fbpx

لماذا يذكرني مسرّب وثائق “أوبر” ماكغان بشخصية دون درايبر في Mad Men؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“اسمي مارك ماكغان. أنا من كبار المسؤولين التنفيذيين السابقين لأوبر وأنا هنا كمسرّب عن المخالفات. أنا من كشف عن ما يُعرف باسم وثائق أوبر”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

نُشرت تحقيقات ومقالات وفيديوات كثيرة في سياق مشروع “وثائق أوبر” الذي قاده “الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين” (ICIJ) وجريدة “الغارديان” البريطانية وشارك فيه موقع “درج” بالتعاون مع 180 صحافياً و43 مؤسسة إعلاميّة من 29 دولة. كانت تحقيقات المشروع كاشفة لجهة تقاطع المصالح بين شركات كبرى ونخب سياسية ومهنية وردود الأفعال حول الوثائق ما زالت تتفاعل.

كان لافتاً مثلاً تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي أبدى تمسكه بسياسة دعم شركات خاصة كبرى ولو كانت ضد مصالح قطاعات عمالية واسعة، “أنا فخور جداً بما قمت به… إذا أوجدوا فرص عمل جديدة في فرنسا، فأنا فخور جداً بذلك. وتعلم ماذا؟ سأفعل ذلك مرة أخرى غداً وبعد غد”.

“اسمي مارك ماكغان. أنا من كبار المسؤولين التنفيذيين السابقين لأوبر

وأنا هنا كمسرّب عن المخالفات.

أنا من كشف عن ما يُعرف باسم وثائق أوبر”.


شخصيّة ماكغان المميّزة


ضغط الوثائق في المشروع، التي بلغ عددها 124 ألف وثيقة مسرّبة، إضافة إلى الأبحاث المضنية والمقابلات وحقوق الردّ، حالت دون التعمّق في شخصيّة وسيكولوجيّة المسرّب (طبعاً تمّ التحقّق من صدقيّته وحقيقة الوثائق المسرّبة بدقّة عالية وفق معايير عالميّة من الـICIJ و”الغارديان” البريطانية و”الواشنطن بوست” الأميركية و”اللوموند” الفرنسيّة وغيرها من الشركاء الإعلاميين.

كانت الأولوية كشف التجاوزات القانونية للشركة والنخب الحاكمة وأساليبها في الضغط واستخدام نظام المحسوبيّة والوصول إلى الدائرة الضيّقة من الحكم في البلاد التي عملت فيها، وليس الانغماس بهوية وسيرة المسرّب، وفعلاً تبيّن الكثير من التجاوزات حول العالم، أي في معظم الدول التي تعمل بها “أوبر”.

لأشهر قرأنا الوثائق المسرّبة التي كان أكثر من 80 ألف منها رسائل بريد الكتروني مسرّبة من قبل مارك ماكغان. إذاً كان هو جزء أساسي من كل رسالة أو تواصل رقمي قرأناه وتمعنّا به،
الّا أنّني في كلّ بريد الكتروني ووثيقة مسرّبة كنت أتصفّحها، كنت انبهر بقدرات هذا الرجل على التواصل الفعّال ومهارات الإقناع العالية لديه، وإبداعه في مجال العلاقات العامّة (Public Affairs PA) والـLobbying ومعرفته الواسعة في الثقافات المختلفة في شتّى الدول وكيفيّة التعامل معها. ورأيت على أرض الواقع وبشكل عملي كيف تحصل جهود العلاقات العامّة.

فكان المشروع بالنسبة إلي لا يقتصر على الكشف عن فساد “أوبر” وتحايلها على القوانين المحليّة وأساليبها الملتوية في الكثير من الدول، بل شعرت أنّني أيضاً أمام كورس تعليمي عملي عن مهارات التواصل الفعّال والـPA.

ولن أخفي أنّني أمام إيمايلات عدّة أقرأها لماكغان، كنت أتمنى لو كان لديّ فقط نصف قدرة هذا الرجل في الديبلوماسيّة والتواصل الفعّال ومهارات الإقناع.

كانت تمرّ هذه الأفكار لدقائق وبعدها أنكبّ على عملي في تقصّي الوثائق المتعلّقة بالعالم العربي. ولكن بعد نشر تحقيقاتنا في سياق المشروع وبعد خروج ماكغان في اليوم التالي إلى العلن في مقابلة مع جريدة الغارديان وهي الجهة التي سرّب لها ماكغان الوثائق (وهي بدورها شاركتهم مع ICIJ وشركائها الصحافيين) وأعطاها المقابلة الحصريّة،  شاهدت مقابلته بتمعّن ولم يسعني الّا أن أفكّر في جرأة ماكغان من ناحية ولكن أيضاً في حبّه للظهور من ناحية أخرى، على حدّ ما شعرت.
في أغلب المشاريع الاستقصائيّة العابرة للحدود التي عملنا بها، لم نكن نحن الصحافيين المشاركين نعلم هويّة المسرّب (ة)، بل تبقى هويّته (ها) سريّة حتى بعد النشر، الّا أنّ هويّة ماكغان كانت واضحة من البداية، منذ الأيام الأولى عندما بدأت بتصفّح الوثائق، فهو الرجل الذي لا يمكنه أن يختبئ أو يختفي في الكواليس أو خلف الأوراق والوثائق، بل هو دائماً في الصفوف الأماميّة، حتى عندما يسرّب كـ “مجهول”.

فبعد أن سرّب الـ 124 ألف وثيقة التي عمل عليها 180 صحافي من شتّى أرجاء العالم لمدّة أشهر عدّة، وبعد أن نُشرت تحقيقات ضخمة في سياق مشروع صحفي استقصائي دولي ناجح

وبعد أن أصبح عالم الشركة – التي ساهم ماكغان بشكل أساسي في توسّعها وضخامتها وما أصبحت عليه اليوم – يتأرجح ويتخبّط بين فضيحة وأخرى ومشكلة وأخرى، ورؤساء دول كالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورؤساء وزراء حاليين وسابقين كبنيامين نتنياهو الإسرائيلي وبوريس جونسون البريطاني وغيرهم الكثير من النافذين من بينهم ممثلين عن مفوضيّة الاتحاد الأوروبي يحاولون الدفاع عن أنفسهم في وجه موجة واسعة من الاتهامات والشكوك، خرج الرجل الذي يقف خلف كلّ هذا بكامل شياكته وأناقته والكاريزما – التي بالطبع يعرف أنّه يملكها بعد خبرته الطويلة في مجال الـLobbying والعلاقات العامّة – وينتقي كلماته وجمله بحرفيّة وكأنّه لا يضع أي مجهود حتّى، ليقول للجميع: 

“اسمي مارك ماكغان. أنا من كبار المسؤولين التنفيذيين السابقين لأوبر

وأنا هنا كمسرّب عن المخالفات.

أنا من كشف عن ما يُعرف باسم وثائق أوبر”.

ومن تلك اللحظة تحديداً، وأنا أقارن شخصيّته بالشخصيّة التمثيليّة الشهيرة من مسلسل Mad Men (الرجال المجانين) الأميركي: Don Draper (دون درايبر): 

هيئة الرجل المثالي، أي الذي يبدو مثالياً بمظهره وخطابه وأفعاله وبالكلمات البليغة التي يستخدمها وقدرته على الإيحاء للجميع بأنّ كل شيء تحت سيطرته وHe has his shit together.

الشخصيّتان لا شكّ أنّهما تشتركان أيضاً بحبّ الظهور وحبّ أن تكونا الأضواء وحديث الجمهور، وهذا ليس بالضرورة شيئاً سلبيّاً في جميع الحالات بل أعتقد أنّه بشكل أو بآخر ضروري في مجال عملهما في الإعلانات والعلاقات العامّة. وهو ما تعاملت معه “الغارديان”، فكان أسلوبها في إنتاج الفيديو/ المقابلة مع ماكغان ينبع جزئيّاً من شخصيّة ماكغان نفسه، فكان أقرب لإنتاج فيلم إبداعي قصير من مقابلة صحفيّة. وكأنّ مارك ماكغان هو دون درايبر الحقيقي، لا الشخصيّة الوهميّة، التي قرّرت الخروج عن نصّ السيناريو.

إقرأوا أيضاً:

من هو دونالد (دون) درايبر؟

هو الشخصيّة الرئيسية من مسلسل Mad Men، المؤلّف من 7 أجزاء عُرضت على مدى 8 سنوات (2007 – 2015). ويتناول المسلسل الحياة المهنية والشخصية لأولئك الذين كانوا يعملون في مجال الإعلان في شارع ماديسون- وكان يُطلق عليهم اسم “الرجال المجانين”- في الستينات. تركّز القصص على موظّفي إحدى الشركات ويتطرّق المسلسل إلى الكثير من القضايا من بينها التحدّيات التي واجهتها المرأة في وكالات الإعلانات في ذلك الوقت إضافة إلى قضايا كالعنصريّة والمثليّة والصحة النفسيّة والتقلّبات السياسيّة وغيرها. 

أحداث المسلسل مستوحاة من قصص حقيقيّة، بحيث قال مدير البرنامج ماثيو وينر، في مقابلة عام 2015، “لقد تحدثت إلى عدد من المديرين التنفيذيين للإعلانات من تلك الحقبة حول المسلسل وقال 70 في المئة منهم أنّه يعكس حياتهم بشكل دقيق، [لكن] 100 في المئة من النساء قالوا إنها تعكس تجاربهم بالضبط”.

  قد تكون شخصيّة درايبر من أعقد شخصيات الأعمال الدراميّة. هو شريك مؤسس ومدير إبداعي في وكالة الإعلانات في نيويورك. وكان يعتبر من أفضل المعلنين في عصره.

عاش طفولة قاسية وكان يتيماً، وانتحل شخصيّة شخص آخر (ضابط مقتول) أثناء خدمتهما العسكريّة في الحرب الكوريّة. ونظراً لأنّه ابتكر هويته الجديدة، فهو يسعى أوّلاً وأخيراً إلى أن يبيعها للعالم، كأحد منتجاته، المنتج الأكثر أهمية.

ويعيش درايبر تحت ضغط كبير وتحدّ دائم بين ماضيه وحاضره. فيحاول أن يخفي كآبته وانعدام الأمان لديه بثقته الخارجيّة بنفسه وبالمحافظة على أبهى حلّة في شكله وعمله الّا أنّه يفرط في التدخين والشرب والعلاقات مع النساء والخيانة. 

شخصيته ساحرة إنما غامضة ومتشعّبة. الكاريزما التي يتمتّع بها وإبداعه ومهاراته الكبيرة في مجال الإعلانات، إضافة إلى مظهره الجيد وثقته الخارجية بنفسه، تجذب كل من حوله، لكن داخله لا يعكس ظاهره.

تم اختيار درايبر كأفضل رجل مؤثر من قبل مجلة Ask Men على الإنترنت عام 

2009، وقد أُطلق عليه لقب إحدى من أكثر الشخصيات إثارة للاهتمام في التلفزيون، واهتمّت

 الكثير من مواقع الصحة النفسيّة في تحليل هذه الشخصيّة.

عمل كل من ماكغان ودرايبر في الضغط أو الترويج لمنتجات/ خدمات لم يؤمنوا أو يقتنعوا بها. واعترف كلاهما بأنه كان يبيع الناس كذبة من خلال إمّا مهارات إقناعيّة باهرة أو إعلانات إبداعية ومبتكرة. فقال ماكغان “أنا من كنت أتحدث إلى الحكومات، وأنا من دفع هذا الأمر بوسائل الإعلام، ومن أخبر الناس أنه يجب عليهم تغيير الأنظمة لأن السائقين سيستفيدون والناس سيحصلون على الكثير من الفرص الاقتصادية لدرجة أنه عندما تبين أن الأمر ليس كذلك، كنّا قد بعنا الناس كذبة”. 

مع ذلك، نجح ماكغان مع “أوبر” في شقّ طريق الشركة في الكثير من الدول. في المقابل، خطابات درايبر الشغوفة حول كيف بإمكان المنتجات والحملات الإعلانية أن تثير مشاعر مثل الحب والشوق والسعادة كانت تبهر العملاء باستمرار وتقنعهم. إلّا أنّه خارج وظيفته كان يقول أنّ ما نسميه “الحب” اخترعه رجال مثلي… لبيع النايلون”. 

المواجهة:


خطوة ماكغان الجريئة في مواجهة “أوبر” وفي الظهور إلى العلن والكشف عن وثائق أو “فضائح” الشركة، تذكّرني في إحدى حلقات المسلسل عندما قام درايبر، بعد أن أنهت شركة سجائر – وهي إحدى أكبر عملائهم – العمل معهم، بمقالة نشرها في الإعلام وهي التالية:
“أنهت وكالتي الإعلانية مؤخراً علاقة طويلة مع شركة سجائر Lucky Strike، وأنا مرتاح.

على مدار أكثر من 25 عاماً، كرّسنا أنفسنا للترويج لمنتج لا علاقة له بالعمل الجيد، لأن الناس لا يستطيعون منع أنفسهم من شرائه. منتج لا يتحسن أبداً ويسبب الأمراض ويجعل الناس غير سعداء. لكن كان هناك مال فيه. الكثير من المال. في الواقع، كان عملنا بأكمله يعتمد عليه. كنا نعلم أن الأمر لم يكن جيداً بالنسبة إلينا، لكننا لم نستطع التوقف.

وبعد ذلك، عندما نقلت Lucky Strike نشاطها التجاري إلى مكان آخر، أدركت أنّ هذه فرصتي لأكون شخصاً يمكنه النوم ليلاً، لأنني أعرف أن ما أبيعه لا يقتل عملائي.

لذا اعتباراً من اليوم، لن تأخذ شركتنا حسابات التبغ بعد الآن. نحن نعلم أنه سيكون صعباً…”.

https://www.youtube.com/watch?v=ugsmHqlriVc

في المقابل، بعد تسريبه للوثائق، قال ماكغان للغارديان:
“أنا أتحمّل مسؤوليّة ما فعلته، لكن عندما اتضح أن ما كنت أحاول إقناع الحكومات والوزراء ورؤساء الوزراء والرؤساء والسائقين به تحوّل إلى شيء مروّع وغير صحيح يحتم عليّ ذلك أن أعود وأقول: أعتقد أننا ارتكبنا خطأ وأفكّر إلى أي مدى يريد الناس مني تقديم المساعدة، أريد أن ألعب دوراً في محاولة تصحيح هذا الخطأ”.

وفي الحالتين، تحمّلت الشخصيتان عواقب هذه الخطوات، فهذا يُعتبر خرقاً “لقواعد اللعبة” وخصوصاً تلك المتعلّقة بانتهاك السريّة والخصوصيّة للشركات التي عملا بها أو معها وبالتالي قد يشكّل ذلك خطراً على مستقبلهم المهني.

إلا أنّ الاثنين في مرحلة معيّنة فضّلا المصلحة العامّة من جهة، وراحة ضميرهما من جهة أخرى. إنّما ما قام به درايبر كان “ضربة معلّم” بحيث استطاع بعدها تحقيق نجاح باهر، فما مستقبل ماكغان وشركة “أوبر”؟ هل تنهي هذه الخطوة مسيرة ماكغان المهنيّة أم تكون بداية جديدة لازدهار أكبر، أم كانت بالنسبة إليه الضربة الأخيرة قبل أن يبتعد من الأضواء؟ 

“نحبّه، نكرهه، ولكن بالطبع لا نفهمه. يبقى هناك الكثير من الأسئلة ولكن أكثرها تعقيداً هو الأبسط: من هو دون درايبر؟ ولماذا هو كما هو؟”، بحسب مقال على Psychology Today.الأمر نفسه ينطبق على ماكغان: نحبّه لأنّه اليوم بمثابة “البطل” الذي كشف عمل “أوبر” ويساهم في محاسبتها و”تصحيح الخطأ” على حدّ قوله، ولكن من جانب آخر نكرهه لأنه لسنوات كان جزءاً من هذا العمل الذي أوصل “أوبر” إلى هنا، لكن تبقى لدينا الكثير من الأسئلة حول شخصيّته ومستقبله، على أمل أن يستخدم إبداعه وخبرته في قضايا تخدم المصلحة العامة.

إقرأوا أيضاً: