانية) هو عنوانه ومدته الزمنية في آن معاً. و كيدج كان مؤسس تيار موسيقي يولي أهمية كبرى لمبدأ الصدفة في التأليف الموسيقي Chance music عبر ارتجال الصوت، مُتحررا من القيود الصلبة للإيقاع والاوزان.

لا يحتوي العمل الموسيقي 4:33’ الذي يؤديه عازف واحد على آلة البيانو، إلّا على الصمت. فالمُدوّنة الموسيقية فارغة تماماً من أي علامة صوتية (نوتة)، باستثناء علامات الصمت الموسيقية. يدخل العازف الى القاعة مواجهاً الجمهور، ويأخذ وضعية الاستعداد للعزف على آلته صامتاً ومن دون ان يصدر منه أي همسة أو حركة لمدة أربع دقائق وثلاثة وثلاثين ثانية يُحددها بواسطة عدّاد الوقت crony meter. وبعدها يُحيي الجمهور ليخرج من القاعة.

كيدج أراد في هذا العمل الجريء والصادم تقديم البرهان على انّ الموسيقى موجودة في الصمت المحيط بنا على شكل اصوات غير متوقعة من الجمهور. وهي كثيرة ومتنوعة المصادر مثل الصوت الصادر عن كراسي الجمهور المتململ ضيقاً، وأصوات سُعالهم مُختلطة مع قرقرة بطونهم، أو أصوات تهكماتهم المنزعجة طوال فترة العرض… إلى آخره…

كأنّ جون كيدج أراد عبر تقديم الصمت من حيث هو أداء، أن يدفع بجمهور المستمعين الى الإنصات. وعليه يكون الإنصات إلى الصمت وسيلة لاكتشاف أصوات حياتهم اليومية المُحيطة بهم، والتفاعل معها على انها جماليات لا تقل قيمة وأهمية عن الانصات الى الصوت الموسيقي المتعارف عليه. 

وبناء على كل ما تقدم فقد يسعني الاستنتاج بأن الصوت والصمت في الموسيقى وجهان لعُملة واحدة، وعلى قدر ما يكون التوازن بينهما مُحققاً في التأليف والأداء، تكون قيمة هذه العُملة ابداعاً ذهبياً من عيار أربعة وعشرين قيراطاً.       

إقرأوا أيضاً: