fbpx

بكاء محمد منير… رحلة حملت ملامحنا وفي النهاية أربكتنا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم يبقَ منير في منطقة الظهور كثيراً. هذه المرة رأى الجمهور، تحولاً كبيراً في موقف منير، وباتت التساؤلات عن تغيير في توجهاته تزداد شيئا فشيئا.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“أنا بعشق البحر، زيك يا حبيبي حنون، وساعات زيك مجنون”، ثم يبكي محمد على مسرح الإسكندرية أمام الجمهور في حفلة أحياها أخيراً. نعتقد أنه يبكي صديقه عازف العود والغيتار الألماني رومان بونكا الراحل حديثاً، لكنه بدا بكاء أبعد من رثاء صديق راحل.

لا شك في أن رحلة محمد منير الغنائية حملت ملامح جيلنا وكانت جزءاً من هويتنا في الثمانينات والتسعينات، ثم فجأة أربكتنا، بل قد يكون هو أكثر من أربكنا بين من مروا علينا.

فكيف كانت رحلة هذا المغني الأسمر الذي كان نجم حقبة واعدة لينتهي باكياً مرتبكاً على المسرح؟

أنا بعشق البحر، زيك يا حبيبي حنون، وساعات زيك مجنون”، ثم يبكي محمد على مسرح الإسكندرية أمام الجمهور في حفلة أحياها أخيراً.

بداية ثورية

محمد منير برز مع بداية عصر الانفتاح أي مع بداية تغيير السياسات الاقتصادية في عهد أنور السادات من النموذج الاشتراكي إلى الرأسمالي والاقتصاد الحر. ظهر منير في حقبة ضبابية، شعر كثيرون خلالها بالغربة، فقد ضعفت المشاعر وحلت السياسات الاقتصادية البراغماتية وغلبت هوية “تاجر الشنطة”. وسط هذا الانقلاب بعد نحو 40 عاماً من الاشتراكية يظهر شخص ينسجم الناس معه سريعاً، وكأنه يشبههم. يغلبه الضياع “بين الثورة والثروة”. فتى أسمر نحيل عذب الصوت أتى من أقصى الجنوب إلى القاهرة، يبحث عن موضع في الساحة الفنية.

بداية محمد منير جذبته سريعاً لفئة الشباب، كان معظم جمهوره من المعارضين ومثقفي الجامعات وشباب الأقاليم من الطبقة الوسطى. رأوا في الفتى الجنوبي تعبيراً عنهم وعن غضبهم وثورتهم عبر نوع جديد من الفن يمزج بين الأصالة المصرية وبين العالمية، وبمعان جديدة تماماً على آذانهم.

حتى بدايته كانت تشبههم، إذ بدأ من على مقهى “وادي النيل” في وسط القاهرة. 

غنى للشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وكانت معظم أغانيه تحمل طابعاً ثورياً، وحُسب منير على التيار اليساري، وإن لم يعبّر عن هذا صراحة، وبات الشباب يتنقلون خلفه من جامعة إلى جامعة، باعتباره صوت الثورة الجديد. في تلك الفترة أُنتج أول ألبوم “علموني عينيكي”، عام 1977، بالتعاون مع “شركة سونار” والتي كان ذلك أول تعاون لها مع جيل شاب.

واجهت منير في بدايته معضلة، أذواق الناس لم تكن تغيرت بعد عن اللون الذي كان منتشرا حينها، بقايا عصر عبد الحليم حافظ وأم كلثوم تعشش في الآذان، وما زالت المؤسسات الرسمية تتولى عمليات الإنتاج بنفسها. فلم يلقَ أول ألبوم له “علموني عينيكي” نجاحاً مدوياً. لكن من اكتشفوا وجوده، رأوا فيه الشخص المنتظر لتلك المرحلة الجديدة.

انتشار بطعم الثورة

ثم يأتي النجاح المدوي لـ”شبابيك 1981″. الجميع تماهوا معه شعروا كما لو أنهم يرون الحياة من خلف الشبابيك. وباتوا يتساءلون، من هذا الفتى الأسمر صاحب الملامح الودودة والغريبة في آن واحد، فتى يشبه النيل وصوته يشبه الطبيعة.

بدأ الناس يرون حالة جديدة وفريدة، كلمات تعكس تمرداً وحرية وتطلعات ضبابية، الكلمات لا تتعلق بالحب أو الانفصال، وتحمل معنى وطنياً وعاطفياً في آن واحد. وكما يصف إبراهيم عيسى “لم يعهد الناس أحداً يغني للشجر والبيوت والأماكن. كانت أغانيه جزءاً من تمرد جيل يبحث عن نفسه. وباتت قاعدة منير الجماهيرية تتوسع أكثر”. 

نقل مشاعر الترابط في “تعالى نلضم أسامينا”. وبسلاسة عبّر عن تشابه بيوت المصريين في “طعم البيوت”، وجمعهم على أغنية “بكار” وقت الإفطار، وأغنية “عشق البنات” في المناسبات الاجتماعية مثل الأفراح وأعياد الميلاد. 

كان يشبههم أيضاً في مأساته، وهو الذي توفي شقيقه الأوسط ورفيق دربه فاروق والذي قدمه إلى العالم، وأبكانا منير في رثائه بـ”غنوتك وسط الجموع، تهز قلب الليل فرح، تداوي قلبي اللي انجرح”، وقبل ذلك عام 2006، حين توفي شقيقه الأكبر، وغنى “إزاي نسيب حزننا يرمي العسل على المر”. 

حتى إنه عبر عن وسطيتهم في الثمانينات والتسعينات في مواجهة موجة التطرف آنذاك، وفقاً لإبراهيم عيسى، كانت أغانيه “صوت المقاومة ضد التطرف والمد السلفي والإخواني داخل الجامعات في ذلك الوقت”. 

إقرأوا أيضاً:

مرحلة الارتباك

أصبحت أغاني مثل “حدوتة مصرية”، و”طفي النور يا بهية” أيقونات ثورية بامتياز، وألبوم “بريء” في 1987، وغيرها حول التيمة ذاتها. وفجأة رأوا محمد منير للمرة الأولى عام 2009 في حفل للقوات المسلحة بحضور مبارك، وبعد انتهاء الحفل صافح مبارك بحرارة، فأصيب جمهوره بالارتباك. وباتت أسئلة عن ذلك التحول في مواقفه. ثم رأوه يشارك مرة أخرى في العام التالي.

برغم أن منير يُحسب على المعارضة إلا أنه لم يُصرح بذلك مسبقاً، ولم يبد رأيه صراحة في مبارك أو أي رئيس، ودائماً ما يترك الجمهور يختبر كلماته، كل واحد بخياله. لم يعرف أحد ماذا يقصد في أغنية “الليلة يا سمرا”، مصر أم محبوبته. لكن في الوقت نفسه، ما زالت أغانيه تستطيع التعبير عن أعمق تطلعات من يسمعها. 

وباتت أغنية مثل “إزاي” رمزاً لدعم المشاركين في ثورة يناير، وبرغم أنه كتبها قبل الثورة بعام ونصف العام والتي قيل إنها كتبت في الأصل لغرض، حملة ترشيح جمال مبارك. وحتى أغنية “لو بطلنا نحلم نموت”، باتت شعاراً لمواجهة الذل والانكسار حتى ثورة يناير.

شعر الجميع بأن منير من عام 2008 بدا وكأنه يدخل في حالة من الثبات وجمهوره أيضا، وتأكدوا من ذلك بلقائه مبارك، وبقي طويلاً في تلك المنطقة، حتى إن الأجيال الجديدة لم تعد تعرف عنه سوى أنه “المغني الذي يسمعه الكبار”، ثم أطلق ألبوم “يا أهل الطرب والعرب” عام 2012، وبدا كأنه أعطى لجمهوره الأمر بالاستيقاظ ومعهم جمهور جديد، بات هو الآخر يرى اختلافاً في منير. وعاد أيضاً بتلك التيمة التي باتت تحمل أوجهاً عدة، ثورية أو عاطفية. 

ولم يعد أحد يذكر، واقعة مبارك إلا نادراً.

واستطاع بالألبوم الجديد أن يجد مكانا بين الأجيال الجديدة، وهو الذي قال عنه عازف العود والغيتار الألماني رومان بونكا، “من المذهل أن منير الآن أكبر سناً، ولكن الأجيال الشابة ما زالت تحبه، هناك شيء ما شاب بداخله، وهذا لا يحدث عادة”. أما منير نفسه فرأى أن قدرته على الجمع بين التناقضات كان من عوامل استمراره: “في الغنا لو قدرت تعبر عن أحزان الناس وعن أفراحهم. اللي يقدر يعبر عن النقيضين دول وما بينهم، إنسان كلنا بنحبه”.

نهاية الرحلة

لم يبقَ منير في منطقة الظهور كثيراً. هذه المرة رأى الجمهور، تحولاً كبيراً في موقف منير، وباتت التساؤلات عن تغيير في توجهاته تزداد شيئا فشيئا، وبدأ الأمر بأغنية “متحيز” التي رأوها إعلانا ضمنيا عن الانحياز لنظام عبد الفتاح السيسي، ثم بتصريحاته التي تطالب بالوقوف خلفه. 

ثم تشعر وكأنه صار باهتاً. ولم يثر ذلك الارتباك الكبير الذي أثاره موقفه القديم مع مبارك. وصار باهتا أكثر حين تحول لصناعة أغنيات دعائية لجهاز الشرطة، مثل أغنية “ضالين وأبطال رجالة”، ولم يعد يلقى ذلك الضجيج القديم، حتى تشعر وكأنه دخل في حالة ثبات مرة أخرى ومعه جمهوره.

وبطريقة تشبه تلك المرحلة، بدأنا نرى العمر وربما المرض يثقلان عليه، مثل ظهوره على كرسي متحرك في حفل افتتاح مهرجان الموسيقى العربية بالأوبرا في 2019، لإصابته بانزلاق غضروفي. وباتت الأخبار عن مرضه تتكرر. لكنه بين الحين والآخر يثير جدلاً آخر خفيفاً، مثل تلك المرة التي قدم فيها مطرب المهرجانات مصطفى عنبة على خشبة المسرح، برغم قرار إيقافه من “نقابة الموسيقيين”. 

حتى رأيناه يبكي في حفل بالإسكندرية منذ أيام، كان يرثي صديقه الراحل “بونكا” لكنك تشعر بأنه لا يرثي صديقه بقدر ما يرثي تلك الحالة التي شكلت ملامحنا وأربكتنا بقدر ما شكلتنا.

إقرأوا أيضاً: