fbpx

سرديات الضحايا في مخيم الهول: 
“الهجيجُ” من الجيش السوري وميليشياته إلى “قسد”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

معظم المقيمين في الهول مطلوبون، في سوق الإرهاب والإتجار بالخوف، الذي تحول إلى بضاعة رائجة، ليس عند الأنظمة المستبدة والميليشيات فحسب، بل أيضاً عند القوى الدولية التي تتاجر به، وتعرف كيف توظفه، وتبيعه، وتشتريه، وتصنعه.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في الحديث عن مخيم الهول وأحوال ساكنيه، تبرز سرديتان رئيسيتان هما: السردية الرسمية، وهي سردية “قسد” والتحالف الدولي التي لا تفارق سمات هذا النمط من السرديات. معلومات شعبوية، معقمة، تمنح صكوك الغفران، أو عبء الذنوب، لمن تريد، وتنزع عمن تشاء سمات الأخلاق لتمنحها أيضاً لمن تشاء.

والسردية الأخرى هي سردية المقيمين، أي سردية الضحايا، وهي سردية بروايات عدة، تبعاً لجذور السارد، والسبب الذي أودى به إلى هذا المكان. وما نركز عليه في هذا السياق هو سردية الفراتيين السوريين، وهم عرب، سنة، لديهم تقاطعاتهم وتشابكاتهم واعتراضاتهم حول السردية الأخرى، ولهم أبعاد جغرافية وتاريخية مع المكان، وساكنيه، وحاكميه.

يقول صالح الجادر، أول من التقيته، ممن كانوا يقطنون في مخيم الهول: إنه يشبه سجناً حكومياً، يتجاور فيه السجناء الجنائيون مع كبار المجرمين، وأصحاب السوابق مع الأحداث، الفرق وفقاً لصالح أن معظم الموجودين ضحايا وليسوا مجرمين، ويسهب صالح في ذكر أمثلة تدعم فرضيته. كنت أتأمل نشفان ريقه وحركة أصابعه، وهو يسرد حكايته، يريد أن يقنعني، بكل ما أوتي من قدرة على التأثير، بضرورة التعاطف معهم، ونقل مظلوميتهم إلى الإعلام أو القادة الكرد أو الرأي العام السوري والعالمي، ويعتقد أنني الشخص المناسب لإيصال رسالته.

تبلغ المسافة بين المنطقة التي كنت ضيفاً فيها، ومخيم الهول، 200 كيلومتر عبر طريق صحراوي يعرفه أهل المنطقة جيداً، وقد سلكتُه بالشاحنات حين كنت طفلاً لأساعد والدي في رعي الغنم، صيفاً، في منطقة تتحول إلى حقل من الأعشاب والزهور في وسط بادية الجزيرة الفراتية، اسمها “الروضة” إنْ كان الموسم ربيعاً والمطر وفيراً. وهناك طريق آخر هو عبر نهر الخابور لم يسلكه الناس إبان “الهجيج” كما يسمونه، وهي كلمة أدق بكثير من النزوح، وقد ورد في المعاجم: “هَجَّ الرَّجُلُ : فَرَّ هَارِباً مِنْ ظُلْمٍ إِلَى مَكَانٍ بَعِيدٍ”، وهنا نقول: هج الفراتيون إلى الجزيرة التي يحكمها الكرد، هرباً من ظلم متوقع، وخشية قصف الإيرانيين والنظام لمناطقهم، وهو ما حدث لاحقاً.

 يثق سكان هذه المنطقة بالبادية أكثر من ثقتهم بالمناطق المأهولة، لا يخافون ذئابها، أو مداها المفتوح، أو سرابها الذي يحسبونه ويعيشونه على أنه ماء، لهم تجارب طويلة معها، كلما ضغطت عليهم الحكومات السورية المتتالية أو طالبتهم بثأر أو ضرائب، أو أرادت القبض على شخص، يظن الأهالي أنه بريء، يلجأ إلى البادية، التي بقيت عصية على الحكومات، حتى إن الفرنسيين وفقاً لروايات المستشرقين قد سنّوا قوانين خاصة بالمنطقة، وخصصوا لها إدارة، وكانت الجريمة التي ترتكب في البادية تنطبق عليها أعراف العشائر، احتراماً للظروف المعيشية والمناخية فيها. تقدِّم البادية لأولئك السكان الثقة، وتُشْبع عندهم الحنين إلى الماضي، الذي تعج به حكايات الآباء، وتطمئنهم إلى أن الأبناء لن يتوهوا، إنْ اضطروا للمشي على خطاهم.

لا مشكلة يا أمي، هناك دائماً أصدقاء يمكن أن نستعين بهم، في رحلة الخلاص الفردي، ليت لديهم قدرات للمساهمة في حلحلة الشأن العام، الذي تتشابك به ألف جهة وجهة.

كان يمكن أن تكون أمي هناك في مخيم الهول، فقد هجّتْ مع أخي وأولاده، خشية قطعان النظام، وخيراً فعلوا حين هجّوا؛ لأن النظام قتل  أو اعتقل كل كائن حي وجده في مناطق الفرات، حين دخلها ليعفشها، كي لا يبقى شهود على فعلته، وكنوع من الانتقام، والحقد. إضافة إلى أنه تعبير جلي عن المستوى الأخلاقي الذي يتمثل في الرغبة بالانتصار على العزل المدنيين، وهي ثقافة موروثة في جيش النظام لم يكتف بها محلياً، بل سبق أن استخدمها في لبنان يوم “عفش” الحياة الاقتصادية والسياسية أكثر من 30 عاماً. وقد رأيت بعيني في منتصف التسعينات أن ضباطاً سوريين جلبوا المغاسل والمكتبات من البيوت التي احتلوها في لبنان، سكتنا وقتها كسوريين، ظناً منا أن هذه الجريمة تقع على آخرين. تألمنا للحدث، لكننا لم نقم بشيء يذكر، هل يجب أن نندم اليوم ونحن نرى أن أسلاك الكهرباء في بيوتنا والشبابيك والأبواب تم تعفيشها؟ ثلاثة من أولاد أخواتي، ممن توهموا أن النظام لن يقربهم قُتلوا، ووجد اثنان منهم مدفونين في جورة للصرف الصحي بعد عام ونيف، اعتقد أولئك الفتية أن من واجبهم أن يبقوا هناك كي يحموا بيوتهم وما فيها، لكنهم ماتوا، تقول أمهاتهم (أخواتي) وهن يبكين على صدر أخيهن لاستمداد القوة منه: ” ليتهم هجّوا معنا يا خيّي! ليتنا جميعاً هججنا إلى آخر الأرض كما فعلت حين هججت إلى هولندا”.

 لم أستطع أن ألتزم الصمت، بكيت مثلهن وأكثر، بعدما أزحت وجهي جانباً، ما أصعب أن تستشعر في بكاء أختك على صدرك الرجاء والأمل، ظناً منها أنك يمكن أن تعيد حقها، إلا أنك أضعف من ذلك بكثير، إنه أحياناً وهم النساء في الرجال، الذين هم ضحايا صورتهم القديمة، يوم كانت الرجولة مغامرة وسيوفاً وإقداماً.

تقول أمي بعد غياب تسع سنوات: لولا نداؤك على “فيسبوك” لـ”ربعك الأكراد” لكنا قُتِلْنا في أيام الهجيج.

غير أنها حين تسمع حكايات الهول تقول: الحمدلله أننا لم نذهب إلى الهول، ربما لم نكن لنخرج منه. 

طمأنتُها: لا مشكلة يا أمي، هناك دائماً أصدقاء يمكن أن نستعين بهم، في رحلة الخلاص الفردي، ليت لديهم قدرات للمساهمة في حلحلة الشأن العام، الذي تتشابك به ألف جهة وجهة.

كان النداء عبر “فيسبوك”، هو الذي أنقذ والدتي، واستنفرتْ بموجبه الكثير من قيادات “قسد” وممثليها في أوروبا، وهناك على الأرض، وكذلك قوى محلية وقيادات من التحالف الدولي، أطلقتُه بعدما وصلتني رسالة استغاثة من أمي، وأنا في هولندا عبر “واتساب” من خلال رقم آخر سميته “الرجل الزاجل”. يدور ذلك الرجل على القرى، يسجل رسائل الناس، عبر “موبايله” بعد أن يعرفوا بأنفسهم ويضيف هو الرقم المطلوب إلى قائمة اتصالاته، ويُدْفَعَ له أجر مقابل ذلك، حيث يذهب بعد تسجيل الرسائل إلى منطقة تبعد عشرات الكيلومترات فيها شبكة اتصالات، ليحمِّل الرسائل كي تصل إلى الأقارب، تلك طريقة من طرائق التواصل. سمحت الحياة التقنية الجديدة، بالحمام الزاجل لكن مقابل أجر وفقاً للتغيرات الاقتصادية العالمية، لا يعدم البشر وسائل التواصل في كل عصر وفقاً لظروفه، وأذكر أن والدي بقي يستمع إلى برنامج عبر راديو دمشق، من خلال برنامج يومي عن فلسطين، يرسل فيه الأهل الذين هم دون عنوان إلى أقارب لهم دون عنوان سلامهم وتحياتهم لعلهم يسمعونهم.

كتبتُ على صفحتي عبر “فيسبوك” يوم 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، المنشور التالي:

“إلى أصدقائي الكرد السوريين، القادرين على إنقاذ أمي،

 الكرد الذين تشاركت معهم  الشعر والنثر والعمل والحلم والشراب والطعام نحو نصف قرن…

روح أمي تناشدكم، دمها يلومكم كل لحظة، يلاحقكم، لا عذر لقادر منكم…

أمي التي هربت خوفاً ورعباً من بطش النظام وميليشياته وداعش، مستجيرة بالمناطق التي يديرها الكرد، يمنعها العساكر هناك من الوصول إلى المشفى للتداوي… 

ما تبقى من وجهها في الصورة وعروق يديها هو ما تبقى من أمي، يمنعها العساكر الذين يحكمون (مركدة) من الوصول إلى الحسكة للتداوي.

مركدة التي احتضنت أرواح الأرمن الهاربين من البطش والقتل… قد تضم ما تبقى من جسد والدتي.

تقول أمي في رسالة صوتية: أليس لك صديق كردي يستطيع أن يخرجنا من هنا؟ 

كان عندك (أصدقاء) أكراد كثيرين… وينهم؟ بمَ تريدون أن أجيب أمي؟

عنوانها؛ مفرق مركدة/ الرقاية/ طريق البقايا/12 كلم حارة الشعيبي،

 اسمها نورة أحمد السلامة، ليس لديها رقم هاتف

 ستجدون ما تبقى منها يعيش في خيمة،

 إما أنْ تذهبوا وتقتلوها

 أو لا تتركوها تموت مرضاً…”.

خلال ساعات فعلها أهلنا الكرد، وأنقذوها بالتعاون مع طائرات التحالف الدولي، أمي تخطو الآن نحو المئة بخطى ثابتة، وتسألني عن “ربعي الكرد”، الذين أنقذوها، وتدعو لهم من كل قلبها.

يشير صالح إلى أن نقوده هي التي أخرجته من كهف الهول، لا الوساطات التي قام بها شيخ العشيرة. وأثناء حديثه معي تدخل أحد الأقارب مقاطعاً: كلاهما! لولا الوساطة لما أدرِج اسمك في القوائم، أما الرشوة فسرَّعت بالإجراءات.

إقرأوا أيضاً:

تقتضي الأعراف العشائرية أن يقوم العائد من السفر بتفقد أحوال “الفخذ” واحداً تلو الآخر، وكذلك لا بدّ أن يسأل عن أهم الأسماء في العشيرة أو القرية، وكان مطلوباً مني أن أقوم بهذا الدور، بعد غياب نحو عقد من الزمان في قريتي على نهر الفرات. كان أخي يجلس بجانبي، ويلقنني عن أحوال الزائرين وما آلت إليه أمورهم: هذا عليّ تعزيته بابنه وزوجته وكنّته الذين ذهبوا بقصف مجهول المصدر.  وهذا علي تهنئته بأنه تزوج ثلاث زوجات، وهذا علي سؤاله عن ابنه المسافر وهل يرسل له ما يكفي من النقود. وهذا أهنئه بخروج ابنه من المعتقل. كان مطلوباً مني كي أستمر كائناً طبيعياً ضمن من ألتقي بهم، أن أبدو عارفاً بكل تلك التفاصيل وتبعاتها، لم أتذمر منها، فقد شكلت لي مادة حكائية تعوض انقطاع الكهرباء والماء والبحث عن مشتركات مع أبناء العم، فالدم لا يكفي وحده ليكون مشتركاً، لا بدّ من وجود عناصر أخرى.

النتيجة التي وصلت إليها بعدما التقيت بأبناء العمومة، أن “فخذنا” الذي كنت أعتقد أنه بعيد من الصراع في سوريا، وأن أهلي مسالمون ولا علاقة لهم بالثورة والحرب والسياسة، بدا كأنه فخذ عشائري منكوب، فعدد القتلى والمفقودين والمعتقلين مثلاً من أقاربي تجاوز المئة. هذا عن حكاية فخذنا الذي يتوقف عند الجد السادس، أما لو أردت أن أوسِّع الدائرة نحو العشيرة، لوجدتُ أوجع من ذلك بكثير، وبدا لي أن الثورة والأحداث التي تلتها، قد زارت كل البيوت وتركتْ بصمتها فيها. 

كنا نحسب أول الثورة السورية أن الحرب لعبة أو مزحة أو نزهة، سنعود سعيدين بعد القيام بها وقد تحققت أحلامنا بالنصر، مستندين على تاريخ طويل من الغزو والانتصارات التي كنا ندرسها في الكتب المدرسية من فتح الأندلس إلى حرب تشرين التحريرية، التي لا أعرف حتى اللحظة ما الذي حررتْه، وعلى من انتصرنا.

 لم يقبل أصحاب القرار من الطرفين (النظام والعسكريون من المعارضة) بالحلول الوسط، واعتقد كلٌّ منهما أنه يمسك بيقين النصر على الآخر، اليقين الذي كان خطأ كبيراً ربما، لا أعلم ذلك تماماً، هل هو خطأ أم صح؟ 

الحرب في سوريا بالنسبة إلى من هم خارجها حالة خبرية، وموقف إدانة يجب أن نقوم فيها، فنقول: إننا ضد القتل والاغتصاب والتهجير والاعتقال. بالنسبة إلى مشاهداتي، بعدما زرت الناس هناك في شرق الفرات السوري، فقد بدا أن الحرب بالنسبة إليهم نكبة وموت وتهجير وفقر وتكسير بنى اجتماعية. كلٌّ منهم اكتوى بنيرانها ودفع ثمناً كبيراً. هذا ابنه قُتل، او اعتقل هو، أو تدمر بيته، أو أصيب، أو فقد دوره، أو عمله، أو أنه ملاحق مخابراتياً، أو أصابه الفقر، أو تعرض لموقف ما في حياته، دعك من كونها حالة حاضرة في كل تفاصيلهم اليومية، الرصاص يسمعونه، والمنعكسات حاضرة في كل لقمة خبز يأكلونها فيمضغون حسراتهم وصمتهم.

حين جاء ابن عمي خليل مساء للسلام علي، قلت إن هذا الرجل كان يعمل “دكنجياً” ووفق معرفتي به فإنه كان يتحاشى أي علاقة ترجيحية مع أي طرف، مذ كان طفلاً يحبُّ أن يعيش في المناطق الرمادية، حتى إنه أبقى لون بيته بلون “البلوك” الذي عمَّره به، ورفض أن يدهنه ليبقي على لونه الرمادي، وكنتُ موقناً أنه لن يضع نفسه في وجه المدفع، واعتقدتُ أنه نأى بنفسه عن كل حدث في المرحلة الماضية، وإذ به يفاجئني بالقول: إنه كان في مخيم الهول! وحين رأى الاستغراب والدهشة في عيني، تابع: محطة الهول في حياتنا لم تكن خياراً، بل كانت محطة في طريق الخروج من جلجلة داعش.

كان لدى خليل اهتمام ماركسي، غير أن حسه التجاري غلب على دوافعه الماركسية؛ فاتبع طريق التجارة، بخاصة بعدما اتهمه حمود الشنتوت أمين الخلية الحزبية بأنه كان يلفّ بزر البطيخ المسلوق، الذي يبيعه في دكانه بمنشورات الحزب، ما يؤدي إلى تعفن البلاغات الحزبية، وكان خليل قد تبرع عبر سنوات بأخذ منشورات الحزب لتوزيعها على الرفاق المحتملين، والبحث عن رفاق جدد لينضموا إلى حزبنا. الرفيق الشنتوت قال: إنه أرسل ابنه ليحضر له “لفلوفة بزر مسلوق” وإذ به يفاجأ بأن ورق اللفلوفة هو بيانات الحزب، ولكي يؤكد صحة ما يروي فقد أحضر إلى الاجتماع الورقة ممتلئة بقشور البزر المسلوق. 

الرفيق خليل ردّ عليه بالقول: إن الرفيق الشنتوت مبذر، وخرج عن أهداف الحزب، فالأصلُ أن يكتفي بأساسيات الحياة، وألا يتناول البزر، ورأى في هذا خيانة لصغار الكسبة والطبقة الكادحة وطالب بفصله من كوادر الحزب، وقال: لو كنت مكانه لتوقفت عن أكل البزر. وبعد أخذ ورد قال الرفيق خليل: إن تلك طريقة لنشر أفكار الحزب عبر البزر بدلاً من التسويق المباشر والحديث عن الحتميات التاريخية.

ذكَّرتُ ابن عمي بتلك الحادثة التي مر عليها نحو عقدين من الزمن، فضحك ضحكاً طويلاً كأنه لم يضحك منذ قرن، قلت له: دعك من هذا، واحكِ لي ما الذي أخذك إلى مخيم الهول؟ أم أنك استعدتَ إحساسك الماركسي وشعرتَ بأن عبدالله اوجلان قريب من الماركسية دفعك للذهاب إلى مخيم الهول؟ مع أنني أعرف أنك لا تحب الأهوال بما فيها أهوال يوم القيامة؟ أريد أن أسمع منك عن المسكوت عنه هناك؟

قال: كل من التقيتهم هناك لا يعرفون عبدالله أوجلان، لا يعرفون سوى المال والظرف، الذي يجب أن يستغلوه، وقد فاتهم الكثير في مراحل سابقة، هم مثل المخابرات الأسد حين يتم تعيينهم في المنطقة الشرقية والجزيرة السورية يأتون فترة من الزمن ليعبؤوا “الخرج”  ثم يمشون من هنا، وبدلاً من أن يسافروا إلى الخليج كما يفعل عدد من شباب منطقة الفرات ليؤمنوا أساسيات حياتهم، يسافرون سفراً داخلياً.

في الحديث عن مخيم الهول وأحوال ساكنيه، تبرز سرديتان رئيسيتان هما: السردية الرسمية، وهي سردية “قسد” والتحالف الدولي، والسردية الأخرى هي سردية المقيمين، أي سردية الضحايا.

هناك، يا رفيق، وكنا نستعمل هذه المفردة للمزاح منذ زمان طويل، قل لي من أي طبقة اجتماعية أنت، وما منشؤك وإلى أي بلد تنتمي، وكم تملك من مال وإلى أي عائلة تنتمي، أقلْ لك ما الذي سيحدث معك في الهول، لست منجِّماً أو عاملاً بالتبصير، بل هي حسابات الواقع، رفاقنا القسديون من الكرد والعرب هناك في الهول خرجوا عن أهداف الحزب في وحدة الأمتين الكردية والعربية والنضال ضد المستعمر، وها هم يتعاونون اليوم مع الإمبريالية العالمية، ولا يكترثون بكل شعاراتنا القديمة ولا يكترثون بالبروليتاريا، آخ لو أن الرفيق خالد بكداش لا يزال حياً لفصلهم من الحزب، الذي لم يسجلوا فيه يوماً ولتخلى عن المكافأة المالية القادمة من الاتحاد السوفيتي.

قلتُ له، حدثني يا خليل عن وضع الأطفال هناك، فقال: كثيرٌ من الأطفال مفقود الأب أو أيتام، وقد ولد عدد منهم في المخيم، حيث الداخل مفقود والخارج مولود، وجدوا أنفسهم فجأة في غوانتانامو سوريا. 

قلتُ: إذاً، كل ما في المخيم كفيل بتوليد حالات كراهية عند القاطنين فيه!

ردّ بانزعاج: أخي هذا كلام باحثين، كلام ناعم، بصراحة كل ما في مخيم الهول كفيل بأن يولِّد مجرمين إلا من رحم ربي، فالعمران والاكتظاظ السكاني وفقدان الخدمات والتعامل المهين والعنيف وفقدان الأمل، والبنية الديموغرافية والشعور بأنك متروك ومهمل وغير فاعل، وأنك مادة استثمار يصنع حالات سلبية جداً في النفس البشرية؛ كل ذلك له ارتدادات عنيفة، إضافة إلى انتشار فكرة أن هذا عربي وهذا كردي وحمولاتها القومية والسلطوية والثأرية أينما تحركت.

 أذكر أن هذا السؤال سبق أن سمعته عدداً من المرات في الحدود السورية- العراقية وعند عدد من الحواجز، ولم أعرف ما فائدة هذا السؤال أو تأثيراته، وإن كان الأمر يتعلق بالخدمة العسكرية، وما حيرني أنه لم يتبع السؤال أي إجراء أو سؤال آخر! 

التجربة علمت ابن العم أن الأحزاب والأديان لم تفده، ما أفاده هو شيخ العشيرة فحسب، لأن شيخ العشيرة هو الذي أدرج اسمه في قائمة وافق عليها التحالف و”قسد” كنوع من إعادة الاعتبار للوجوه الاجتماعية في المنطقة كما قال خليل.

 تابع خليل مزهواً: هل تعلم يا ابن العم أنني كنت بطلاً في المسلسل المصري “بطلوع الروح” وأن أحد صناع العمل قد دعاني إلى إربيل ليستمع إلى تجربتي هناك وأعطوني ألف دولار وحجزوا لي فندقاً ثلاثة أيام مع الأكل والشرب وسيارة تأخذني وتعيدني إلى بيتي.

سألته: هل تابعت المسلسل حين عرضه؟

قال لي إنه ليس لديه كهرباء، والكهرباء التي يحصل عليها من الطاقة الشمسية تكفي للمراوح وتشغيل المصابيح وبراد صغير، وحسب.

لم أقل له: إنه كان مادة حكائية فحسب، لأن مسلسل “بطلوع الروح” قدم سردية السلطة عن مخيم الهول، وهي تتماهى مع موقف السلطة المصرية من كل ما هو ديني، وقد وجدت في حكايات الهول مادة درامية غنية، وقد يدخل في جوانب منه في إطار الصراع الدرامي بين الخليج ومصر من جهة، وتركيا من جهة أخرى، لأن من يعدهم المسلسل حماة للبشرية، هم بالمفهوم التركي إرهابيون في منطقة تضيع فيها دلالات الإرهاب ومفاهيم الاحتلال والوطنية والتدخل الأجنبي، وقد عبر انطونيو غاليلو عام 2013 في كتابه “أطفال الزمن: تقويم للتاريخ البشري” عن حالة تشتت الدلالة وضياعها في نص عنوانه (“يوم ضد الإرهاب”: مطلوبٌ لخطف البلدان). مطلوبٌ لخنق الأجور  وخفض الوظائف. مطلوبٌ لاغتصاب الأرض وتسميم المياه وسرقة الهواء. مطلوبٌ للإتجار بالخوف. 

معظم المقيمين في الهول مطلوبون، في سوق الإرهاب والإتجار بالخوف، الذي تحول إلى بضاعة رائجة، ليس عند الأنظمة المستبدة والميليشيات فحسب، بل أيضاً عند القوى الدولية التي تتاجر به، وتعرف كيف توظفه، وتبيعه، وتشتريه، وتصنعه، كما سبق أن تحدَّث عن ذلك بشكل مفصل زيغمونت باومان في كتابه الشهير “الخوف السائل”.

إقرأوا أيضاً: