fbpx

“دين الدولة” في تونس: السلطة والمقدس والنزاع على الحكم

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لطالما حاولت التيارات الإسلاموية السطو على الدولة الحديثة وأجهزتها ثم أسلمتها، بشكل فوري، وتطبيق “الإرادة الإلهية”. وعمدت، برغم افتقارها الخيال السياسي، إلى توليد طاقة عنف وتعميمها في مجالات متفاوتة. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

 حين بوشر بإعداد دستور “الجمهورية الجديدة” في تونس ما بعد الثورة، صرح منسق الهيئة الوطنية الاستشارية لإعداد ذلك الدستور، الصادق بلعيد، بعدم تضمين الإسلام كدين للدولة في النص الجديد.

لكن تبدل الحال في الفترة الأخيرة، فمع الجدل المحتدم على خلفية إعادة تعيين موقع الدين (الإسلام) في الدستور تنفتح مسألة الهوية التي لا تختص بتونس وحدها، إنّما تهيمن على واقع دول المنطقة التي لم تتحرر من تلك المتلازمة.  فمنذ النصف الأول من القرن الماضي، ومع تبلور مفهوم القومية في ظل مناخ مشحون بضغوط وإكراهات خارجية، تتمثل في الاستعمار والبحث عن هوية وخلاص، هيمن الدين كمنطلق أساسي للتشريع.

الصراع في تونس يتجاوز مسألة الحفاظ على الدين في الدستور، وإن كان يكشف في أحد جوانبه عن معضلة مزمنة في لحظة معقدة  للغاية. وتتصل بطبيعة الوضع السياسي المأزوم، سواء من ناحية الصدام مع “حركة النهضة” ومرجعيتها المرجعية الإسلامية، وتحديداً بعد قرار الرئيس قيس سعيد بحل مجلس النواب، في تموز/ يوليو العام الماضي، أو محاولة الأخير إيجاد شرعية للنظام عبر خطاب يستطيع من خلاله الحصول على مقولاته السياسية بتأييد دستوري له فعاليته القانونية.

“تتجلى معرفة الأغلبية المسلمة المحدودة بالإسلام في منطقة صراع بين السياسيين. وكل طرف يسعى إلى توسيع قاعدته الجماهيرية اعتماداً على مدى تمسكه بالمحافظة على الإسلام التونسي المالكي، واستناداً، بدرجة ثانية، إلى مدى اعتمادهم على الزعماء أو المشايخ السياسيين وإيمانهم بهم”.

يقول بلعيد وهو أستاذ جامعي ومتخصص في القانون الدستوري، يتولى الإشراف على هيئة لإعداد مسودة من أجل تنقيح الدستور إنّ “80 في المئة من التونسيين ضد التطرف وضد توظيف الدين من أجل أهداف سياسية، وهذا ما سنفعله تحديداً وسنقوم بكل بساطة بتعديل الصيغة الحالية للفصل الأول”.

كما ألمح إلى أن عدم ذكر الإسلام في الدستور يأتي بهدف “التصدي للأحزاب السياسية التي تتخذ الدين مرجعية على غرار حركة النهضة التي كانت تملك أكبر الكتل البرلمانية قبل قرار سعيد حل البرلمان”. 

ويبدو أنّ النزاع حول هذه المسألة ومثيلاتها في دول عدة في المنطقة، والذي يعود في تونس إلى خمسينات القرن الماضي (دستور عام 1959) بين التيار الحداثي والزيتونيين، يعكس العقل السياسي، البراغماتي والسلطوي، الذي هندست الأنظمة من خلاله علاقتها بالدين. وقد سيطر الجهاز الأيديولوجي للدولة على المقدس لضمان ولائه وتبعيته، من جهة، وتخليصه من قبضة الحركات الإسلاموية، من جهة أخرى. ومن ثم، يتمكن من إدارته في المجال العام لتحقيق التعبئة، أو كسب الشرعية. 

أدى ذلك إلى حالات كثيرة لنزوع نحو الأسلمة بالمحصلة، كما في تجربة بعث العراق. وبتعبير آخر، فإن الدولة (الليبرالية) لم تتجه إلى نفي الدين أو إلغائه، إنما عمدت إلى نقله من العام إلى القانون الخاص، وذلك عبر فرض سلطتها عليه، كما يقول المفكر الألماني كارل ماركس.

لطالما حاولت التيارات الإسلاموية السطو على الدولة الحديثة وأجهزتها ثم أسلمتها، بشكل فوري، وتطبيق “الإرادة الإلهية”. وعمدت، برغم افتقارها الخيال السياسي، إلى توليد طاقة عنف وتعميمها في مجالات متفاوتة. 

إذاً، السؤال الإشكالي الذي ينبغي طرحه هو مدى ارتباط هذا الموقف الإجرائي بإلغاء حالة توظيف الدين واستغلاله في التجاذبات السياسية لتحقيق مصالح أيدولوجية، وكذا أغراض الحكم والتمكين السياسي، الأمر الذي تجيب عنه الباحثة التونسية، سعاد التميمي، قائلة “ربما، حذف دين الدولة من الدستور سيكون أمراً إجرائياً قد لا يترتب عنه تغيير بنيوي وجوهري يفصل نهائياً بين الدين والسياسة. ومسألة التغيرات شكلية كانت أو جوهرية، يعود تقديرها لأهل الاختصاص في حالة أنّ هذا التعديل هو ظرفي لردع طرف ما والحد من سلطته، أو أنه دائم”.  

وتشير التميمي لـ”درج” إلى أنّ الجدال المحموم حول هذه المسائل (الدين، القومية، الهوية)، سياسي، بدرجة أولى، لأنّ المنافسة بين الأطراف المختلفة سياسياً تقوم على التوسل بالحجج التاريخية التي تمس اليومي عند المسلم وانتمائه الوراثي إلى الإسلام. 

وتردف: “تتجلى معرفة الأغلبية المسلمة المحدودة بالإسلام في منطقة صراع بين السياسيين. وكل طرف يسعى إلى توسيع قاعدته الجماهيرية اعتماداً على مدى تمسكه بالمحافظة على الإسلام التونسي المالكي، واستناداً، بدرجة ثانية، إلى مدى اعتمادهم على الزعماء أو المشايخ السياسيين وإيمانهم بهم”.

ولعل ما يتغافل عنه أو يتناساه البعض أنه في خضم الصراع على الإسلام والهوية القومية وغيرهما من الشعارات المناسباتية، هناك مواطن يعيش في ضيق لعقود، تقول التميمي. 

وتتابع: “وكان ينتظر منذ أكثر من عقد مضى بعد الثورة أن يتسع المدى ويخرج من العتمة. وتبين أنّه تحرر من ضيق ليدخل ضيقاً أوسع يختلف فيه رفاه الأزمة من مساحة إلى أخرى. لهذا يُعدّ حل الأزمة الاقتصادية أولوية ملحة راهناً”.

في الحالة المصرية، مثلاً، يوضح شريف يونس في كتابه: “البحث عن خلاص.. أزمة الدولة والإسلام والحداثة في مصر”، أنّ الصحوة الإسلامية نجحت في “وراثة أعداد متزايدة من جمهور خدمات الدولة المتراجعة”. وبالتالي كان تفسخ النظام، أيدولوجياً ومجتمعياً وخدمياً، هو مدخل الحركة الهوياتية الإسلامية في انتشارها الاجتماعي ونشر قيمها. وبشكل ذرائعي تم القبول بالديموقراطية والانخراط في العملية السياسية في إطارها الإجرائي (الانتخابات، مثلاً)، وكذا التخفي داخل تحالفات واسعة ضمن المعارضة السياسية، لجهة مواجهة النظام، مرحلياً، ناهيك بالقبول المشروط بأحزاب غير إسلامية في المجال العام بحيث يكون الدستور إسلامياً.

وعن تلك الثنائية المفخخة التي جمعت بينهما الأنظمة التي تشكلت مع مرحلة ما بعد الكولونيالية، وقد ظلت تدمج بشكل غامض وملتبس بين العروبة والإسلام أو القومية والدين، في عملية تسييس مباشرة ودائمة للدين والإسلام، يقول المفكر اللبناني حازم صاغية في كتابه: “رومنطيقيو المشرق العربي”، “وفي خلط ما قد يبدو عصياً على الخلط، أنشئ في مصر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية عام 1960؛ أي إبان الوحدة مع سوريا، للتعريف بالإسلام وإحياء تراثه، وصدر المرسوم رقم (57) الذي ضم المساجد الأهلية إلى وزارة الأوقاف. وفي 1961، سنة صدور القوانين الاشتراكية، صدر القانون الذي أسفر عن إلحاق الأزهر برئاسة الجمهورية، وتعيين وزير لإدارة شؤونه، بعدما كان قد جُرد في 1957 من استقلاله المالي بتأميم الأوقاف الخيرية. ثم كان دستور 1964، في ذروة العروبية والاشتراكية، فأُعلن، للمرة الأولى، أنّ الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، وتعاظم، بالتالي، التركيز على بناء المساجد، وإنشاء المحطات الإذاعية الدينية، والتوسع في نشر التراث الديني، وصدر القانون رقم 89 عاهداً إلى الحكومة تعيين الأئمة والعاملين في المساجد الأهلية، فضلاً عن كتابة وزارة الأوقاف خطبَ الجمعة وتوزيعها على خطباء المساجد. وغدت برامج التعليم الديني أكثر تسييساً وتبعية للرؤية العامة التي تحملها الناصرية للمسائل المطروحة”. 

إقرأوا أيضاً:

رصد العلاقة التاريخية بين الدستور والدين، في تونس، منذ دستور عام 1959، تكشف عن وجود نص في الفصل الأول، يقول إنّ “تونس دولة حرّة مستقلّة ذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها”. ثم في دستور عام 2014 حدثت إضافة على هذه الصيغة تشمل التأكيد على أنّ هذا الفصل لا يجوز تعديله. غير أنّ ثمّة إشارة وردت في الفصله الثاني اعتبرت تونس “دولة مدنية تقوم على المواطنة وإرادة الشعب وعلوية القانون”. وهو أيضاً فصل غير قابل للتعديل، كما يوضح الدكتور عمار بنحمودة، المفكر التونسي المتخصص في اللغة والآداب والحضارة الإسلامية. 

وبسؤال المفكر التونسي عن مدى وجاهة الفلسفة التي يروج لها منسق الهيئة الوطنية الاستشارية لإعداد الدستور، بخصوص بإمكانية أن يؤثر هذا الحذف في الأحزاب الإسلاموية، يوضح لـ”درج” أنّ “لفظ الإسلام المنسوب إلى الدولة، وإن غاب من الدستور، لا يمكن أن يفضي إلى تخلي الدولة عن أدوارها الرقابية ورعايتها للمؤسسات الدينية واحتكارها شأن الإفتاء (وهو من مؤسساتها القائمة). فافتراض إلغاء الفصل الأول لن يؤدي إلى إلغاء الفصل السادس. وبخاصة ما يتعلق بمسألة رعاية الدين. وحينئذ فلن يكون لتعديل الفصل الأول أي أثر تشريعي أو قانوني. فالإسلام ليس مجرّد فصل في دستور البلاد وإنما هو متغلغل في النسيج التشريعي ومرتبط بالبرامج التعليمية فضلاً عن كونه لا يثير أي خلافات مذهبية”. 

ويتخوف بنحمودة من أن يمنح الموقف الراهن للخصوم الأيديولوجيين (لواضعي الدستور) فرصة لإعادة التموضع من جديد بدعوى حماية الإسلام، والاستعانة بذلك الأمر باعتباره حيلة لاستعادة شرعيتها المتآكلة. 

ولذلك فإن أثر هذا الإلغاء سيكون أيديولوجياً أكثر مما هو قانوني، بينما آثاره التشريعية ستكون ضعيفة في حال حظي الدستور بالتأييد الشعبي في استفتاء 25 تموز/ يوليو.

وعليه، فإنّ هذا الإلغاء المحتمل سيكون حتماً “هدية مجانية” لخصوم المسار الجديد، وحجة قوية لإقناع الناخبين بالتصويت ضد الدستور، وفق المفكر التونسي. فأثر هذا الفصل الذي لم يعدل في دستور 2014، ووقع التنصيص على عدم تعديله، يمكن أن يكون كبيراً في الرأي العام. فيستعمل أداة للشحن الأيديولوجي. والإبقاء عليه يصب في مصلحة الباحثين عن شرعية جماهيرية للاستفتاء.

إقرأوا أيضاً: