fbpx

خزانة أمي وعباءات فيروز

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لا أعرف الكثير عن عائلة ريما لكن عندما يشغّل والدي أغاني فيروز في المطبخ، أغيّرها بسرعة، في محاولة لطرد الشراويل والعساكر والمخاتير. أما ريما فكيف لها أن تفعل ذلك؟ أي خزانة تفتح إن كانت فيروز لا ترتدي إلا العباءات والأسود.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في خزانة أمي أقمشة كثيرة، الفرو، الجلد، و الـ”دانيم”، الحرير، المخير، الكشمير… تأتي بألوان متنوعة ودرجات متفاوتة مثل الأزرق السماوي، والأخضر الزمردي والأحمر اليوسفي وغيرها. كل يوم، تنتقي ملابس تعبر عن مزاج مختلف، دون المبالغة في إظهاره، من خلال تنسيق الألوان بتناغم: فمثلاً تلجم الأحمر بالكحلي، وتنثر بعض الذهبي على الأسود كي تنيره، أو تتحدى نقاء الأبيض بالعاج. في الواقع، القطع البيض والسود التي تمتلكها قليلة، وهي إما منقطة أو منسوجة بخيوط متفاوتة الكثافة بهدف أن يعوض شكل النسيج، والظلال التي يصنعها، عن غياب اللون. أمي تلاحق الأضواء وتسرقها. بالفعل، تحتاج الألوان إلى الجرأة في مواجهة الخوف، أما تنسيقها فيكشف عن وعي بالفروقات وإقصاء للأفكار المعلبة. لا تعلب أمي الآخرين في بيئاتهم، تراهم أبناء وبنات ظروف مختلفة وهذه الظروف كالريش الملون، يزين أزياءهم اليومية و يميزها. 

أين الألوان يا فيروز؟ أين الريش والفرو؟ أين الظلال الراقصة وعيون النرجس الساحرة؟ لم على أهل الضيعة أن يحاربوا الـ”غريب”؟ أصلاً “مين الغريب؟”، يسأل أبو الزلف في مسرحية “شي فاشل”.

كبرت وأنا أراقب أمي تقرأ تعليمات الغسيل لكل قطعة بدقة كي تحافظ عليها، فهذه الملابس تمثل أغلى ما عندها: حريتها وفرادتها. بالطبع لم أعِ حين كنت طفلة؛ لم أفهم الثورة التي كانت تقودها بوجه مجتمعنا الأبوي المحافظ الذي حاول كثيراً أن يقلصها ويلزمها بالأبيض والأسود. في صغري كنت أريد أن أشبه الآخرين، أن أنتمي إلى شيء أكبر مني، وحتى في مراهقتي بقيت أبحث عن كيان يبتلعني؛ كدين أو إيديولوجية أو مجموعة أو حزب أو وطن. بالطبع، انعكست التزاماتي هذه في الثياب التي أختارها، حتى امتلأت خزانتي بالفساتين الطويلة أولاً، ثم القصيرة مع الجوارب الممزقة. وأخيراً عندما أعجبت بشاب فلسطيني في الجامعة، رحت أضيف الكوفية على “الستايل” اليومي، بحثاً عن بعض الانتباه، إلا أن الشاب لم يكن يعاني من أزمة هوية مثلي وغادر إلى تكساس قبل أن أعرف رأيه بالموضوع. لحسن حظي، كانت أمي دائماً قريبة مني، دون أن تتدخل كثيراً في أموري؛ تنبهني من المجازفة بفردانيتي، وتراني أعود أدراجي عندما يصبح ثمن الانتماء رقابة على مخيلتي، وما أقوله وأفعله. علمتني أن أدافع عن حريتي بشراسة، أن أثور دون أن أخسر توازني، وكلما حاول الأسود ابتلاعي، أفتح خزانتها وارتدي قمصان الحرير الزمردية. هكذا، أصبحت خزانة أمي أجمل شيء في البيت، فكل القصص المشوقة تختبئ هناك، لا في غرفة الجلوس، حيث نميمة الجيران المملة ولا في المطبخ، حيث فيروز. 

بالمناسبة، لم أحب فيروز يوماً، إنها تمثل الخيار الذي لطالما خذلني: بنت الضيعة، حيث تطغى الازدواجية البسيطة وتغيب الفروقات الملونة، صاحبة الأحاسيس الثقيلة التي تغرسها قرب قناطر مهجورة، الحبيبة الصبورة، الأم والأخت والبنت المطيعة، المواطنة المسؤولة… أين الألوان يا فيروز؟ أين الريش والفرو؟ أين الظلال الراقصة وعيون النرجس الساحرة؟ لم على أهل الضيعة أن يحاربوا الـ”غريب”؟ أصلاً “مين الغريب؟”، يسأل أبو الزلف في مسرحية “شي فاشل”.

عندما زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فيروز، لإهدائها ميدالية ما، استقبلته بالعباءة طبعاً، تحية لفولكلور ما. يومها قامت ريما، ابنتها، بتسريب صور الرئيس الحصرية لهذه المناسبة وسمحت للإنترنت أن يتطفل أخيراً على خصوصية الأيقونة. رأينا جزءاً من منزل فيروز، وكما كنا نتوقع، كان منجّداً بالصور العائلية والمزيد من الايقونات الفلكلورية والدينية المحافظة. في الحقيقة، ما هو مثير للاهتمام هنا، هو ما حاولت أن تقوم به ريما: تصوير الأيقونة بعدستها الخاصة، لا بل محاولة السيطرة عليها. هل هذا نوعٌ من العصيان؟ 

لا أعرف الكثير عن عائلة ريما لكن عندما يشغّل والدي أغاني فيروز في المطبخ، أغيّرها بسرعة، في محاولة لطرد الشراويل والعساكر والمخاتير. أما ريما فكيف لها أن تفعل ذلك؟…

إقرأوا أيضاً: