fbpx

معتقل الهول وقصة ولادة “الجيل الخامس” 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

العالم يؤسس في مخيم الهول لولادة المسخ، أي جيل ما بعد “داعش”، وهو ما سبق أن سمّاه ربيع سويدان “الجيل الخامس”، وإذا كنا في حينها أمام احتماله، فها نحن اليوم أمام حقيقته.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عندما يُحشر نحو 40 ألف طفل في مخيم أقرب إلى معتقل، وفي أسوأ ظروف صحية وحياتية يمكن أن يتخيلها المرء، ومن دون تعليم، وتشرف على تنشئتهم أمهات كانت كثيرات منهن عضوات في هيئة الحسبة (التنظيم النسائي لداعش)، ومعظم هؤلاء الصغار فقدوا آباءهم في الحرب أو في السجون، فما المستقبل الذي ينتظر هذه الكتلة البشرية التي يختلط فيها الجلاد بالضحية، وتضيع معها معايير العدالة والحقوق؟

لقد صار مملاً أن نكرر حقيقة أن مخيم الهول في شمال شرقي سوريا هو مؤشر الانفجار المقبل، الذي ينتظر فرصة. العالم كله مشارك في هذه الجريمة، والعالم كله جزء من عملية التنشئة في تلك المساحة الصحراوية الشديدة الحر والشديدة البرد. 

سنكون حيال مسخ جديد لا محالة، هو نسخة مطورة عن سلفه “داعش”. كل عناصر الولادة متوفرة. اختناق سياسي وديني وطائفي، وأجيال تنمو على وقع مأساة الأهل، وصحراء وكثبان وعشائر، وزنار هائل من السجون التي يقيم فيها الآباء، يحرسها مقاتلون كرد محاصرون بدورهم باحتمالات غزو تركي، ويلوح لهم التحالف الغربي بقرب تخليه عنهم.

لسنا هنا حيال مشاهد من فيلم هوليوودي، فما يحصل في معتقل الهول وفي محيطه مذهل، والمذهل أكثر أن العالم منساق لهذا القدر الحتمي، لا يحرك ساكناً، لا بل يمعن في تحويل المأساة إلى قدر. يقول الصليب الأحمر إن الهول هو أعقد مهمة خاضها، مذ باشر مهماته الإغاثية في كل بقع المآسي في العالم. والهول ليس مأساة سورية، على رغم أنها تدور في جغرافيا ذلك البلد. في المخيم بشر من ستين بلداً، السوريون نصفهم تقريباً يليهم العراقيون، وعدد لا بأس به من التونسيين والفرنسيين، وصولاً إلى جزر القمر. ليسوا ناجين ولا أبرياء ولا مرتكبين، فالبريء هو ابن لمرتكب، والناجي هو امتداد لقتيل، والمرتكب كان سبق أن دفعت به دولته إلى مصيره.

قيل لنا مؤخراً أن تعليمات وصلت إلى نسوة الحسبة من أرامل التنظيم بضرورة الزواج مجدداً من فتية صاروا مراهقين مع تقادم وجودهم، بهدف مد التنظيم بولادات جديدة في ظل عدم وجود رجال في المخيم!

يشيح العالم بوجهه عن هذه المصائر المعقدة. الدول لا تريد أن تسترد مواطنيها، فهم إذ غادروها شعرت بأنها تخففت من أعبائهم ودفعت بهم إلى سوريا، وقبلها إلى العراق. في تونس، يقول لك تونسيون ممن تلتقيهم في مقاهي العاصمة: “لا نريدهم ولا نريد أبناءهم”، وفي فرنسا طلبت الحكومة محاكمتهم في سوريا، البلد الذي ارتكبوا فيه جرائمهم! وفي لبنان يجري سماسرة الفساد صفقات مع أهلهم يتقاضون عبرها ما أتيح لهم ابتزازه. 

وفي مواجهة هذه البلادة وهذا الكذب، بإمكان المرء أن يرفع منسوب الإدانة واستعادة وقائع “الرحلات الجهادية” التي شهدناها طوال العقد الفائت. ذهب التونسيون إلى “الجهاد” في سوريا وفي العراق بتسهيل وصمت من حكومة “النهضة” حينها. حصل ذلك تحت أنظارنا نحن الذين كنا نركب الطائرات المتوجهة من تونس إلى إسطنبول. وحين تقاطر “المجاهدون الفرنسيون” ونظراؤهم الأوروبيون إلى الشرق للالتحاق بـ”داعش” شعرت الدول التي غادروها أنها تتخفف من أعبائهم، ولم تعترض طريقهم. لا نكشف سراً حين نقول ذلك، فثمة وقائع موثقة تثبت هذه الحقيقة. في لبنان قال مسؤول أمني لكاتب هذه السطور في حينها أنه أفرج عن عدد من المتشددين لأنه يعرف مسبقاً أنهم سيغادرون إلى سوريا فور خروجهم من السجن. 

استعادة هذه الوقائع يهدف للقول إن المأساة لم تولد في جغرافيا “دولة الخلافة”، وأن المسؤولية لا تقتصر على خيارات الآباء، هذا قبل أن نسأل عن الأخلاق والعدالة من وراء معاقبة هذا العدد الهائل من الأطفال، وزجهم في معتقل وفي أسوأ ظروف العيش. هذا العدد الهائل من الضحايا يفوق ربما عدد ضحايا المآسي التي يشهدها الكوكب. الحرب في أوكرانيا لا توازي شيئاً على صعيد أرقام الضحايا، والكارثة في لبنان لا يمكن قياس تبعاتها بما يمكن أن تجره مأساة معتقل الهول من احتمالات.

نحو 60 ألف سجينة وسجين طفل محشورين في معتقل هائل، هم ثمرة تجربة مريرة مر بها العالم واسمها “داعش”. وكما أن “داعش” هو ابننا وابن أنظمة الاستبداد وابن “البعث” وسليل السلفية الخليجية، هو أيضاً ابن تواطؤ الغرب مع هذه الأنظمة، وابن اختلالات جوهرية في البنى الاجتماعية الغربية. القول بأنهم هناك في الهول “في مكانهم الطبيعي”، وتجب محاكمتهم هناك ينطوي على ظلامة كبرى! بعضهم في مكانه الطبيعي، وبعضهم أرسلته دوله، فيما تواصل كثيرات بناء الخلايا، وبعضهن ضحايا أزواج وآباء وأشقاء، والأكيد أن سوريا هي آخر من يجب أن يتحمل تبعات هذا الحمل الثقيل.

ممنوع علينا نحن الصحافيين أن ندخل إلى معتقل الهول. فالمخيم سر يجب كتمانه، والوقائع في داخله تتواتر إلينا غير موثقة لكنها قابلة لأن تُصدق. قيل لنا مؤخراً أن تعليمات وصلت إلى نسوة الحسبة من أرامل التنظيم بضرورة الزواج مجدداً من فتية صاروا مراهقين مع تقادم وجودهم، بهدف مد التنظيم بولادات جديدة في ظل عدم وجود رجال في المخيم! الخبر غير الموثق، ممكن، على رغم ما يحمله من فداحة! المخيم مصدر لما لا يحصى من احتمالات. أما ما لا يحتمل الشك فهو أن العالم يؤسس هناك لولادة المسخ، أي جيل ما بعد “داعش”، وهو ما سبق أن سمّاه ربيع سويدان “الجيل الخامس”، وإذا كنا في حينها أمام احتماله، فها نحن اليوم أمام حقيقته، ويبقى أن يتوفر الشرط السياسي لانبعاثه خارج الهول، والمنطقة بطن ولادة لهذا النوع من الشروط.  

https://www.youtube.com/channel/UC4v5i5WG5AfomlsH-PWgQNw

إقرأوا أيضاً: