fbpx

“أقفاص فارغة”… ذاكرة أيادٍ لامست أجسادنا 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تحاول فاطمة قنديل أن تنتصر لموقعها في الكتابة، ألا تكون هامشاً في نصوصها، عليها أن ترى جسدها من خلال الأجساد الاخرى، تشتبك مع ذاكرتها وخيالها لتنسج نصاً ينفلت من السكوت إلى البوح المغلف.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“ليس انتحاراً، أنا أريد أن أكشط قشرة جرح كي يندمل في الهواء أو لا يندمل” تقف الكاتبة المصرية فاطمة قنديل في  رواية “أقفاص فارغة” أمام لحظة تعرٍ مهمة. لا تحكي فاطمة قنديل عن حياة مثالية وشخصيات مقدسة، بل تعري كل ما لا يقال على طاولة الطعام وفي صالة البيت والغرف المغلقة على أسرارها، تحكي المسكوت عنه لسنوات، وهشاشة اللحظة التي نخسر فيها الآخرين لأنهم في أشد اللحظات المؤلمة كانوا اليد التي خذلتنا واستباحتنا.

تعيد فاطمة قنديل في “أقفاص فارغة” غزل قضايا شائكة تستطيع النساء أن تفهمها وتسقطها على مشاهد من حياتها الشخصية، كمواقف الخذلان والصمت، سنوات من التدريب على الصمت ليكون لغتنا، فالمرأة نادراً ما تحكي، لا تبوح، لا تكشف عن الأيادي التي استباحتها غدراً وانتهكتناً.

 في “أقفاص فارغة” تقف الكاتبة عند الأمرين، تروي ما سكتت عنه لسنوات، عن الأيادي التي امتدت إلى جسدها الطفولي لتختلس منها المتعة، ثم تتركنا على عتبات الصمت “لم نتحدث أبداً عن هذه الذكريات طوال حياتها، ويبدو أنها تخيلت أن عدم الحديث عنها سينسيني إياها” لكنها أيضاً لم تغفل الحديث عن تحذيرات الأم لابنتها “كانت أمي تحذرني قبل دخولي المدرسة من اقتراب الآخرين من جسدي” إنها التحذيرات ذاتها التي نعرفها، اختبرناها، جسدكِ موضع خطر، لا يمكن الاقتراب منه، دون حتى أن نعرف لماذا؟ وما هي حدود الخطر؟ وإذا حدث واقترب أحد ماذا سنفعل غير الصمت؟

تعيد الكتابة تشكيل علاقتنا بأنفسنا، بل تعيد نسج تلك العلاقة الملتبسة بين ما قلناه وما لم نجرؤ على قوله، ولأن القول فاضح فإنه يتعارض مع الصمت الذي تربينا عليه، يكسر التابوهات ويعزز السكوت بداخلنا كجزء من الرضوخ الساذج للإساءة. تحكي الكاتبة أن الأم لم تفعل شيئاً تجاه “سعد” عندما عرفت من ابنتها أن يده امتده إلى جسدها تحرشاً وانتهاكاً. “حكيت لها كل شيء، ولم يخفني وجهها، الذي شحب تماماً، كأنه قالب من الثلج، ولا شفتاها المرتجفتان وهي تردد “يا ابن الكلب، يا ابن الكلب، حأقتلك يا ابن الكلب، حأقتلك”. لكنها لم تقتله، ومر الحوار بسلام”.

لم تستفِض الكاتبة في وصف مشهد الاعتداء، تحكي كأنها تصمت، تتذكر رائحة سعد، وملاءة فراشه المتسخة، وتحكي أنها لا تتذكر سوى جسده العاري وجسدها العاري إلى جواره وهي لم تتجاوز الرابعة من عمرها. في موضع لاحق تقول “نعم، تملصت منه بإغواء امرأة جاوزت الثلاثين”.

آخر تصف الكاتبة مشهداً جارحاً تتعدى فيه يد “دادة فاطمة” عليها مستخدمة كلمة “المتعة” كوصف لما حدث، “لكن هذا لم يمنعنا أنا وهي، من اختلاس شيء من المتعة، وهي تغسل الأطباق في مطبخنا، متعة متعجلة، ومخطوفة، لأن عيني ماما كانتا علينا معظم الوقت”. هنا لا تكمن جرأة الكاتبة في سرد مشهد كهذا، بل في الطريقة التي اختارت بها أن تحكيه، بالوصف والكلمات، المتعة هي الوصف الأنسب الذي، وبشكل ما، لا يوحي بأن الفتاة الصغيرة كانت غاضبة أو منزعجة مما يحدث، وبذكاء لا تصف الكاتبة التفاصيل الدقيقة لما حدث، لكنها تضعنا على عتبة الخيال والشعور، تترك القارئ على سطح المشهد ولا تفيض السطور بالأوصاف والكلمات المتأججة أو الصارخة، تقول إنها متعة متعجلة وتؤكد على ذلك الوصف لكنها لا تنفي المتعة. في قراءة عميقة لهذا النص السردي قد يقف القارئ أمام ذاكرته في قراءاته المتعددة ليقارن بين كاتبات وصفن لحظات تعدٍ، ما الشعور الذي تتركه الكتابة بعد كل قراءة؟ كيف يتلقى القارئ هذا القدر من المصارحة والخصوصية؟ وهل سيفهمها أم سيحكم عليها بقسوة إذا وجد “المتعة” تكتب بهدوء ودون خجل؟

تعي الكاتبة تماماً أن لغتها في هذا النص عارية تماماً، بعكس الشعر حيث الالتفاف حول الشعور بالمجاز يصنع مشهدية جديدة، يقف التعري إلى جانب استنطاق الصمت فينسجان قصة من الذاكرة البعيدة تنساها صاحبتها، لأنها في عرف الحياة يجب أن تنسى ولا تطفو على السطح من جديد. 

يضعني “أقفاص فارغة” أمام صوت الكتابات النسائية المصرية أو العربية عندما تروي المؤلفات عن ذواتهن، بالكاد كتابات محافظة وخجولة في مقابل كتابات الرجال الذين لا يقيد أصواتهم شيء، تقول فاطمة في كتابها “يعني مش سهل الإنسان يعري حياته كده”.

إقرأوا أيضاً:

الإرث المقدس

تحتل صورة الأم الجزء الأكبر من غلاف الكتاب، يدها على كتفي ابنتها، يد حماية ويد تقبض عليها كي لا تفلتها، لا أعرف لماذا سرحت طويلاً وأنا أفكر أن يد الأم تحاول أن تخترق جسد الفتاة لتنفذ إليه وتحتله. أجسادنا هي امتداد لأجساد أمهاتنا، إرث ممتد، وفي لحظة تذوب الفوارق فلا تعود أجسادنا تخصنا بل تخصهن، هن، واهبات الحياة، لا تنفصل عيونهن عن أجسادنا، تمارسن سلطة صامتة وصارخة أحياناً، ونحن نعيش الحياة لنحاول الانفلات من هذه القبضة وذلك الإرث، أحياناً نفشل، وأحياناً نستسلم. 

تخلق الكتابة محاولات جادة لفهم أجسادنا بعيداً من الجسد المقدس للأم/ العائلة، وتجعل الكاتب مجبراً على الالتزام بالبناء الأدبي، ربما كتبت فاطمة قنديل أشعاراً اتكاءً على الوحدة فلا تزدحم قصائدها بأحد سواها، لكن “أقفاص فارغة” بناء مغزول على شخصياته، على هذه الأسرة التي تفشل في أن تكون مقدسة، ونحن نتابع رحلة هذه العائلة التي تنتهي بموت الأم وانقضاء الزمن بفاطمة وأخويها اللذين امتزجا في ذاكرتها بالبعد والنسيان.

في مطلع قصيدتها “خمسة أمتار تكفي” كتبت فاطمة قنديل “ومنذ سنوات وأنا أحيا على هامش حياتي…. آه… حياتي أنا، تلك البناية التي لم تر فيّ أكثر من حارس لها”، بإمكاننا الوقوف عند هذا المفتاح في تماس مع “أقفاص فارغة” لنفكر من جديد في الكتابة كأداة تعيد تشكيل موقعنا في الحياة من خلال النصوص الأدبية، إلى أي مدى تشغل الكاتبة مساحة في نصها؟ من البطل هنا؟ ومن الشخصيات الثانوية؟ ما المشهد الذي تكتبه باختزال كأنها تبتره وما المشهد الذي يستغرق الكثير من الأوصاف لتصل إلى جوفه؟ اختارت الكاتبة أن تكتب بضمير المتكلم، أن تأخذ صوت الراوِ، وتحركنا لنرى بعيونها ما حدث لها، ولهم، وهم الدائرة الأكبر والأهم في حياتها، أسرتها التي هي أمها وأبوها وأخواها، وزوجان أحدهما مر مروراً عابراً والآخر يحتل مساحة تظهر فيها فاطمة كظلٍ.

تشغلني شخصيات الكتاب، الحضور النسائي في مقابل حضور رجال أقرب للعبة شطرنج كلما انهزم طرف قل حضوره وهو ما يعني سطوة الطرف الآخر في اللعبة. في الكتاب تتكئ فاطمة على أمها، حضورها جزء من حضور فاطمة نفسه، تتشكل بتشكلها، بينما الرجال على الطرف الآخر حضورهم مزعج، أقرب لمراهقين ما زالوا متشبثين بألعاب الطفولة، وبرغم ادعائهم التحقق والسعي وراء الأحلام إلا أنهم بالكاد يعرفون خطواتهم التالية في الحياة. يقول الأخ “أضعت مستقبل زوجتي” ويحمل الأب حلمه “كجثة في أعماقه”. الرجال في هذا النص ليسوا مقدسين، ولا قادة في مناصب السلطة الأبوية، بل يمثلون ثقلاً على عاتق الكاتبة وأمها، لكنه، وبرغم كل شيء، ثقل مرحب به.

في حوار معها تتحدث فاطمة قنديل عن الثمن الذي دفعته لكونها شاعرة، قالت “فشلت أيضاً في الزواج، لأني لا أحتمل وجود آخر- الآخر يمثل تهديداً للكاتب لأنه يأخذه من الكتابة ومن نفسه- ولأنني لا أقبل أن أكون مُهمشة. ففي الزواج تتحوّل المرأة إلى مواطن من الدرجة الثانية، ويصير إبداعها شيئاً هامشياً عند الرجل. هذا إن لاحظه أصلاً. إنها طبيعة الكتابة”.

تحاول فاطمة قنديل أن تنتصر لموقعها في الكتابة، ألا تكون هامشاً في نصوصها، عليها أن ترى جسدها من خلال الأجساد الاخرى، تشتبك مع ذاكرتها وخيالها لتنسج نصاً ينفلت من السكوت إلى البوح المغلف. على امتداد كتاباتها تكرر فكرة تتمحور حولها الكلمات، أنها امرأة فشلت في كل شيء إلا الكتابة، وبإخلاص ويقين تمشي فوق عشب الكتابة مستمتعة بلحظات التحرر، تفلت جسدها للعشب، لنسمات الهواء فيتحول المشهد إلى قصيدة والجسد إلى كيان مستقل يعبر عن نفسه بقوة في مشهد كبير لامرأة تكتب الأدب بتجرد تام وصدق.

تقف الكاتبة المصرية فاطمة قنديل على عتبات نصها السردي وتضعنا أمام أسئلتها وحيرتها، بدأت بالقرار “سأكتب مذكراتي” لكن الخوف من التعري، من وجود قارئ يتلصص على سيرتها يربكها لكنه لا يجهض كتابتها. “أقفاص فارغة” ليس عملها الأدبي، لكنها المرة الأولى التي تتخلى فيها عن الشعر ومجازاته لتكتب بتجرد تام نصاً أدبياً يفيض بذاكرتها الشخصية، لا ستار، لا استعارات شعرية تختبئ خلفها وتمارس مراوغاتها. 

تفقد فاطمة قنديل في “أقفاص فارغة” سلطتها على النص وتسلم نفسها لذاكرتها، لتقودها إلى الكتابة، تقول إن الكتاب هو سيرتها الشخصية لكنها رممت فجوات ذاكرتها بالخيال، ما لم تتذكره من حياتها تخيلته، ما لم تكتبه شعراً تكتبه هنا سرداً، فيلتبس النص على القارئ ويموج معها في الخديعة، لا يعرف متى تبدأ الحقيقة وينتهي الخيال، لكنها لعبة ذكية من شاعرة تعرف كيف تطوع كلماتها لتختبئ خلفها.

إقرأوا أيضاً: