fbpx

من هوامش مخيم الهول… حُرّاس اليقين
والتحالف الدولي و”قسد” وألعاب المستثمرين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الصورة المراد تسويقها دولياً وقسدياً هي: إننا خلصنا العالم من الخطر الداعشي، وها نحن نبقي “تلك الذئاب البشرية” محجوزة في مخيم، ونضمن أمن مواطنينا خارجه.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تفتخر الدول والعواصم عادة بأنها “ملتي اثنية” أو متعدّدة الأعراق، ويعتزّ أهل أمستردام مثلاً بأن نحو 180 جنسية تعيش فيها، في محاولة لتأكيد قبول التنوّع والتعدّد. هذه رؤية مرحلة ما بعد الاستعمار التقليدي والحرب العالمية الثانية في المجتمعات الحديثة. إذ باتت شرائح كبيرة من البشرية ترى تميزها في قدرتها على قبول الآخر، حتى لو كان هذا الآخر مختلفاً، ما دام لا يتدخل في خيارات الآخرين، في مرحلة لم تعد المجتمعات البشرية كتلة صلبة من المتشابهين، بل غدت نسيجاً متنوعاً مختلفاً، ينظم تفاصيله وحراكه قانون، وقبول للفردانية، وقدرة على تأمين الخصوصية، ودولة تؤمِّن الكفايات الأساسية، وترعى أمن سكانها وأمانهم. يغضُّ كثر منهم عيونهم عن فكرة ضرورة “صدام الحضارات”، ويقدمون لصموئيل هنتنغتون مثالاً مناقضاً لجوهر كتابه، مؤكدين أن الإنسان لديه القدرة دوماً على تقديم المختلف والمدهش.

سكان مخيم الهول، كذلك، يمكنهم أن يقولوا: إنَّ نحو ستين جنسية تسكن فيه، وإنْ كانت دلالات فسيفساء الأعراق مختلفة المعنى فيه كلياً. اجتمعتْ الأعراق المتنوعة في مخيم الهول، لا لتعيش معاً، ويترك كلٌّ منها للآخر خصوصيته الثقافية أو الفكرية، بل اجتمع معظمهم ليلغوا التنوع والتعدد والاختلاف، ويعودوا بتاريخ البشرية إلى الخلف، من خلال البحث عن مجموعة من المتشابهين، لتحقيق هدف واحد ألا وهو الدولة الدينية الأحادية. يبدو هدفهم منافياً لسيرورة التاريخ، إذ اجتمع في مخيم الهول “حراس اليقين الديني” من معظم دول العالم، ليشكّلوا مجتمعهم المنشود، تجمعهُم الطريقة والمنهج والرؤيا المتشابهة، فهم حُداة “الصح” وآباء اليقين ومُلَّاك الحقيقة، تخلوا عن تنوعهم، ومشوا في مسيرة المتشابهين، ونبذوا طريق الاختلاف والخصوصية، تركوا مجتمعاتهم الأصلية التي تقوم على التنوع، وهاجروا لتحقيق مجتمعهم الصلب المتماسك المتشابه، الأحادي النظر.

 ولأنهم يمتلكون هذا اليقين، ويثقون به ثقة لا حدود لها؛ فإنهم يحتملون الكثير من القسوة والتوحش والظلم الدولي والمحلي المنافي لفكرة حقوق الإنسان، في هذا المخيم بصمت، وهو ما لا يستطيع أناس آخرون ممن يؤمنون بالنسبية احتماله لعنفه وحدّته وظلمه.

 ولِمَ لا يصبرون في هذه المرحلة؟ وهم في طريقهم نحو تحقيق كتلتهم الصلبة، وما تلك المرحلة إلا محنة على طريق تحقيق “يقينهم”، وبالتالي فإنَّ عليهم أن يتحملوا ويصبروا، كي تمر هذه المحنة الموقتة، بل قد ينالوا أجر مرورها هناك أيضاً.

التحالف الدولي وتفعيل عقوبة الإعدام بالإهمال

صار من القارّ أن حالة مخيم الهول موضع خلاف وأداة مساومة بين أعضاء التحالف الدولي من جهة، وحراسه من الكرد والدول المجاورة من جهة أخرى، وقد ظهر هذا الخلاف إلى العلن غير مرة، أما الجانب الإنساني والأخلاقي هناك، في عصر حقوق الإنسان فإنه مزرٍ، ويبدو أن الدعوة للالتزام بحقوق الإنسان من قبل الدول نسبية وليست عابرة للجغرافيا. ويمكن أن تكون في قمتها إنْ كان الضحايا في الغرب، وقد تصل إلى حضيضها إنْ كانوا في جغرافيا الشرق، حتى لو كان التحالف الدولي الغربي هو من يشرف على بقعة جغرافية ما، كحالة مخيم الهول، الذي غدا امتحاناً أخلاقياً وقانونياً للمجتمع الدولي عموماً، و”قسد” وصورتها، والمنظمات الدولية، والحملات الانتخابية، والمخابرات العالمية، التي تنصح حكوماتها بعدم استرجاع مواطنيها لمحاكمتهم في بلدانهم الأم. تريد دول كثيرة إبقاء “جرح الهول” مفتوحاً ليكون أداة ضغط على مرشحي الانتخابات الرئاسية اللاحقين، وملف إزعاج للحكومات اللاحقة، فتحاول تلك الحكومات إدارته، لا حله، وتركه ورقة ضغط إقليمية على دول عدة.

 تبتغي الدول التي ينحدر منها أولئك إكمال مسيرة الاختلاف والتنوع الخاصة بكل مجتمع، بعيداً من المتطرفين، لذلك تجد لهم مستنقعاً كل عقد من الزمان، فيه بهرجات وشعارات جميلة، فتغض النظر عن سفرهم، وتفرح بذهابهم إليه.

تنظر  إلى هؤلاء “الهوليين” عبر منظار، تمكن تسميته “ما قبل قانوني”، لأن القانون عادة ما يطبَّق على أمل الانصياع له، وتغيير السلوك، لكن الدول الغربية ترى أن أولئك البشر  من خلال أفعالهم السابقة مع “داعش”، وبحثهم عن المتشابهين، والركض خلف يقينهم الخاص، يعودون إلى مرحلة ما قبل الدولة، إذاً فلينعموا بها، ولن يسأل سائل عن ذنب الأطفال هنا، أو أن كثيرين كانوا ضحايا وعيهم، أو أعمارهم، وقلة تجاربهم. ومقارنة مع المجرمين الكبار في بلدانهم الأساسية، يظهر السؤال: لماذا لا يمنح هؤلاء فرصة ثانية للعيش والتغيير؟ ولماذا لا يعاد تأهيلهم في ظروف موضوعية؟

تحتفل الحكومات الأوروبية بأنها ألغت عقوبة الإعدام قبل سنوات طويلة، إلا أنها، اليوم، تطبق الإعدام في هذه الجغرافيا، عبر الترك والإهمال والنفي المبطن والحرمان من الحقوق، فمواطنوها في الهول وسواه من سجون “قسد” ومخيماتها متروكون للموت الصحراوي، والموت بالأمراض، والموت قهراً وجوعاً. 

لن يؤثر ذلك النوع من الموت الذي أوقعت الدول عدداً من مواطنيها فيه، بصورة الحكومات الأوروبية أمام شعوبها لأنهم خارج حدود الدولة. وهناك رأي عام تم تحشيده والاشتغال عليه للموافقة على إهمال الحكومات مواطنيها وتركهم يموتون ببطء. والمقارنة تثير الاستغراب إذ تذكرنا بأن بلداً مثل هولندا استنفر لفقدان شابيْن في غابات أميركا قبل سنوات، بل حدثت احتجاجات شعبية مطالبة الحكومة بمتابعة قضايا مواطنيها وعدم إهمالهم. أما أولئك الذين اختاروا التشدّد الإسلامي بإرادتهم وهاجروا إلى جغرافيا “داعش” بعلم المخابرات الهولندية أو بإغماض عينيها ربما، وقد فصل الباحث الهولندي في الجماعات الإسلامية مارتاين دي كونينغ في الحديث عن ذلك المشهد المربك بقوله: “تريد أوروبا أن تتطهر منهم، وتنساهم، تلك وجهة نظر لا تخلو من أبعاد ثقافية، واستعمارية، وصراعات شرقية- غربية، قد يكون دافع بعضها العميق دينياً عتيقاً، أو يرتبط بمرحلة الصراعات والامبراطوريات، أو تعبيراً عن رغبة باستعادة حالة الإلغاء والأحادية واليقين وممارسة العنف الذي تكون فيه الدولة هي الخصم والحكم”.

سيضيع صدى صراخ المنظمات الدولية المختصة بالطفل، وحقوق المرأة في رمال الصحراء، وأنَّ أولئك لا ذنب لهم إطلاقاً، وهم رضع وأطفال ومضطربون نفسياً، ذنبهم أنهم ولدوا لأشخاص متَّهمين بالدعشنة، لكنهم ليسوا داعشيين، ولن يرد على تلك المنظمات والمختصين أحد حين يقولون: إن أي شخص تضعه في هذه الظروف القاسية سيتحول إلى ضحية لأي فكرة متطرفة، وأن مضار إبقائهم هنا أكثر من مضار نقلهم إلى بلدانهم.

صورة الكرد وضرورة دفع الثمن

يردّد المجتمع الدولي في سرّه: أيها الكرد (عبر قسد هنا) عليكم أن تتحملوا شيئاً من تشويه صورتكم ما دامت لديكم رغبات بشيء من الاستقلال الذاتي، عقدتمْ اتفاقات معنا لمحاربة “داعش”، تلك كانت خطوة أولى، اليوم عليكم أن تحرسوا أطفالاً لا آباء لهم، أو سيدات لا أحد يعترف بهن، سنؤمن لكم الأسلحة والدعم والنقود ونترككم تستثمرون النفط، وأنتم الحراس.

صار من الصعب على الأكراد السوريين، العودة إلى نقطة الصفر، لا حلّ آخر أمامهم، إنْ لم يغيروا طريقة تفكيرهم، فسلاحهم الرئيسي الوحيد اليوم هو من يسمونهم “الضباع”. وكلما أرادت تركيا أن تهاجمهم في سوريا يطلق مظلوم عبدي القائد العسكري في “قسد”، تغريداته بأن ذلك سيؤثر في محاربة “الضباع “. وحين يحاول النظام السوري والميليشيات الإيرانية والروس مضايقة “قسد” يفعل قادتها الفعل ذاته. تتنبه أميركا والدول المعنية عند ذلك إلى ضرورة الحفاظ على “قسد” كحارس وورقة ضغط، فيعاودون ضغوطهم على روسيا وتركيا وسواهما للتراجع عن عملياتهم على ما يدعونه حزباً إرهابياً وفقاً للتسمية التركية.

 يعلم قادة الكرد يقيناً أن الأمور لن تبقى على ما هي عليه الآن، وأن المكتسبات الرمزية التي حصلوا عليها موقتة، وهم لا يثقون كثيراً بالتحالف الدولي الذي تخلى عنهم إبان العمليات التركية “غصن الزيتون” و”درع الفرات”، و”نبع الفرات” ويدركون بعمق أنهم لن يلتهموا النفط إلى ما لا نهاية. 

ينشغل كثر من قادة الكرد بمخرج مشرّف، ولائق لما هم فيه، مع المحافظة على عدد من المكتسبات، كي يقتربوا أكثر من النظام بعد خيبة أملهم بشيء من الحكم الذاتي، الذي حلموا به إبان الصراع مع “داعش” كهدية من المجتمع الدولي، الذي خذلهم قبل مئة عام. فكلما استعاد النظام السوري قوته تخفت أحلامهم وطموحاتهم، ويقتضي تشكيل لوحة متكاملة للمشهد القول: إن قرار الاقتراب من النظام صار وشيكاً. 

 وقائع مسكوت عنها

مخيم الهول 1993 هو غير الهول 2003 وهو غير الهول 2022، المناخ تغير، والخابور جفت مياهه، والمجموعة البشرية التي سكنت فيه تغيرت، والجهة المسؤولة عنه مختلفة، فبعد أن كانت الدولة المركزية السورية هي المسؤولة بمساعدة أممية، الآن المسؤول عنه جهة محلية أخرى، خارج سلطة الحكومة المركزية نتيجة قيام ثورة 2011 في سوريا هي قوات قسد، بالتعاون مع التحالف الدولي كبديل عن المجتمع الدولي، وضمّ في مرحلتيه الأولى والثانية فلسطينيين هاربين من الكويت، ولاحقاً فلسطينيين هاربين من العراق، كان يستعملهم صدام حسين، أو واهمين باستعادة فلسطين عبر بوابة الخليج أو العراق، أو عراقيين موالين لصدام حسين يخشون من انتقام المعارضة التي قبضت على الحكم بإشراف أميركي.

