fbpx

نوح هيراري ومقاربة الإرهاب:
هل يمكن تحليل الظاهرة من دون فهم الإرهابي نفسه؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الإرهاب أمر اشتبك بشكل لا يقبل الفصل مع قضايا الشعوب العادلة مثل إسقاط الديكتاتوريات، والدفاع عن النفس ضد عنف السلطات، والتخلص من التبعية للأجنبي، والقضية الفلسطينية وغيرها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عام 2018، نشر يوفال نوح هراري كتابه “21 درساً للقرن الحادي والعشرين”، ليتصدر في أيام قليلة قائمة الكتب الأكثر قراءةً حول العالم، شأنه بذلك شأن كتابه “العاقل، تاريخ موجز للبشرية” الذي قدم لنا فيه تاريخ البشرية والمسارات التي سلكتها وصولاً إلى الحضارة التي بلغتها اليوم، وكتابه “الإنسان الإله، تاريخ الغد”، الذي رسم فيه الدروب التي ستمضي فيها البشرية إلى المستقبل. أما كتاب “21 درساً للقرن الحادي والعشرين” فقد طرح فيه أهم الدروس المستفادة من أهم القضايا التي فرضت نفسها علينا في السنوات العشرين الأخيرة من منابتها إلى مآلاتها المتوقعة. 

 الكتاب يقع في 372 صفحة في نسخته الإنكليزية ويطرح أبرز المواضيع التي تمكنت من صدع رأس البشرية، وما زالت تثير حيرتها، وتشغل المساحة الأكبر في صفحات الجرائد والمجلات والمواقع الإلكترونية، مثل العمل والليبرالية والمساواة والتغير المناخي والذكاء الصناعي والأديان والتعليم والعدالة وغيرها من المواضيع التي لم يعد بإمكان البشرية التعامل معها بشكل منفرد، وهذا أكثر ما كان يؤكده هيراري، فالبشرية تواجه مخاطر لن تتمكن من تجاوزها، إلا بعمل مشترك على مستوى العالم.

كنت قد قاربت في مقال سابق درس الهجرة الذي ربما استطاع لفت انتباهنا كعرب بشكل أكبر من بقية الدروس الـ21. في هذا المقال أناقش الإرهاب، وهو إحدى المعضلات الأكثر إلحاحاً بالنسبة إلى هيراري وإلينا بطبيعة الحال.

يفتتح هيراري كلامه عن الإرهابيين بوصفهم سادة التحكم في العقول، ففي حين أن أعداد ضحايا العمليات الإرهابية في العالم كانت على الدوام أقل بكثير، وبالكاد تمكن مقارنتها بأعداد ضحايا حوادث الطرق أو السكري أو التلوث، فلماذا نخاف من الإرهاب أكثر من مرض السكري، ولماذا تخسر الحكومات الانتخابات بسبب الإرهاب، وليس بسبب التلوث المزمن؟ تبدو الأرقام المقدمة في هذا القسم صادمة، وقد يبنى عليها الكثير من الشكوك. في هذا الدرس قد نجد بعض التفسيرات المنطقية.

يعرّف هراري الإرهاب باستراتيجية عسكرية تأمل أن تغير الواقع السياسي عبر نشر الخوف بشكل أكبر من تحقيق الأضرار المادية. يتم تبني هذه الاستراتيجية من الأطراف التي لا تملك وسائل كافية لتحقيق الضرر المادي الجسيم لدى الأعداء. الخوف هنا هو القصة الرئيسية التي يتم الاستثمار فيها وسط التفاوت الهائل بين القوة والقدرة على نشر المخاوف. تزيل عنا كعرب ومسلمين هذه الافتتاحية بعض أثقال مصطلح الإرهاب. فالنزعة إلى الأخير نابعة من انعدام الوسائل الأخرى، وليست وليدة شر متأصل في دين أو قومية ما. وأكثر من ذلك، فلو قسمنا الشر على اعتبار الضحايا والأضرار التي تم التسبب بها، فإن الحكومات ستحظى بالنصيب الأكبر مقارنة بما ستحصل عليه التنظيمات الإرهابية. 

الإرهابيون بدورهم يعرفون أن الأضرار التي بإمكانهم إلحاقها في خصومهم لا تزال ضئيلة، وأن الانتصار لا يعدو أن يكون مجرد وهم مع الفارق في العتاد الحربي والقدرات التكنولوجية والمالية وغيرها. فعلى ماذا يعولون في أنشطتهم ضد أعداء لا تمكن هزيمتهم ضمن أي مدى منظور؟ الغرض دائماً بحسب هراري هو التعويل على رد الفعل العنيف الذي سوف تبديه القوى العظمى المستهدفة والتي سوف تنتج بالضرورة أخطاءً ومجازر، وتغيرات في الرأي العام، وتبدلاً حتمياً في ميزان القوى. “الذبابة لا تستطيع تدمير السوق الصيني، لكنها يمكن أن تدخل في أذن الثور الذي بدوره سوف يدمر المحل الصيني للتخلص منها”، هذا المثال البسيط ينطبق على هجوم الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر الذي دفع الولايات المتحدة الأميركية إلى حملة دمار واسعة في الشرق الأوسط، المكان الذي ازدهر فيه “تنظيم القاعدة” في وقت لاحق، وحصل فيه على ما لم يكن ليحصل عليه لولا الدور الأميركي. 

خلط الأوراق إذاً هو ما يرغب فيه أي لاعب بأوراق ضعيفة، فلا شيء يمكن أن يخسره لو رمى الأوراق وطالب بإعادة التوزيع، بينما قد يمنحه إعادة التوزيع أوراقاً جديدة، ربما كانت قبل قليل في أيدي خصومه. خلط الأوراق يتطلب التركيز على الجانب المعنوي للخصوم الممثلين بالحكومات التي يجب دفعها للتصرف بردة فعل مبالغ بها، أو غير محسوبة لاستعادة الشعور لدى المواطنين بأن الوضع مازال تحت السيطرة، وأن الإرهابين سينالهم أضعاف الخسائر التي لحقت بالخصم المهاجَم. في الواقع ينتظر الإرهاب ردة الفعل هذه التي ستعني تغيراً ما في الواقع الذي كانوا فيه أصحاب الأوراق الأضعف. 

 لكن لماذا على الحكومات التصرف بانفعال وعنف وعلانية على ما تتعرض له من هجمات، بينما بإمكانها على الدوام أن ترد بشكل متناسب مع الضرر الضئيل الذي تم إلحاقه؟ 

يجيب هراري بأن شرعية الحكومات في الدول الحديثة قائمة على إبقاء الوسط العام آمناً من أي عنف سياسي. في فرنسا مثلاً، هناك سنوياً ما لا يقل عن 10000 حالة اغتصاب يتم الإبلاغ عنها، رغم ذلك لا يبدو أن أحداً يتصرف بشكل مبالغ به، فالحكومة لم تبن شرعيتها على وعود محاربة العنف الجنسي، بينما استمرت في العقود الأخيرة تعد الفرنسيين بإبقاء ما داخل الحدود آمناً من العنف السياسي. في بلدان مثل فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة بإمكان الناس أن يتنافسوا على السيطرة على مدن أو حكومات أو شركات أو ملايين الدولارات بدون أي حاجة للعنف. المسؤولية عن ملايين الجنود والطائرات والسفن والصواريخ النووية تنتقل دورياً بين أيدي السياسيين دون الحاجة إلى إطلاق رصاصة واحدة. المواطنون في تلك البلاد اعتادوا على هذا النمط من الحياة ويعتبرونه الوضع الطبيعي، ويعتبرون أي عنف ذي خلفية سياسية يحمل تهديداً مميتاً للشرعية، وربما لوجود الدولة، وهذا تحديداً ما يجعل تهديدات التنظيمات الإرهابية تحمل هذا القدر من النجاح. الأمر الذي لم يكن ليحدث في عصور سابقة ساد فيها العنف السياسي في تلك البلدان، وفي العصر الحالي في بلدان مثل سوريا والعراق. 

إقرأوا أيضاً:

يقدم هراري ثلاث نصائح للسيطرة على رد الفعل المبالغ به. الأولى مقدمة للحكومات التي عليها المحافظة على سرية تحركاتها ضد الحركات الإرهابية، والثانية موجهة للإعلام الذي عليه تجنب الهستيريا، وإبقاء الأمور في نصابها لأن التهديدات الإرهابية بحاجة للظهور على العلن لنجاحها، الأمر الذي تقدمه وسائل الإعلام بشكل مجاني. النصيحة الثالثة تتعلق بمخيلات المواطنين التي يتم أسرها واستخدامها ضدهم. 

يطرح الكاتب بعدها أسئلة عما يمكن أن يكون عليه الحال إذا حصلت منظمة إرهابية ما على سلاح مدمر أو نووي، طارحاً المخاطر المحتملة وما يمكن القيام به لمنع هذا الاحتمال أو حتى التعامل معه في حال وقوعه، مع أنه يناقض بشكل غريب التعريف الذي افتتح به كلامه عن الإرهاب الذي “لا يملك الوسائل لتحقيق ضرر مادي جسيم”. فمع حصول أي تنظيم إرهابي على سلاح نووي الأمر الذي يعني بالضرورة قدرته على تحقيق ضرر مادي بالغ، لن يميل لاستخدامه بل سوف يفضل الحفاظ على هذا المكتسب، وتشكيل دولة يجبر الجميع على الاعتراف بها. ربما دولة مارقة مثل كوريا الشمالية أو إيران أو حتى إسرائيل، لكنها في النهاية دولة.

 يلاحظ المراقب لسلوك التنظيمات التي سأتجنب وصفها بالإرهابية لاعتبارات محلية شرق أوسطية، وسأفضل تسميتها بالتنظيمات الخارجة على النظام الدولي، على أنها تميل للمحافظة على أي مكتسبات قد حققتها في طريقها لتشكيل الدولة على حساب الاستراتيجية التي تتركز في نشر الرعب. تنظيم الدولة الإسلامية على سبيل المثال لم يحاول تجاوز الحدود التركية والحدود مع الأردن وفلسطين المحتلة، على رغم أن أدبيات التنظيم تمنحه الحق في ذلك. هناك أمثلة أخرى لتنظيمات أظهرت مرونة لافتة في سبيل الحفاظ على مكتسبات ما قبل الدولة، مثل “قوات حماية الشعب الكردية”، و”هيئة تحرير الشام” في سوريا، و”حزب الله” في لبنان، و”حركة أنصار الله” في اليمن و”حركة حماس” في غزة. الموضوع إذاً يتعلق بالاستراتيجية التي تحدد سلوك هذه التنظيمات بما يتناسب مع الوسائل التي تمكنها من تحقيق الضرر الجسيم بخصومها، ما يتيح لها فرض نفسها كأمر واقع على المجتمع الدولي. 

هذا ليس الأمر الوحيد الذي يمكنني أن آخذه على هراري. فبطريقة مماثلة لما تحدثنا عنه حول درس الهجرة في مقال “ماذا تعلم نوح هراري من درس الهجرة“، يمكننا التفكير في سبب تغييب وجهة النظر الأخرى، وجهة نظر الإرهابي والبيئة التي دفعته لسلوك هذا الطريق العنيف للتغيير بعدما سدت الأنظمة الحاكمة الطرق الأخرى في وجهه، البيئة التي ساعدت في خصوبتها تدخلات العالم الحديث الذي يقاتل لإبقاء داخل حدوده خالياً من أي مظاهر عنف سياسي، بينما لا يتوانى عن إشعال الحرائق السياسية في الخارج.

بالطبع هناك أيضاً وجهة نظر الشعوب في المناطق التي تزدهر فيها المنظمات الإرهابية مثل منطقتنا. فالإرهاب هنا ليس عنفاً سياسياً تسرب إلى داخل الحدود ويهدد استقرارنا ورفاهيتنا، بل هو أكثر تعقيداً. هو حواجز وسجون وهيئات وتعليمات وقرارات وحياة بأكملها. الإرهاب الذي قد يجعل أي فرد من المجتمع المحيط ضحية، أو مقاتلاً في احتمال آخر. 

الإرهاب أمر اشتبك بشكل لا يقبل الفصل مع قضايا الشعوب العادلة مثل إسقاط الديكتاتوريات، والدفاع عن النفس ضد عنف السلطات، والتخلص من التبعية للأجنبي، والقضية الفلسطينية وغيرها، بحيث كان على الشعوب بشكل مرير المفاضلة بين ما لا ترى ثالثاً لهما، بين التصالح مع الإرهاب أو التخلي عن القضية.      

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.