fbpx

“انظروا إليها تحترق”: إهراءات مرفأ بيروت الشاهد على جريمة السلطة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ها هي الذّاكرة تقف أمامنا اليوم، متصدّعة ومشتعلة، لا نعرف ماذا نفعل بها، أو كيف نتصالح معها. هل نملك القوّة والجهد الكافي لنتذكّر؟ أم أنّ النسيان هو الجزء المستحيل في هذه المعادلة؟ 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

اهراءات مرفأ بيروت تشتعل…

أكثر من أسبوعين على اشتعال القمح المهترئ المتروك منذ تفجير المرفأ الذي تقترب سنويته الثانية مع استمرار عرقلة التحقيق، وصولاً إلى محاولة التخلص من أثر الجريمة عبر ترك النار تفعل ما ترددت السلطة عن فعله مباشرة. 

ها هي الذّاكرة تقف أمامنا اليوم، متصدّعة ومشتعلة، لا نعرف ماذا نفعل بها، أو كيف نتصالح معها. هل نملك القوّة والجهد الكافي لنتذكّر؟ أم أنّ النسيان هو الجزء المستحيل في هذه المعادلة؟ 

يقول عالم القانون والفيلسوف الإنجليزي جيريمي بنثام بأنّ “العلانيّة هي روح العدل” بما معناه أن جزء من تحقيق العدالة هو أن تكون واضحة للعيان. ووفقاً للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، فإنّ “العلانية للجلسات تحمي الأشخاص من العدالة السرّية التي تجري بعيداً عن نظر الجمهور”. في لبنان لا وجود لجلسات المحاكمة العلنيّة، لا وجود لتلك العدالة التي نحن بأمسّ الحاجة إليها اليوم، والتي بإمكانها أن تشكل فعل مصارحة حقيقيّ بين ماضي المأساة وحاضر تكرارها.

داخل الذّاكرة يوجد دعامات أيضاً، ويوجد تداعي مشابه لذلك الذي قد يصيب الجزء الشمالي من مبنى إهراءات القمح. تلك صورة واضحة عن شكل المكان التي تبني الذّاكرة علاقتها فيه. 

لهذا السّبب رأى النّائب والمهندس إبراهيم منيمنة بأنّ أهميّة مبنى إهراءات القمح تكمن في كونه معلما لذاكرة اللّبنانيّين. “ليس للأجيال التي عايشت إنفجار المرفأ وحسب، بل للأجيال القادمة عندما لن يكون هناك شهود على قيد الحياة، ولكيلا ينسى أحد يوما ما أنّ ها هنا حدثت واحدة من أكبر الجرائم في التّاريخ”.

ليس منيمنة وحده من رأى أنّ محتويات مبنى الإهراءات من قمح وحبوب تالفة باتت تشكّل مفارقة أساسيّة بينها وبين محتوى ذاكرتنا الذي بات يتعرّض للتلف هو الآخر. في نيسان الماضي، أطلقت نقابة المهندسين ولجنة أهالي الضحايا وجمعيّات من المجتمع المدني حملة عنوانها “الشّاهد الصّامت” لحماية إهراءات مرفأ بيروت من التهديم بل لتحويله بحسب احدى مؤسّسات الحملة ماريانا فودوليان إلى نصب تذكاري تخليدا لأرواح الضحايا. وكانت حكومة نجيب ميقاتي قد وافقت في 16 آذار على هدمهم، قبل أن يتم عرقلة هذا القرار بعد يومين جراء حملة شعبية رافضة.

بعد مدّة وجيزة تقدّم نوّاب حزب الكتائب ونوّاب “قوى التغيير” باقتراحيّ قانون معجّل مكرّر يهدفان إلى حماية الإهراءات من الهدم وإعلانها معلماً للتراث الوطني الإنساني يخلّد الفاجعة، والعمل على تدعيم المبنى للحفاظ عليه. وأدرج الاقتراحان على جدول أعمال الجلسة التشريعية الأولى للهيئة العامة للمجلس النيابي الجديد التي عقدت في 26 تموز، لكنّ الجلسة انتهت بإسقاط صفة العجلة عن اقتراح القانون وذلك في ظروفٍ ملتبسةٍ نظراً لعدم شفافية آلية التصويت التي فتحت مجالا واسعاً للتزوير بنتائج التصويت.

ناشطون في حملة “الإهراءات والمدينة” أكدوا أنّ مبنى الإهراءات لا يعرقل بوضعه الحالي عمليّة إعادة إعمار المرفأ كما تروّج السلطة، لا بل يمكن دمج المبنى الحالي بمخطّطات إعادة البناء، كمركز لمساحة عامّة جامعة.

بحسب الحملة فإن “السّلطة لا تنفك تنشر معلومات مغلوطة عن ضرورة هدم مبنى اهراءات القمح تفاديا لتداعيات سقوطه على حياة المواطنين… الإهراءات تتألّف من جزء جنوبيّ (يضمّ 16 أهراء) لا يتحرّك، يفصله متران عن الجزء الشمالي (16 أهراء) الذي يميل بشكل يمكن تداركه مع خيار التدعيم”.

ما نشهده أمامنا اليوم هو ما قيل في التّاريخ بأنّه يكرّر نفسه مرّتين، الأوّلى على شكل مأساة والثانية على شكل مهزلة. مهزلة بطلتها السّلطة التي لا تنفكّ تسلب أبناء المدينة حقّهم في تقرير مصيرها. وذلك عبر وضع يدها على الأملاك العامّة بهدف السّطو عليها وتلزيمها لاحقا لشركات تطوير عقاريّ كما جرى الحال في وسط بيروت الذي سطت عليه شركة سوليدير.

إنّه السّطو نفسه الذي نراه أمامنا اليوم، السطو على المساحة، ردمها تحويلها إلى فراغ، إعادة ترميمها، تلزيمها من ثمّ بيعها. أطلَّت العام الماضي كل من شركتي “هامبورغ بورت” و”كوليرز” الألمانيّة لتطرح مشروع إعادة إحياء مرفأ بيروت وضواحيه من خلال إعادة ترميم أرضيّة الواجهة البحرية المدمّرة بين سوليدير والمرفأ. 

ربّما ستذكر الأجيال القادمة أنّه في ذلك الجزء من المدينة كان هناك عاصمة، عمّال ومرفأ وميناء للصيّادين، كان ثمّة ذاكرة ابتلعها البحر، ولم يبق منها شيء بعد الآن، مجرّد فجوة عملاقة، جزء متآكل من الذّاكرة، يشبه تفاحة مقضومة ولو تمّ ترقيعه بالمباني والأشجار، الّا أنّه عليك أن تعرف، أنك إذا مررت يوما بمكان بهذا الجمال، تأكّد جيّدا بأنّه كان يوما ما، امّا صحراء وامّا مسرح جريمة.

ليس عبثا أن اسمه مسرح جريمة. ليس عبثاً أيضا أن يطلب من المجرم إعادة تمثيل جريمته داخل قاعة المحكمة، أمام عدد لا بأس به من الشّهود، وأمام عوائل الضحايا، وهيئة من المحلّفين. لا يصدر القاضي حكمه قبل أن يرى بأمّ عينيه كيف تمّ ارتكاب الجريمة، حتّى لو جرى هذه المرّة ارتكابها بلا سقوط ضحايا فعليّين، فقط إعادة تمثيل للمأساة الحقيقيّة، هراء يجعل المجرم مسيطرا على كافّة الحدث. أمام جمهور مكبّل الأيدي ويراقب، بعكسه هو، من تحرّر من قيود الإتّهام ليلعب دورا أخيرا في مسرحيّته التي لا يوجد بطل فيها غيره.

صراع الذاكرة الجماعيّة لا يبدأ بالمصالحة مع الماضي فحسب، بل يبدأ عند ضمان عدم تكرار الجريمة مرّة أخرى. في ألمانيا مثلا لا يمكن أبدا نسيان ما علق في الذهن بشأن معسكر الاعتقال النازي “أوشفيتز”. لقد استغرق الوقت طويلا إلى أن وصلت صور فظائع المعسكر إلى ذاكرة الألمان. ويرجع الفضل في ذلك بشكل خاص إلى شخصيات أدبية وفنية.

في لوحة سلفادور دالي “إصرار الذّاكرة” نرى الزمن متجسّدا على شكل ساعات ذائبة، أيّ بما معناه أنّ الوقت كفيل في إخضاع الذّاكرة لما يشبه النسيان. تلك اللّوحة يمكنها أن تحمل تأويلات عدّة خصوصا تلك التي تتعلّق برمزيّة عقارب السّاعة التي تجمّدت على السّادسة وثماني دقائق منذ سنتين جرّاء إنفجار المرفأ.

يمكن للفن أن يحمل إجابات عديدة على كميّة المآسي التي بإمكان الإنسان أن يختزنها داخله، وبإمكانه أيضا أن يكون هو الشّاهد الفعليّ والوحيد على وقوعها بعد مرور الزمن.

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!