 أما الهول الحالي 2017-2022 فيسكنه سوريون هاربون من مناطقهم خوفاً من النظام وميليشياته بحجة أنهم لم يخلصوا للنظام أيام “داعش” ولم يموتوا حباً به، أو المطلوبون للخدمة العسكرية المفتوحة للنظام السوري، أما لماذا اختاره السوريون كبقعة للعيش، فالخيار لم يكن لهم، لأن “قسد” عام 2017 وبالتنسيق مع الأميركيين تخوفت من كمّ النازحين من دير الزور الذين قد يشكلون كتلة بشرية وازنة ستخلخل النسيج السكاني في أعلى الجزيرة السورية. 

ويسكن في المخيم عراقيون سبق أن أيدوا “داعش”، أو هاربون من “الحشد الشعبي”، أو لاذوا بالصمت إبان مرحلة “داعش”، إضافة إلى عدد كبير من الجنسيات المؤمنة به، أو أطفال ولدوا في تلك المرحلة العسيرة في التاريخ البشري، أو نساء أرامل لا يعرفن طريقاً للمستقبل، كأن قدر هذه البقعة الجغرافية من سوريا أن يكون المؤثر فيها دوماً إرادة دولية، وأن تكون مكاناً لتصفية الحسابات بين تلك القوى. 

الفلسطينيون الذين كانوا يوماً من سكان مخيم الهول، هرب معظمهم إلى أوروبا.

يعيش اليوم عددٌ كبير من الأنماط البشرية في مخيم الهول: منهم من هو معتقل على أمل محاكمته. ومنهم من هو مودَعٌ لأنه من رعايا دولة أخرى بانتظار أن تستعيده بلاده. ومنهم من لا هوية له أو جنسية، لذلك يشكل مخيم الهول مكان معيشة له، فخارج الهول لا أحد يعترف به. لا معلومات محايدة يمكن أن تعتبر مرجعاً، ولا إحصاءات دقيقة.

تشير إحصاءات منشورة إلى أن هناك شريحة كبيرة من السوريين من سكان الضفة اليمنى من نهر الفرات، (10 آلاف شخص تقريباً) لجأوا إليه حين فروا خوفاً من بطش النظام، بعد رحيل “داعش”، منعتهم “قسد” من الدخول إلى المناطق التي تحكمها إذ ليس لديهم أقارب من الدرجة الأولى، أو كفلاء “يضمنونهم” في محافظة الحسكة أو القامشلي أو سوى ذلك من بلدات في الجزيرة السورية العليا، وبعدما فقدوا كل أموالهم على الطريق، أو قدموها رشى للعسكر هناك، أو كانوا فقراء أساساً ولا يملكون مالاً، فلم يعد لديهم خيار سوى مخيم الهول، على أمل الحصول على مساعدات المنظمات الدولية لكي يعيشوا، وقد سمعوا من سلطات الأمر الواقع أن هناك أملاً بهجرة إلى أوروبا، أو أن بقاءهم سيكون لأيام ثم يعودون.

قوى التحالف الدولي المسيطرة من جهة و”قسد” المهيمنة من جهة أخرى، لديهما رغبة بتصدير صورة لوسائل الإعلام الدولية عن أن قاطني المخيم هم الدواعش فحسب. 

الصورة المراد تسويقها دولياً وقسدياً هي: إننا خلصنا العالم من الخطر الداعشي، وها نحن نبقي “تلك الذئاب البشرية” محجوزة في مخيم، ونضمن أمن مواطنينا خارجه. لا يزعج “قسد” هذا المشهد، لكي يبقى دورها والحاجة إليها قائمين، إضافة إلى أن هناك أملاً في أن تكون “الخدمات اللوجستية” ضد الإرهابيين مدخلاً لمكاسب على الأرض لاحقاً، إبان التفاوض مع النظام السوري أو القوى الدولية.

إقرأوا أيضاً: