fbpx

مسرح “لَبن”: اللسان والجسد كمُقاومة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مسرح “لبن” من المساحات التي لا تفك ارتباطها بالحديث السياسي، إذ تقول إنّها من خلال مسرحها الارتجالي، تُريد أن تكون صوت فئات متعددة، لاسيما فئات مُهمّشة، فئات مُورس عليها القهر من سُلطات بعينها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

مسرح “لبن” laban، جمعية لبنانية تهتم بالفن المسرحي وتمارسه، تحديداً الأداء الارتجالي. في أوّل يوم أربعاء من كُل شهر، يُقيم المسرح أمسية فنّية، تُسمى “قصصكم على المسرح Stories on Stage “، تقوم الأمسية على حكي الجمهور بعض من قصصهم القصيرة أو الطويلة، ومن ثمَّ يُعاد تمثيلها بواسطة أربعة ممثلين وممثلات (اثنان واثنتان). في كل أمسية يزيد عدد الحضور، وتختلف الوجوه، ما يعني أن هذه الأمسية نجحت في حشد الكثير من الناس حولها، كذلك استقطبتْ آخرين وأُخريات للحكي والمُشاركة والمُشاهدة. نحاول تناول ما تعبر عنه فرقة “لَبن”، كأداء مسرحي، وكيف يُكون الحكي في هذه الأمسية، بمثابة سردية مُقاومة تطغى على الفضاء كُله، مُتضمّنًا حكّائين وحكّائات وممثلين وممثلات ومُشاهدين ومُشاهدات؟

الحكي بالجسد 

في الفضاء المسرحي، تتداخل المساحة الخاصة بالعامة، الخاصة هي التي تخرج من الحكواتي إلى المستمعين والمستمعات، الذين يُمثلون بدورهم فَضاءً عاماً، يستمعون إلى الحكاية ويتفاعلون معها بمشاعر مُتداخلة ومُختلفة، ومن ثم يحكونها في مساحاتٍ اُخرى، خاصة وعامة، أو ينسونها وكأنهم لم يسمعوها. تتنوع المَرويات، بين المواقف الكوميدية البسيطة، التي طالما يبدأ بها العرض، ليطلّ المرح بدايةً، ومن ثم تدريجيا تأخذ المرويات نفسها ونحن معها إلى التراجيديا. القصص الصراعية التي تغلب عليها مأساة أو مِحنة بعينها، مثل، الصراع مع المرض النفسي، ألم فقدان الحبيب أيا كانت صفته، تحدّي مرض أصاب إنسان قريب لنا، قصة إنسان مع سلطات بعينها، سُلطة إجتماعية وأُخرى سياسية، ينتج عنها تعنيف، تعذيب، سجن إلى آخره. حتى الراويين والراويات من الجمهور، تتنوع جنسياتهم وطبيعة نشأتهم من حيث البلد والبيئة الفكرية/الاجتماعية. 

أما الفرقة فَتتلقى الحكاية بآذان مُنصتة وإدراك قويّ التركيز، ومن ثم يقومون بدورهم بإعادة سرد القصة على المسرح، عن طريق استخدام التعبير السيميولوجي (نقصد بـ  السيميولوجيا هنا، حركة الجسد في الفضاء الاجتماعي)، أكثر من التعبير الكلامي الذي يُكرر ما رواه صاحب القصة، ما يعني اعتمادهم على رقصات الجسد وتَمايلاته بدرجة كبيرة (انخفاض الرأس في مشاعر الانكسار، فرد وفتح الذراعين في مشاعر الانتصار، إلى آخره)، بالتوازي مع ارتجال عبارات كلامية مُختصرة، تُعبر عن إحساس الراوي وقت حدوث القصة له، مع لحن موسيقيّ تتقاطع فيه صوت أوتار العود مع دف الطبلة، بمزيج من إضاءة تظهر وتختفي وتتخافت في إيقاع مشهديِّ مُتكامل، ما يزيد من تضخّم المشاعر في الفضاء المسرحي، ويجعل كل من الجمهور وصاحب القصة من بينهم، في أشدّ تجلّيات الانتباه لما تُجسّده القصة من حركات سيميولوجية ولسانية جديدة، وهي تحاول الوصول لذات إحساس صاحب القصة وقتها. 

الحكي كمُقاومة

لا شك أننا نعيش في زمن انهيار ما يُعرف بالسرديات الكُبرى. نظّر مفكرون كثيرون لها، من بينهم أستاذ الاجتماع الفرنسي فرانسوا ليوتار في أطروحته عن الوضع ما بعد الحداثي، أي الأيديولوجيات الفكرية التي تبلورت وشُكّلت وصعدت وازدهرت في بدايات القرن العشرين وصولاً إلى بدايات أفولها في ثمانينيات القرن نفسه. الإسلام السياسي، اليسار، بمختلف اتجاهاتهما الفكرية والتنظيمية، ومعهما القومية العربية. هذه السرديات الإيديولوجية التي كونت تنظيمات حركية صلبة عاشت ومارست العمل الثوري/الإصلاحي لعقود طويلة، لكنها  وَبالتدريج انهارت تنظيمياً واضمحلت نظرياً ولأسباب كثيرة لا يسع لنا ذكرها في مقالنا، بل استبدلتْ بسرديات هشّة، تحت رعاية ما سمّاه الاجتماعي المصري الراحل عبد الوهاب المسيري “نُظم الاستهلاك والسوق”.

بالتوازي مع هذا الحراك التنظيمي السياسي والفكري المَحشود من أجل معارضة السُلطوية بكافة أشكالها، أُسستْ فضاءات أُخرى ثقافية وفنّية، بأشكالها المُختلفة من الغناء والحكي والتمثيل بكافة تَنوعاتها الأدائية، وبدورها أخذت مساحاتٍ من العمل السياسي التنظيمي، بعض من  هذه المساحات خاصمت السياسة لأسباب عدّة، والبعض الآخر تقاطعت أنشطتها مع العمل السياسي، فكل حديث أو غناء أو تمثيل يرتبط بشكلٍ أو بآخر بالحياة السياسة. مسرح “لبن” من المساحات التي لا تفك ارتباطها بالحديث السياسي، إذ لا يُفرض على الجمهور أن يحكي قصصاً لا علاقة لها بالسياسة أو السُلطوية، وهذا دائماً تعرّفه الفرقة عن نفسها، إذ تقول إنّها من خلال مسرحها الارتجالي، تُريد أن تكون صوت فئات متعددة، لاسيما فئات مُهمّشة، فئات مُورس عليها القهر من سُلطات بعينها، إجتماعية وسياسيّة. 

في حديثها عن الكرامة والاعتراف، تقول الكاتبة السورية نسرين الزهر متناولةً تجربة الشاب السوري عمر الشغري، والذي اعتقل لعدة أعوام في سجون النظام الأسدي، ومن ثمَّ خرج ليحكي للعالم كُله باللغات العربية والإنجليزية والسويدية شهادته عن المسالخ الأسدية بحق المُعتقلين السوريين، ويشغل حاليا منصب مدير شؤون المحتجزين في فريق الطوارئ السوري: “ما يُقدمه عمر الشغري هو عرضٌ عاكسٌ لأجسادنا ومَاهيتنا، ليس بمعنى أن كل فرد سوري شاهد أو ناجٍ سيأخذ مَنحى عمر الشغري ذاته ولكنه يعكس تجربة الجسد السوري الـذي ـ تبعثر بين طلب الكرامة وترجمة القضية السورية”. تُحلل الزهر في فصلٍ من كتاب “كلمات من لحم ودم: الجسد في الواقع السوري” (ص 33)، تَمظُهر النفس والجسد في خطابات عمر ومرويّاته، إذ تنتقد أن يتحول عُمر إلى صورة الأنفلونسرز الذي يحكي تَجارب خيالية مفصولة عن الواقع، أو يتحول إلى جسدٍ بلا كرامة، يحكي مروياتٍ لا يستوعبها أو يُصدقها أو يعني بها المُشاهد. في الوقت نفسه، هي تؤرخ لهذه الحكاية، كعمل مُقاوم يناضل من أجل فضح المُجرم، إثبات الكرامة الإنسانية للجسد السوري وغير ذلك من نضالات عادلة. 

وهذا ما يحدث ضمنًا، ضمن فضاء المسرح، إذ بعض المحكيّات التي تُقال وتُسمع ويُعاد تمثيلها، هي بمثابة سردية مُقاومة، لاسيما الحكايات التي تمتزج بالقهر ومقاومته ضمن السلطويات السياسية والاجتماعية التي تركت ذاكرة من الألم، الفقدان، الكُره في نفوس من طُوّعوا تحت مرئياتها القمعية. على سبيل المثال، الرواية التي تُجسد الصراع مع المرض النفسي، هي سردية مُقاومة تتذكر وتسرد نضال النفس المُحطّمة في إعادة ترميم ذاتها، أيضا تجربة السجن التي تُروى، ليست تَجربة مواساة أو نعي أو دفن حكاية ماتتْ، بل تَجربة لإثبات فعل غير عادل قد حدث، وها هو يُعاد سرده وفضح السُلطة التي مارسته، ما يعني إدراك من لا يُدرك، وتذكير مَن نسي، وإثبات وجود ذاتي واجتماعي مُقاوم للألم المُستمر لآخرين لم ينجوا بعد. 

بعد انتهاء الأمسية، يقف ثلاثي الفضاء، الراوون والممثلون والمُشاهدون معا، مزيدا من الوقت، لمزيد من الأحاديث والتعارفات بين بعضهم البعض، وهذا ما يعزز فهم وإدراك الفرقة لما تُقدمه من أمسيات، مبنية على أساسات التواصل الإنساني الذي يُعزز ويَدعم الوجود الذاتي والاجتماعي والسياسي بين الحضور. 

إقرأوا أيضاً: