fbpx

القاهرة المسورة… مدينة الألف “كومباوند”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

حقق القطاع الخاص بمباركات وتسهيلات وتشريعات متتالية من قبل الحكومة، قدرة كافية لنثر التجمعات السكنية الخاصة على أطراف القاهرة، وبدء مشروعات واسعة المدى في الأقاليم، بخاصة الساحلية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“أول ما بدخل مدينتي بحس إني دخلت في مكان تاني في دنيا تانية، ممكن أنزل في أي وقت وأنا مطمنة. هنا الحياة حلوة مفيش تلوث. محمد صلاح الجديد جاي من هنا”.

هذه الجملة وردت في إعلان ترويجي لمجمع “مدينتي” 2020، كمحاولة لجذب سكان جدد مع وعد بمستقبل يحاكي مستقبل نجم الكرة المصري محمد صلاح. المفارقة أن محمد صلاح لم ينشأ في مجمعات سكنية بل في بيئة متوسطة عانت صعوبات مادية. 

تكثر الإعلانات التي تحاول دفع المتمكنين من طبقات المجتمع إلى معيشة “الكومباوند” التي انتشرت بشكل واسع في السنوات الأخيرة في مصر، فتبدو إعلانات مثل “مدينتي” كنموذج لتجمعات السكن الخاصة، إنه نموذج يصلح للحياة، بينما غيره يظل محاولة للعيش.

ظهر خطاب الحدّة والتمييز في إعلان مدينتي من خلال جمل، لا يمكن أن تكون خطأ من كاتبي الإعلان، لأنها بدت متسقة ومتكاملة، وقادرة على الضرب في أسس المعيشة لأي مكان لا تشمله هذه الصفات تحتفي الإعلانات التلفزيونية المصرية، بتصاعد كتلة التجمعات السكنية الخاصة “الكومباوندات”، وتعتمد هذه الإعلانات على تعداد مزايا أن تسكن في مكان خاص، وفي بيئة آمنة لك ولأبنائك. حتى إن هذه التجمعات تعدك بأن ابنك سيكون محمد صلاح الجديد نظراً إلى توفيرها الأمان الذي ضاع في فوضى المدن.

عام 2003، افتتح الرئيس حسني مبارك، وعدد كبير من وزراء حكومته، مدينة الرحاب، أول تجمع سكني خاص في مصر، تم إنشاؤه بالتعاون بين هيئة المنشآت العمرانية ومجموعة طلعت مصطفى. بدا وقتها، أن الوفد الحكومي الذي افتتح المدينة السكنية الجديدة، أكبر من حجم المناسبة، لكنه أشار بعد ذلك إلى المساحة الواسعة من التسهيلات والتشريعات الصادرة لمصلحة بيع الأراضي على أطراف القاهرة، لإعادة تشكيل المدينة طبقياً، ووضع محددات أكثر جذرية، عن أحقية كل فرد/ جماعة في موقع عيشه، وإن كان يستحق أن يحظى بأدوات العيش الآمن أم لا!

مصر في المعرض

خلال المؤتمر الدولي للمستشرقين 1889 في ستوكهولم، مرّ الوفد المصري على مدينة باريس، وزار المعرض الدولي فيها. برغم الحفاوة في استقبال الوفد المصري، ظل هناك شيء واحد أثار إزعاج الفريق، وهي الصورة التي ظهر بها الجناح وتفاصيله.

في كتاب “استعمار مصر” يشير تيموثي ميتشل إلى هذه الزيارة، ويوثّق تفاصيل الهيئة التي بدا عليها الجناح المصري آنذاك. نماذج البيوت المعروضة، كانت بسقوف آيلة للسقوط، وكذلك هيئة المساجد ومداخلها، بينما الأسواق تبدو مطابقة بشكل كبير لهيئتها الحقيقية في مصر، حتى إن مسؤولي عمل الجناح المصري من المستشرقين، قاموا بشراء مجموعة من الحمير من مصر، وأصحاب العربات ذات عجلتين ودابّة تجرها. بلغت مطابقة نماذج المعرض للأصل المصري، أن الحيطان البيض كانت مغبّرة بسواد خفيف.

بعد انتهاء زيارة الوفد المصري، وعندما وصل الأفراد إلى مقر مؤتمر المستشرقين، وجدوا استقبالاً حافلاً آخر بهم، كانت هذه الحفاوة نابعة من غرابة التطلع لدى الأوروبيين، باعتبار أن لديهم مجموعة آتية من الشرق، جديرة بالمشاهدة والدهشة.

في سياق مماثل، يذكر ميتشل، أن خديوي مصر في 1876، قام بزيارة لأحد هذه المعارض الدولية، وتمت استضافته ليقيم في أحد القصور المطابقة لقصر فعلي في مصر، ووافق الخديوي على الإقامة وقام بزيارات رسمية له في القصر، ليصبح وجوده “المسرحي”، جزءاً من الواقع الذي يتم استنطاقه في المعرض، ليطابق الوجود الحقيقي “للشرق” في جغرافية أوروبية.

يشير الحيز الزمني الذي اعتادت الدول الأوروبية أن تقيم فيه هذه المعارض- وبالتوازي مع تمكّن الإمبريالية الغربية في الزمن ذاته، إلى حالة التعالي الأوروبي، من خلال حالة التطلع والدهشة في التعامل مع الوفود الآتية من الشرق، بخاصة من المصريين. كانت الحفاوة قائمة على بعد آخر دوني، كأنما الوفود الشرقية هي مجموعة من المهجرين، تتم مشاهدتهم، لأنهم من حيز آخر “أقل”.

من ناحية أخرى، قامت هذه المعارض، خلال الوصاية البريطانية الطويلة على مصر، لتشير إلى القدرة الاستعمارية الأوروبية على خلق حقيقة مماثلة للأمكنة وثقافتها. القدرة المطلقة، في استقطاب المكان ذاته، بدواخله، ونقل تفصيلاته، كإشارة للقدرة على نزع علاقة الفرد بالمكان، وتحويلها إلى مادة قابلة لإعادة التشكيل، ربما برفاهيات أعلى واستثناءات كثيرة.

من الخارج إلى الداخل، كانت الرعايا البريطانية، تخلق لنفسها معارض داخلية، دون بعد مسرحي. يشير كتاب “ملاك مصر”، إلى أن الفترة بين 1890 و1907، كانت للبريطانين المقيمين في مصر ومن لهم علاقة من المصريين بالاحتلال، أماكن خاصة يسكنون فيها، ويمنع على أي فرد، طالما لا يمثل جزءاً من هذه الطبقة، أن يشتري في أحياء مثل “غاردن سيتي” والزمالك ومنطقة المعادي، بينما القطاع القاهري الذي تمثله طبقة الموظفين والعمّال، كان يعاني من تدهور كبير في إمكانات البنى التحتية. 

إقرأوا أيضاً:

أدوات الإنشاء

بعد صعود الجمهورية، تغيرت التقسيمة الطبقية جزئياً في المرحلة الناصرية، وانشغلت أجهزة الدولة بالنشاط التعاوني، حتى في عمليات الاستثمار. أواخر مرحلة السادات، ومرحلة مبارك كلها، يمكن ضمها في مرحلة واحدة من حيث الأفكار، لأنها انشغلت أولاً بالتخلص من الأعباء التعاونية لأجهزة الدولة، وفتحت المجال الاستثماري للقطاع الخاص. كان قطاع الإنشاءات والسكن هو فرس الرهان في عجلة الاستثمار الخاص.

 حقق القطاع الخاص بمباركات وتسهيلات وتشريعات متتالية من قبل الحكومة، قدرة كافية لنثر التجمعات السكنية الخاصة على أطراف القاهرة، وبدء مشروعات واسعة المدى في الأقاليم، بخاصة الساحلية. خلال تتبع استعادة الأداة الاستعمارية القديمة، وهي “خلق صورة مثالية عن الحقيقة”، وهو ما عمل عليه القطاع الخاصة.

نبذ العشوائيات

وأنت تقطع الطريق على الامتداد الدائري، تجده محاصراُ من جهتيه، بمبان ومساحات زراعية واسعة، تتجاور بشكل عشوائي، غير قابلة لهندسة المكان. منذ 2018 وحتى الآن، تصدر قرارات متتابعة بهدم أجزاء من هذه المباني، برغم أن عملية بيعها تمت بصورة قانونية من وزارة الأوقاف، لكن الشكل الذي بدت عليه هذه المساحات الآن، لم يعد “حضارياً” كفاية لينتمي إلى الصورة التي يتم خلقها لمدينة القاهرة منذ مطلع الألفينات.

تعتبر خطوة نبذ العشوائيات أولى مراحل تقسيم المدينة، أن تصبح المدينة مشطورة إلى أجزاء، بحيث تحتفظ كل طبقة بمعطياتها الخاصة، بما ينتج طبقة قادرة على شراء حيثيات أمان السكن، وطبقة أخرى خارجة عن إطار التنظيم والهيكلة والبنى التحتية.

تشير  دراسة “سياسة تسليع السكن في مصر” إلى أن إعلام مبارك في سنوات الألفينات، عمل من خلال خطاب إعلامي جماعي على وصم العشوائيات المنثورة على أطراف المدن. تمت إحالة العشوائيات وسكانها، من أمكنة ضمن إطار مسؤولية الدولة، إلى طفيليات زائدة، يتم النظر إليها بعين الإزالة بدلاً من التطوير، برغم أن قطاعاً كبيراً من هذه الأماكن له تاريخ طويل، وناس توارثوا العيش هناك. الدولة، كجهة رسمية، عملت من خلال الإعلام على إخلاء التزامها الخدمي- تنظيم سكن ودعم حكومي وتعرّض مسؤول لتدهور أحوال المكان- تجاه العشوائيات.

يطالعنا البر الغربي للمدينة على أماكن، وصمتها الدولة، كما تشير الدراسة، بأنها مستنقع للجماعات الإرهابية، لكن هذه الأماكن تغرز يديها في التاريخ الجغرافي للقاهرة، وبأسمائها الأصلية منذ عام 1826، مثل إمبابة وبولاق الدكرور وساقية مكي وصفط اللبن.

كي نستوعب نتاجات الخطاب الإعلامي عن العشوائيات، حين تُذكر هذه الكلمة، يتكون شعور بدهي لنا بالتهديد، وبأن ذلك المكان قائم على عنف ما، في غياب أي نظام سكني. يعرض كتاب Cairo Contested، أن حالة التمييز المؤسسية تجاه العشوائيات في مصر، خلقت رغبة جماعية في تقسيم جسد المدينة، وهو ما دفع الفئات العليا من الطبقة المتوسطة إلى الابتعاد من “الجماهير المتوحشة”، وبالتالي، إنكار أحقية التطوير لأهل العشوائيات، أو حتى البقاء في مكانهم المتوارث.

الجدّ الذي أسس شركة عقارات بدلاً من الذهاب إلى حفلة أم كلثوم!

بعد خطوة وصم العشوائيات، أصبح لدينا في مجتمع واحد، مجموعة أفراد تعيش في أمكنة غير متجانسة، حتى إن الأشخاص بحكم الطبقة، طاولهم وصم المكان وأصبحوا نماذج غير قابلة للجيرة والتعايش. من المهم إذاً أن يحتمي القادرون بالأمكنة  المتجانسة والحضارية، ما رأيكم لو ننشئ مجموعة من “المعارض” النموذجية على أطراف المدينة لتناسب أشخاصها المستحقين مالياً؟

شهد العقد الأخير من مرحلة مبارك سياسة تطويع وتسهيل كل شيء للقطاع الخاص. بدأ ظهور تشريعات متتالية لعمل استثناءات للمجموعات العقارية الطموحة في إنشاء تجمّعات سكنية، أهمها تحديد عمليات شراء الأراضي الواقعة على أطراف القاهرة بنظام المزاد، بسعر للمتر الواحد لا يساوي 10 في المئة من قيمته الفعلية، حينما يسري المزاد على شركة ما، تدفع 25 في المئة من الثمن المتفق عليه، ويتم سداد بقية القيمة على سنوات.

التسهيلات الحاصلة شجّعت مختلف مجموعات الاستثمار العقاري، وخلقت طلباً خارجياً كبيراً على امتلاك الأراضي، وهنا أصبحت قيمة تثمين الأراضي المحيطة بالقاهرة بيد ممتكليها الجدد. ارتفع معدّل قيمة أراضي المحيط الخارجي للقاهرة نحو 148 في المئة بين 2003 و2013، وبلغت 16 ضعفاً ما بين السنوات 2010 و2020.

حتى لا تخرج “تورتة” أرباح الاستثمار العقاري عن بطون أهلها، عمل بعض من وزارة أحمد نظيف على إنشاء شركات خاصة من الباطن. ظهرت شركة “بالم هيلز” عام 2005 تحت مظلّة مجموعة “المنصور” التي امتلكها شقيق الوزير محمد المنصور. خلال 13 شهراً، ارتفع حيّز الأراضي المملوكة للشركة إلى 3.5 مليون متر مربع، وفي 2008 وصل إلى 33 مليون متر مربّع. وفي تقرير عن الشركة، يتبيّن أن حيّز امتلاكها وصل إلى 48 مليون متر مربّع في 2010، مع تقدير أرباح بنحو 30 مليار جنيه من عمليات تدويل وبيع الأراضي المملوكة للشركة.

من ناحية أخرى، طمحت مؤسسات الدولة للدخول في عمليات التربّح من الاستثمار في العقارات. تأسست شركة “مصر الجديدة للإسكان والتعمير” عام 1906، وبرغم أنها شركة تابعة للقطاع العام، لكنها الآن من الشركات الكبرى في امتلاك الأراضي، بقيمة 27 مليون متر مربّع من الأراضي غير المتنازع عليها. عملت شركة مصر الجديدة في أكثر من مشروع استثماري لإنشاء كومباوندات، أحدها كان بالشراكة مع شركة “سوديك” للتنمية قطاع واسع من هيليوبليس الجديدة، من خلال بناء تجمعات سكنية وتجارية. استهداف المشروع أرباح تصل إلى 30 مليار جنيه، تمتلك الشركة المصرية 30 في المئة منها.

“الناس هنا تشبه بعض”

بعد السنوات الفارقة، منذ 2010 وحتى 2015، احتاج التطور والوفرة المعلوماتية لمختلف طبقات المجتمع المصري إلى أدوات، أكثر ذكاء، وسهولة، وقدرة على التدفق ومحاكاة الطموح الجماعي، وكان أهمّها الإعلانات. منذ مواسم رمضانية عدة، تشغل الإعلانات حيّزاً كبيراص من اهتمام مجتمعات التواصل الإجتماعي، كان من بينها أحد إعلانات “مدينتي” في موسم رمضان 2020. الإعلان الذي أتى تحت شعار “الناس هنا شبه بعض الكوميونيتي حلوة” قوبل بوفرة من السخرية و الميمز على حال كل الناس التي تسكن في أماكن في يشبه ساكنيها بعضهم في الأزمات وغياب العدالة. لم يكن إعلان مدينتي وليد خطة تسويقية/ إعلانية خاطئة، بل كان حلقة في تطور خطاب إعلانات الكومباوند منذ 2016.

من بين عشرات الإعلانات خلال السنوات الفائتة، هناك ثلاثة نماذج تمثّل تطور سياقات الاستثمار في الكومباوند.

النموذج الأول، إعلان في 2016 لمجموعة “كوربا هايتس”، يبدأ الإعلان بجو تسعيناتي، على أغنية لملك نوستالجيا التسعينات حميد الشاعري.  يأخذ أحد السمسار مشترٍ لشارع التسعين في التجمع، ويخبره أن هذه الأرض هي المستقبل كله، يرفض المشتري ويطلب من السمسار أن يخلّص له شقّة المقطم.

ينتقل الإعلان بعد ذلك إلى المقطم حالياً، رجل يجلس بـ”الفانلة” البيضاء الداخلية- العلامة المقدّسة عند الفئة الدنيا من الطبقة الوسطى- ويتم تقديم الهيئة الخارجية لعمارات المقطم، مقبضة، بلون رمادي حزين، بينما الولد يخبر أبوه أنه لو كان اشترى قطعة التجمع، “كان زمانهم تجاوزوا ذلك الفقر”.

طبيعة التقديم هنا، تلعب من خلال حنين التسعينات على فكرة أن المستقبل يقع هناك، بعيداً من مرارة الحالي، المقبض، وفانلته “البيضاء”.

النموذج الثاني في 2018، إعلان لمجموعة “زيزينيا المستقبل”، فويس أوفر وطفل صغير يحكي عن حياته بسخرية، وعن أهله الذين يحبونه، لكنهم يعذبونه منذ ميلاده، لأنه يُهان معهم يومياً في المواصلات وزحمة الطرق وصعوبة الجو، يفاجئه صوت آخر، يبشّره بأنه بعد سنتين، ستتغير حياته ويسكن في زيزينيا المستقبل.

من تدفق الحنين إلى أكثر عامل يمكن اللعب من خلاله على مفهوم “القيمة” بالنسبة إلى العائلة، وهو أريحية الأبناء.

إقرأوا أيضاً: