fbpx

أنا وبيروت… حبٌ لم ينضج بعد

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بيروت ليست بالمذنبة ولا أنا، لكن التوقيت سيئ، ما زال كلّ من يعرف أنني جديدة على بيروت يفاجأ، وكأنَّ مكوث السوريين هنا يجب أن يكون عمره عشرة أعوام، لا بضعة أشهر.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أقل من أربعة أشهر أخرى وتكون سنتي الأولى في بيروت قد اكتملت، مذ انتقلت إلى هنا فكرت في الكتابة عن المدينة إذ أني بالكتابة أبني ذاكرة مع الأماكن، لكنني لم أنجح، لطالما كتبتُ عن دمشق، كان لدي شعور عميق بمعرفة المدينة، أمّا في بيروت فلا يتعلق الأمر بالمعرفة، لم أستطع للآن صنع أُلفة معها وهذا يدفعني للحزن، إذ لا أستطيع تجاهل الدهشة فيها ورغبتي في بناء علاقة معها.

بيروت كانت المحطة الأولى التي أرى نفسي فيها من بعيد، من وجهة نظر مكان آخر، بعيداً من سنوات الحرب والخوف والحرمان، وكان المشهد مخيفاً، هناك أدركت أن عشر سنوات مضت بالفعل، العشرينات بطولها مرّت تحت القذائف والانتظار والقلق، وعليّ أن أبدأ من حيث سلبتنا الحرب حياتنا، كيف يمكن تعويض 10 سنوات؟ بيروت تشبه اليوم دمشق، ما عاد الإنكار يفيد، ربما لذلك ما زلت أخشى أن أقع في حبها، لا أريد الوقوع في حب مدينة قاسية مرة أخرى، لذا أتعامل بحياد شديد معها، أزور المقاهي لمرة أو اثنتين ثم أبحث عن مقهى آخر وفي أسوأ الأحوال لا أفكر بالبحث أصلاً، لا أحب زيارة الأماكن إلى أن أنساها تماماً.

عندما انتقلت إلى منزلي في بيروت أدركت أن البناية المواجهة لشرفتي تملأها آثار الرصاص التي تعود إلى الحرب الأهلية، كانت  هذه الإشارة الأولى إلى أن التخلص من دمشق لن يكون سهلاً وأن الحرب تلاحقنا وتظهر لنا بأشكال قد لا نتوقعها، لم أتصالح حتى الآن مع ثقوب الرصاص في تلك البناية.

بيروت ليست بالمذنبة ولا أنا، لكن التوقيت سيئ، ما زال كلّ من يعرف أنني جديدة على بيروت يفاجأ، وكأنَّ مكوث السوريين هنا يجب أن يكون عمره عشرة أعوام، لا بضعة أشهر، أتساءل: هل أنا أحدث زائرة للمدينة، ولذلك لم تكتمل ألفتي معها؟ لا يُطلب من المدن أن تقدم أشياء خارقة لنحبها، أحببت في دمشق حيّاً شعبياً وضجيج الباعة وبؤساً يقاوم بابتسامة، يكفي لتحب مدينة أن تمتلك بحراً متعباً أو شارعاً يعنيك أو شرفات دافئة.

كلّ هذا هو المساوي لعدم الاستقرار، هكذا يبدو الأمر من وجهة نظر المعالجة النفسية، لم أعرف الاستقرار يوماً فكيف أثق بمدينة على شفى الانهيار، إذاً، الحبّ يعني الاستقرار، الطمأنينة وحائط لا ثقوب رصاص عليه. أدرك أن الكتابة كانت بلداً أوجدته، عشت فيه أكثر مما عشت في الخارج، صنعت أسواره وينابيعه ومنازله وسكانه، لولا الكتابة لما شعرت بشيء من الاستقرار.

الأمر بسيط لصديقي المقرب، صديق بارع في اكتشاف المدن، وأظن أن ما ينقصني هو هذه الموهبة، أو أنني أتعمد ألّا امتلكها، يسألني عن بيروت بعدما عاش فيها بضع سنوات وعاد إلى دمشق، أقول له: “لست قادرة على صنع علاقة معها وهذا ما يشعرني بالإحباط والحزن”، فيرد: “المدينة في الأصل لا تقيم علاقة واضحة وشرعية مع أحد، هي كمحطة القطار، أكثر من فيها راحلون، ومشكلتنا ألّا صفّارة تعلن عن رحيل القطار، فجأة نجد المقاعد فارغة”. نعم هناك مساحة فارغة بيني وبين المدينة، لا أعلم كيف يمكن أن أملأها، هل سأرحل عن المدينة في يومٍ ما في قطار لن يصدر صافرة تقول إني راحلة؟

ينصحني صديقي بالتعرف إلى نقاط عدة في بيروت وربطها معاً، بهذه الطريقة قد أصنع ذاكرة ما. هو مغرم بالشرفات وأشكال “الدرابزين” والحديد في منازلها القديمة، لدرجة أنه يستطيع إغماض عينيه والاستمرار في الحديث عن بيروت لأكثر من يومين.

 يقول إن جمال بيروت يكمن في علاقات السكان والطبقات الزمنية التي بنيت فوق بعضها دون أن تمسح إحداها الأخرى، اختلطت جميعاً في مشهد يدعى بيروت.

بيروت بالنسبة إلي هي محطة، كنت أعلم ذلك منذ البداية، لكن هذه المحطة قد تبقيك سنوات ليأتي القطار، وخلال هذه السنوات يجب أن تبني علاقة مع المكان، لكن كيف يمكن التخلص من شعور أنك قد ترحل عنها في الغد؟ كيف تبعد عدم اليقين في البقاء لأسبوع آخر؟

هناك حبٌّ تكتشفه على الفور من نظرة أو كلمة، وهناك حبٌّ ينمو مع الوقت، يكبر كشتلة حتى ينضج تماماً، وهناك حبٌّ لا ندرك أننا عشناه إلّا بعد مضي السنين، أيكون حبي لبيروت من النوع الثالث، فسأدرك لاحقاً أنني أحببت مدينة من دون أن أعرف، أن حتى الهرب منها كان تعبيراً آخر عن الحب.

إقرأوا أيضاً: