fbpx

إزالة عوامات إمبابة… التطوير يهدم التراث الحضاري للقاهرة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لا يتوقف الضرر الواقع من إزالة العوامات على السكان فقط، فلعائمات النيل السكنية أهمية في تشكيل التاريخ الاجتماعي والفني الحديث. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

فوجئ سكان العوامات الراسية على النيل بين كوبري 15 مايو وكوبري إمبابة، بقرار إزالة عواماتهم السكنية، مع ضرورة إخلائها، لإنهاء إزالتها في 4 تموز/ يوليو 2022. جاء القرار الناتج عن تشكيل لجنة يشرف عليها وزير العدل، في محاولة لتنظيف النيل ومراسيه وإعادة تطويره، ليبدو بصورة “حضارية أكثر”.

قرار إزالة العوامات، هو حلقة من حلقات “التطوير” الطويلة، التي بدأت بفرش الكباري والمحاور العلوية على امتداد المدينة، دون النظر إلى أضرار تنتج عن إزالة كل ما يعوق حركة تنفيذ هذه المشاريع، والآن يتم إدراج مراسي النيل ضمن مشاريع التطوير، مع استقطاع العوامات النيلية من كل سياقاتها، وما تنطوي عليه من قيمة شخصية وسكنية لأصحابها، الذين ولد معظمهم هناك وعاشوا وكوّنوا أسراً فيها، وكذلك القيمة الاجتماعية والتاريخية لهذه العوامات، باعتبارها فاعلاً أساسياً في التاريخ الاجتماعي والفني الحديث.

لا يتوقف الضرر الواقع من إزالة العوامات على السكان فقط، فلعائمات النيل السكنية أهمية في تشكيل التاريخ الاجتماعي والفني الحديث. 

في بحث “تاريخ العوامات على نيل مصر المحروسة”، يشير الباحث عصام نبيل أن العائمات السكنية ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، وناهزت الــ500 عوامة حتى الستينات. لم تتوقف العوامات عند كونها سكناً دائماً، إذ امتلك عدد كبير من الفنانين عائمات شخصية، للسكن وللسهر والاجتماعات الفنية، مثل منيرة المهدية وفريد الأطرش وصلاح السعدني وحكمت فهمي وغيرهم. نقلاً عن عصام نبيل، تقول منيرة المهدية، “لو فكر صحفي أن يسترق السمع إلى صالوني في تلك الفترة لاستطاع معرفة أخبار البلد، لكن أحداً لم يفكر يومها بأن مجلس الوزراء ينعقد في عوامتي”، يعود ذلك إلى اعتياد منيرة المهدية على استضافة الاجتماعات الوزارية، ودوائر صناعة القرار الرئاسي في عوامتها.

في سياق سياسي، خلال الحرب العالمية الثانية، عملت الممثلة والراقصة حكمت فهمي جاسوسة لمصلحة ألمانيا النازية ضد قوات الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية، كانت تستضيف الضبّاط الإنكليز في عوامة على النيل بمنطقة الدقي، تستدرجهم بالسهر والسكر وفتيات الليل، حتى ينكب أحدهم، بلا وعي، بالحديث عن خطط استراتيجية وعسكرية مهمة.

إلى الأحداث التاريخية، كانت العوامات الحيّز المكاني الشاهد على الذاكرة الداخلية لأفراد الحكومات، ولقاءات الفنانين، وليل القاهرة الطويل. عاش نجيب محفوظ في عوامة لمدة 8 سنوات، لم يتركها إلا خوفاً على ابنته الكبرى بعد غرق بنات أحد الجيران، تحولت العائمة إلى رمز لقراءة التطورات الثقافية والأخلاقية عند محفوظ، ظهرت كقطب أساسي في رواية “ثرثرة فوق النيل”، وحين تم تحويلها إلى فيلم، حضرت العوامة بأهميتها الروائية نفسها على الشاشة.

قرار إزالة العوامات، هو حلقة من حلقات “التطوير” الطويلة، التي بدأت بفرش الكباري والمحاور العلوية على امتداد المدينة، دون النظر إلى أضرار تنتج عن إزالة كل ما يعوق حركة تنفيذ هذه المشاريع

حيثيات الأزمة 

جاء قرار إزالة العوامات بعد غرق إحدى العوامات السياحية أثناء أعمال صيانة. تعرضت عوامة “غولدن جيم” السياحية للغرق بسبب عطل فني، لم تكن عوامة سكنية، وكانت تحتوي على ديسكو وجيم. بعد هذه الحادثة بسنتين، وخلال فترة طويلة من التعسّف ومنع استخراج تراخيص للساكنين، صدر قرار إزالة العوامات الراسية على نيل الكيت كات بمنطقة إمبابة.

 حادثة غرق عوامة الدقي كانت منذ حوالي سنتين، في حيّز بعيد نسبياً من عوامات امبابة، وكانت سياحية لا سكنية، غير أن حدوث عطل فني في إحدى العوامات، وغرقها، لا يعني بدء الانتباه والتخطيط لإزالة بقية العوامات، والتي تتباين من حيث أغراض وجودها، ما بين السكني والتجاري والسياحي.

في مداخلته مع الإعلامية لميس الحديدي، أشار المهندس أيمن نور- عضو لجنة تصويب الإشغالات وإزالة العوامات- إلى أسباب أخرى لقرار الإزالة، منها مثلاً أن هذه العوامات المدرجة ضمن القرار، لم تقوم بسداد قيمة التراخيص المستحقة عليها، وكذلك يأتي القرار بدافع تحسين منظر مراسي النيل. 

هناك رأي آخر لأًصحاب العوامات. في حوارها مع “درج” توضح الكاتبة أهداف سويف، صاحبة إحدى العوامات السكنية المعرضة للإزالة أن ساكني العوامات استوفوا شروط التواجد القانوني، من التزام بسداد قيم التراخيص السنوية، والتعاون البيئي من خلال زرع أشجار والحفاظ على نظافة محيط المكان. لكن التعسّف الفعلي بدأ منذ سنتين:

“تعميم الامتناع عن سداد التراخيص كلام غير صحيح، ما هو مقصود تحديداً هو ترخيص الرسو- parking. ما حدث أننا فوجئنا مرة واحدة، ارتفاع قيمة الترخيص السنوي من 3 آلاف إلى 45 ألف جنيه في 2015، وبحلول 2018 ارتفع المبلغ إلى 72 ألف جنيه. لم توفر أي هيئة حكومية فرصة للحوار، أو تقديم أسباب مقنعة لهذه الزيادات، يتم إصدار القرار، ونجد أنفسنا مرة واحدة ملزمين بالدفع دون أي بدائل”.

بسبب تبعية العوامات لثمانية جهات رقابية مختلفة، هناك أكثر من ترخيص يتم استخراجه لاستيفاء شروط الوجود القانوني للعوامات السكنية، اختزلها عضو لجنة الإشغالات في ترخيص واحد، أشارت إليه الكاتبة أهداف سويف. بالنسبة إلى التراخيص الأخرى، اعتاد السكان دفعها كل سنتين، ومنذ فترة تم تقليل مدة الدفع لتصبح سنة واحدة، لكن عام 2020، أصدرت الهيئات الرقابية على العوامات قرار بوقف استخراج التصاريح. 

تقول منار الهجرسي، صاحبة عوامة عبد الحليم حافظ، أنهم علموا بإيقاف قرار استخراج التراخيص وقتها فجأة، وخلال السنتين الماضيتين، تم توقيع غرامة مستحقة بسبب تأخير الدفع “مستحق علينا مديونيات بسبب تأخير لا يخصنا، يعني الهيئة الرقابية المعنية باستخراج التراخيص هي المسؤولة عن عدم قدرتنا على الدفع، وهي أيضاً فرضت غرامة التأخير”.

بقية الأسباب المعلنة، تتعلق بأن هذه العوامات تلوث مياة النيل بسبب الصرف الصحي، وهو ما تستنكره سويف، و تؤكد أن صرف العائمات يصب في الصرف التابع للمحافظة، وذلك من خلال محركات رفع خزانات الصرف، غير أن محاولة تقديم سكان العائمات بهذه الصورة غير لائق، لأنهم أصحاب مسؤولية بيئية والتزام تجاه المكان المحيط وتجاه مساكنهم. 

طبيعة الكلام المرسل، غير المحدد، واعتباره أسباباً كافية لإزالة العوامات، يبدو على حد تعبير منار “تعجيزاً يداري على التعسّف تجاه الساكنين”. هناك نشاط اعتراضي واسع من قبل الساكنين، برغم عدم وجود أي فرصة حيادية إعلامية لهم، وسماع أقوالهم كرأي آخر، مهم ومؤثر بقدر أهمية القرار الوزاري.

إقرأوا أيضاً:

قتل ذاكرة شخصية

بالنسبة إلى السكان، تنقسم أزمتهم تجاه قرار الإزالة على جهتين، الأولى معنيّة بالضرر المادي، والأخرى بضرر أكبر، وهو اغتيال أسلوب معيشتهم، مكانهم، بقرار خلال أيام.

يتفق علاء الناظر وسويف وهما من أصحاب العوامات، على أن قرار الإزالة جاء مفاجئاً وخارج التوقعات حول تعسّف الهيئات الرقابية والتضييق عليهم خلال السنوات الماضية. تشير سويف إلى أنها توقعت، أن أقصى أزمة ستواجهها ستكون متعلقة بفرض مديونية كبيرة، لكن أن تتم إزالة العائمة؟ بدا الحدث مثل كابوس.

الدكتور علاء عاش حياته كلها في العائمة، ورثها عن أبيه الذي تربّى ومات هناك. تشهد عائمة علاء الناظر حضور أربعة أجيال، هو أبناؤه وأبوه وجدّه، منذ اشترتها العائلة في الأربعينات “لا أستطيع تخيل أن ذلك المكان معرّض للإزالة. تخيل أن تأتيك هيئة بإنذار يفيد بإزالة بيتك خلال عدة أيام، لا ردود من أي جهة، لا رغبة في الحوار، ولا أي شيء سوى محاولة قبول الأمر. كيف أقبل أن أنظر إلى امتداد الكبير بين كوبري 15 أيار/ مايو وكوبري امبابة، ولا أجد سوى الفراغ!”.

ادخّرت منار تحويشة العائلة، ثم باعت شقتين، إضافة إلى مكافأة نهاية خدمة الوالد، واشترت إحدى العائمات قبل 4 سنوات، استوفت كل شروط التراخيص المطلوبة، وتلقت زيارات رسمية من مهندسين خبراء لضمان مدى السلامة البنائية وهيئة العوامة الداخلية والخارجية. عوامتها الآن عرضة لقرار الإزالة.

بالنسبة إلى الجانب المادي، تتباين المديونيات المستحقة على الساكنين ما بين 700 ألف إلى أكثر من مليون جنيه، وتشير أهداف سويف إلى أن إزالة العوامات ووضعها ضمن تصرف هيئة حكومية، لن يسقطا قيمة المديونيات، بل ستظل قائمة، والهيئة الرقابية بدورها سوف تشرف على تقطيع العائمات وبيعها “خردة”.

 الجدير بالذكر أن العوامات نفسها لم يتسلمها أصحابها من الدولة، وبذلك هي ملك خاص، ليست حق انتفاع، الرسو على النيل في مساحة معينة هو حق الانتفاع. يشير  علاء الناظر أن حق التصرف وإزالة العائمات ذاتها، ينطبق على منشأة تابعة لهيئة حكومية “مالهم ومال العائمات ؟ يعني يتم أخذها وبيعها خردة، وتظل المديونيات قائمة على رؤوسنا، ومن لم يدفع، ولديه أي ممتلكات أخرى، يتم الحجز عليها. ده موت وخراب ديار”.

بعد تاريخي

باعتبارها باحثة أدبية وثقافية، وروائية مهمة، تشير أهداف سويف إلى أثر إزالة منشآت صغيرة ببعدها التاريخي المؤثر “هذه العائمات تشكل ثقافة جميلة، لها خصوصية، وليست منتشرة في مكان آخر، وأيضاً لها سمعتها السياحية والترويجية، فأجانب وزوار عرب يعرفون النيل من خلال العائمات. يناسبنا أكثر أن نبحث عن حل لائق، يقدّر ما تمثله هذه العائمات لنا كأشخاص، لأنها بيوتنا، ويقدر من ناحية أخرى البعد التاريخي والثقافي لها، لشيء بسيط، لكنه مؤثر وقدمه مغروزة في التاريخ المعاصر، العائمات تعبر عن ثقافة للسكن، وثقافة للمدينة، تخصها، هل الأولى أن نهتم بها، أم نتبع موجة البناء والتطوير الحداثي على حساب كل ما هو قديم وتراثي؟”.

خطاب الإقصاء

أزمة إزالة العوامات ليست الأولى خلال شهور قليلة ولن تكون الأخيرة. تخضع حادثة الإزالة إلى سياق حوادث أخرى على اختلاف التفاصيل. حادثة مدفن طه حسين  دار حولها جدل واسع، وقدمت حفيدته تصريحات عبرت فيها عن صدمتها من قرار حصر المدفن، ثم خرج أحد ممثلي محافظة القاهرة بكلام مرسل يعلّق تأكيد قرار الحصر والإزالة، والآن يتم إتمام المشروع. الحالة نفسها تنطبق على سكّان مدينة نصر واعتراضهم على تفحش الكباري وإزالة المساحات الخضر وتلف التراث القبطي.

تدخل جميع الحالات ضمن خطاب “الإقصاء” الذي تتبناه المؤسسة حالياً، تقع ثنائية القديم/ المتهالك مع الحديث/ الحضاري مثل طرفين بينهما عداء تعيق التطور، مع تجاهل كل السياقات المتشابكة، على المستويات الثقافية والتاريخ المكاني وعلاقة الأفراد بالمكان، كل هذه أشياء لا تعني المؤسسة على أي مستوى، وكل أزمة تضع التقدم في ناحية، والرموز/ التراث في ناحية أخرى، ولا بد من منتصر في نهاية المطاف.

خلال نشاطها الدؤوب على صفحتها الشخصية، نشرت أهداف سويف فيديو ترد فيه على أسباب الإزالة المعلنة، ردودها مصحوبة بأوراق رسمية، ترخيصات مستوفية الشروط من هيئات رقابية عدة، أهمّها أن مجموعة من السكان المعرضة عواماتهم للإزالة قدموا طعناً على قرار الإزالة، وفي حالة تطبيق القرار في 4 تموز خلال سريان الطعن كحراك قضائي، يصبح تفعيل القرار غير قانوني.

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!