fbpx

يمنى الناجية من انفجار مرفأ بيروت: “هكذا تخلّصت من طعم الدم”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!
"درج"

“استرجعت حاستي الشم والتذوق في نهاية العلاج، وتحسن سمعي. عرفت من خلاله أن السبب الأساسي وراء رائحة الدم وطعمه الذي كان عالقاٌ في فمي هو طريقة تخزينه الخاطئة في ذاكرتي يوم الانفجار.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

دم! كل ما تتذكّره يمنى حمود هو الدم: “دم وعالم بالطرقات وصريخ وغبرة، عشان هيك على فترة ضليت كل شي بشمّه وبستطعم فيه هوي دم!”.

كانت يمنى في منزلها الكائن في منطقة الجميزة لحظة وقوع انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/ أغسطس 2020. فقدت جزءاً من سمعها كما فقدت حاستي الشم والتذوّق وعانت من آلام في الأطراف والأصابع لفترة طويلة قبل أن تجد راحتها في علاج الـEMDR.

يختبر الأشخاص الصدمات بشكل مختلف، وتتفاوت ردود الفعل بين شخص وآخر بحسب التركيبة النفسية والبيولوجية. يعرّف علم النفس اضطراب ما بعد الصدمة أو  PTSD بأنه اضطراب يصيب بعض الأشخاص الذين اختبروا حدثاً صادماً أو مخيفاً أو خطيراًَ. في السنوات الثلاث الأخيرة، عايش الناس في لبنان أزمات أثرت سلباً في صحتهم النفسية وهددت وجودهم أيضاًَ. من انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 التي تبعها الانهيار الاقتصادي وأزمة “كوفيد- 19” والحجر الصحي، وصولاََ إلى انفجار المرفأ في 4 آب/ أغسطس 2020. بحسب المعالجة النفسية أنيتا توتيكيان، معظم الحالات التي عاينَتها منذ 2019 حتى الآن هي صدمات أو traumas بسبب الأحداث الأخيرة في لبنان. 

تعتمد أنيتا طريقة “إبطال الحساسية وإعادة المعالجة عبر حركة العينين” (EMDR) مع مرضاها، وهي طريقة لعلاج الصدمات تم إنشاؤها وتطويرها سنة 1987 من قبل المعالجة النفسية الأميركية فرانسين شابيرو. أثبتت الطريقة فاعليتها بعد هجوم باتاكلان الإرهابي في فرنسا سنة 2015. يروي المخرج السينمائي اسماعيل العراقي الذي نجا من الهجوم كيف ساعدته الـEMDR بعد الحادثة قائلاً: “لجأت إلى هذا النوع من العلاج لتخطي الصدمة النفسية، والتقيت هناك ضحايا اغتصاب وانتهاك وعنف، وكثر منهم عانوا من الأعراض ذاتها التي اشتكيت منها. اكتشفت حينها أننا نتجاوب مع الصدمات بالطريقة نفسها، ونشفى بالطريقة نفسها”.  

برغم أنّ جمعية EMDR لبنان لم تبصر النور رسمياً إلاّ في 25 نيسان/ أبريل 2013، لكنّها كانت تنمو تدريجاً في خطوات صغيرة قبل فترة طويلة من ذلك التاريخ. وكانت كلّ خطوة أشبه بخطوة إلى الأمام في رحلة الألف ميل. كانت البداية في شهر آذار/ مارس 2007، عندما قام فريق مؤلف من ثلاث اختصاصيات من مؤسسة EMDR HAP في برنامج المساعدات الانسانية في الولايات المتحدة وفرنسا بالتطوع للمجيء إلى بيروت بغية تدريب مجموعة من المعالجين النفسيين من ذوي الخبرة والمنتسبين إلى الجمعية اللبنانية لعلم النفس. قامت الاختصاصيات الثلاث بتدريب المعالجين النفسيين اللبنانيين على كيفية استعمال EMDR. 

برزت الحاجة إلى تدريب المعالجين النفسيين اللبنانيين على علاج الـEMDR  بشكل خاص بُعَيد الحرب المدمرة التي شنتها إسرائيل على لبنان في شهر تموز/ يوليو 2006 وخلّفت لدى معظم اللبنانيين صدمات نفسية مباشرة وغير مباشرة متفاوتة الحدّة.

جربت الشابة يمنى حمود EMDR مع أنيتا بعد 5 شهور من انفجار بيروت، بسبب معاناتها من آلام جسدية مزمنة تبين لاحقاً أنها مرتبطة أساساً بوضعها النفسي. تتحدث يمنى عن بدايات تجربتها وتقول: “كنت في منزلي المواجه للمرفأ تماماً في وقت الانفجار. هبط السقف والجدران عليَ. كان علي أن أتذكّر هذه التفاصيل أثناء العلاج وأعيد تكرارها وأتوقف عندها أحياناً أخرى لأعيد حفظها في الجزء الصحيح من الذاكرة”.

تعرضت يمنى لنزيف أثناء الانفجار، وتأثر سمعها وحاسّتا التذوق والشم لديها، إضافة إلى تنميل الأطراف الذي سبب لها إزعاجاً شديداََ: “نفسياً مش كتير كنت مرتاحة، كنت متعرضة لصدمة (تروما) وجسمي كان عم يعبّر عن عدم الراحة بطريقة مزعجة. اكثر شي كان يزعجني هو الألم الجسدي، انو عايشة مع وجع مستمر ما بيخلص. كل يوم ما بتشمّي، كل يوم ما بتستطعمي شو بتاكلي، اصابيعي ينملوا كل الوقت، أوقات اوعى بالليل من الوجع اصابيعي منملين عم ببكي. كان عندي ايد ما فيي استعملها لان فيها 3 اصابيع بينملوا كل الوقت”.

تساعد EMDR على فتح شبكة الذاكرة التي احتفظت بصورة الحدث وقت الصدمة والأحاسيس النفسية والجسدية السلبية المرافقة لها، وإعادة برمجة الذاكرة بغية التخلص من هذه الأعراض عند تحفيز ذكرى الصدمة. وبالنسبة إلى البروتوكول المعتمد للعلاج، يتألف من ثمان خطوات: تبدأ من ماضي المريض والتحضير للخطة العلاجية، ومن ثم يتم الانتقال إلى مرحلة تحضير المريض من خلال تعريفه على تقنيات التعامل مع الضغط النفسي مثلاً، كالتنفس العميق وتمرين التركيز الكامل للذهن (mindfulness exercises). وتأتي الخطوة الثالثة للتقييم لتتبعها أربع خطوات يتم فيها العلاج. وفي النهاية، يعاد التقييم. 

“اللي كنت عارفة انو تروما كان لازم ارجع عيده كله واوقف على تفاصيله انا وعم خبّر انيتا”، تقول يمنى لـ”درج”: “بواسطة EMDR كان عليّ أن أسترجع ما حدث مع تفاصيله، وأن أرويه مرّتين في الجلسة نفسها، الاولى وانا اتحدث الى انيتا والثانية وانا انظر الى الضوء المتحرّك. كان صعباً جداً أن أتذكّر كل القصص بالتفاصيل واشرّحها وافهم ما نقاط الانزعاج العالقة في دماغي؛ منظر معين، صوت معين، لحظة معينة. وبعد تحديد هذه النقاط كان عليّ أن أعيد خلق ذكريات جديدة لاستذكار أوقات كنت اشعر فيها بالأمان لكي اتمكّن من تحفيظ هذه الصور في مكانها الصحيح”.

يقول الاستشاري المعتمد والمعالج المُجاز جان داوود إن الـEMDR “يُعرِّفُ الإنسان على شبكة الذاكرة التي تبدأ من الولادة”، ويشرح: “ينظر في تاريخ الشخص والمشكلة التي قصد المعالج بسببها، حتى وإن كانت بعيدة كل البعد من السبب الرئيسي لما يعاني منه”، وتختلف مدة العلاج بحسب ثقل الصدمة أو التراكمات، فإذا كان المرضى يعانون من صدمة واحدة، يمكن أن تتم معالجتها في جلسة واحدة، بينما إذا كانت سلسلة من الصدمات المتراكمة، فقد تتطلب من 10 الى 15 جلسة، وفقاً لداوود.

في نهاية العلاج، تشارك يمنى بعض النتائج وتقول: “استرجعت حاستي الشم والتذوق في نهاية العلاج، وتحسن سمعي. عرفت من خلاله أن السبب الأساسي وراء رائحة الدم وطعمه الذي كان عالقاٌ في فمي هو طريقة تخزينه الخاطئة في ذاكرتي يوم الانفجار. بعد العلاج، أصبحت قادرة على تعريف الأشياء من حولي بشكل أفضل لأستوعب أن ما أتذوقه الآن ليس دماً. وأكثر ما أحبه في EMDR هو انها تعبيرية وتجعلنا نواجه مشكلاتنا ومشاعرنا السلبية ونعرّفها لنستطيع التعامل معها لاحقاً بطريقة مختلفة”.

لا تقتصر تأثيرات ال EMDR الإيجابية على الصحة النفسية عند البالغين فقط، بل تم الاعتراف بها من قبل منظمة الصحة العالمية (2013) كعلاج فعال للأطفال والمراهقين الذين عانوا من أحداث مؤلمة. كما أن لديها أعلى توصية للأطفال والمراهقين الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة من الجمعية الدولية لدراسات الإجهاد الناتج عن الصدمة (ISTSS 2018). وبحسب أنيتا، يزورها أطفال يعانون من صدمات، ولكن يتوقف قرار الزيارة والبدء بالعلاج على الأهالي الذين لا يؤمن بعضهم به أو يخافون أن يكشف الأولاد أسرار العائلة من الكشف من قبل الأولاد. وتبقى “وصمة العار” المرتبطة بالعلاج النفسي في لبنان موجودة وتشكل عائقاً أمام من يحتاج المساعدة لعيش حياة أفضل، ولكنها آخذة بالتراجع رويداً رويداً.

من المعوقات الأخرى التي تقف في طريق انتشار الـEMDR بشكل أوسع في لبنان أو اعتمادها من قبل شرائح أكبر بحسب أنيتا، هي التكلفة المادية المرتفعة وخاصة بعد الانهيار الاقتصادي. إضافة إلى المشكلات الجغرافية أو المناطقية المتمثلة بالبعد عن مركز المدينة، ما يحد من إمكانية وصول سكان الأرياف والضواحي إلى المراكز أو المعالجين الذين يعيش معظمهم في بيروت.

على رغم الصعوبات التي تواجه المعالجين والمرضى في لبنان، تختم أنيتا حديثها بالقول: “عندما أنجح بعلاج أحد الأشخاص أبكي أو أرقص أحياناً. عند الوصول إلى حالة متقدمة توقعنا أنها مستحيلة في البداية. أشعر بأن هذا الأمر يقوّيني”.

إقرأوا أيضاً: