fbpx

نصرالله و”التكليف الإلهي”: لِمَ العجب؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يبدو الحكم بحسب ولاية الفقيه تكليفاً شرعياً من الله، وهذا يتفق مع ما قاله نصرالله، المنسجم مع نفسه في هذه النقطة بالذات، وهي ليست زلّة لسان، وتعتبر من اللحظات التي تمثّل خروجاً صريحاً عن منطق “التقية”، وإعادة الأمور إلى نصابها “الطبيعي” بالنسبة إلى هذا الحزب الذي يستند إلى تكليف إلهي، ويعمل بأجندة “الهية”، ويسمي انتصاراته بـ”الإلهية” أيضاً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بعد الغزو الأميركي للعراق، نَقَلَ نبيل شعث، نائب رئيس الوزراء الفلسطيني آنذاك خلال حديثه في وثائقي من إعداد هيئة الإذاعة البريطانية، عن الرئيس الأميركي جورج بوش قوله، في اجتماع عقد في حزيران/يونيو 2003، إن الله هو الذي طلب منه غزو العراق. البيت الأبيض نفى كلام شعث ووصف العبارات التي نسبها شعث الى بوش بأنها “منافية للعقل”. لكن شعث، الذي يجيد اللغة الإنجليزية، تمسك بروايته وقال إنه يتذكر ان بوش أشار إلى أنه “تحرك بدافع مهمة إلهية” حين أرسل القوات الاميركية الى العراق وافغانستان وأيضاً حين قدم مؤازرته لإقامة دولة فلسطينية في نهاية المطاف. وأضاف أن الوفد الفلسطيني “لم يأخذ الكلام حرفيا على أن الله تحدث معه”.

بمعزل عن حقيقة هذا الأمر، إلا أن بوش الإبن كان واضحاً في تحميل غزو العراق ثقلاً دينياً والهياً، عبر الاستشهاد بنصوص دينية من أسفار العهد القديم، وقوله صراحة إن غزو العراق هو “حملة صليبية”، في تصريح متلفز. ولا يخفى على أحد أن بوش كان متجانساً مع الإنجيليين الصهاينة في الولايات المتحدة، وهؤلاء يطلق عليهم اسم “الصليبيين الجدد”، وهم يتحكمون باستخدام النص الديني والنظرة الأخروية إلى العالم، في ممارستهم السياسة. 

أمين عام “حزب الله” حسن نصرالله قال كلاماً مشابهاً لكن في معرض تبرير اتخاذه قرارات أحادية في مسألة ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، وعن السؤال الذي يطرحه اللبنانيون دائماً لـ”حزب الله”: “من كلفك بالدفاع عن لبنان؟”، رد نصرالله: “أنا الله مكلفني”.

وليس مستغرباً أن يصدر كلام كهذا عن زعيم حزب يرتبط اسمه بـ”الله”، ويتبع لنظام ولاية الفقيه الثيوقراطي في إيران، ويحمل شعاراً هو جزء من آية قرآنية “ألا إن حزب الله هم الغالبون”. وفي تعريف روح الله الخميني ولاية الفقيه (في محاضرات ودروس فقهية ألقاها في النجف قبل الثورة الإسلامية في إيران- “الحكومة الإسلامية”- دار الطليعة- بيروت- طبعة أولى 1979) فإن الحاكم(الولي الفقيه) “يملك من أمر الإدارة والرعاية والسياسة للناس ما كان يملكه الرسول وأمير المؤمنين على ما يمتاز به الرسول والإمام من فضائل ومناقب خاصة”. لكن الخميني يستطرد ويقول إنه “لا ينبغي أن يساء فهم ما تقدم، فيتصوّر أحد أن أهلية الفقيه للولاية ترفعه إلى منزلة النبوة أو إلى منزلة الأئمة”، لأن الكلام هنا يدور حول “الوظيفة العملية” كما يسميها الخميني، وهي تعني “حكومة الناس وإدارة الدولة وتنفيذ أحكام الشرع”. والخميني يرى أن ولاية الفقيه “أمر اعتباري جعله الشرع”، وفي حال تعذر تشكيل تلك الحكومة، “فالولاية لا تسقط” ويجب على الفقيه “أن يعمل بموجب ولايته قدر المستطاع، فعليه أن يأخذ الزكاة والخمس والخراج والجزية ان استطاع لينفق كل ذلك في مصالح المسلمين وعليه ان استطاع ان يقيم حدود الله”. 

من هنا يبدو الحكم بحسب ولاية الفقيه تكليفاً شرعياً من الله، وهذا يتفق مع ما قاله نصرالله، المنسجم مع نفسه في هذه النقطة بالذات، وهي ليست زلّة لسان، وتعتبر من اللحظات التي تمثّل خروجاً صريحاً عن منطق “التقية”، وإعادة الأمور إلى نصابها “الطبيعي” بالنسبة إلى هذا الحزب الذي يستند إلى تكليف إلهي، ويعمل بأجندة “الهية”، ويسمي انتصاراته بـ”الإلهية” أيضاً. 

وفي المعتقد الشيعي الخميني، يجري التعامل مع الفقيه على انه حاكم الأرض كلها، وليس بلداً أو منطقة بعينها، وقد سبق الخميني إلى هذه النظرية وأسس لها أحمد بن محمد مهدي النراقي (توفي في العام 1829) وكان يقول بـ”عدم جواز ترك الأرض بلا رئيس، في الوقت الذي لا يقوم (الإمام المهدي) الغائب بدوره في قيادة الشيعة”، وقام بتطوير دور الفقيه إلى مستوى “الإمامة العامة” وأعطاه جميع الصلاحيات السياسية التي كان يتمتع بها النبي والأئمة المعصومون”(راجع “الشرعية الدستوري” لأحمد الكاتب، “مؤسسة الانتشار العربي”، 2013). وجاء الخميني ليعتبر أن “الفقهاء أوصياء الرسول من بعد الأئمة، في حال غيابهم، وقد كلفوا بجميع ما كلف الأئمة بالقيام به”، كما قال إن “ولاية الفقهاء على الناس مجعولة من قبل الله كولاية الرسول والأئمة من أهل البيت وإنها ولاية دينية إلهية”. ونصر الله أعترف في غير مناسبة بولائه المطلق للولي الفقيه علي خامنئي، خليفة روح الله الخميني في المنصب الإلهي. ونصرالله  كما يصفه فرهاد دفتري في كتابه “تاريخ الإسلام الشيعي”(دار “الساقي”- 2017)، “مع أنه من علماء الدين، فإنه لا يتمتع بمرتبة سامية كافية لتجعله مرجعاً. ويبقى حسن نصرالله نفسه تابعاً لخليفة الإمام الخميني في إيران، آية الله خامنئي”، وهو بالتالي يتحدث بالسلطة الممنوحة له من قبل خامنئي، الحائز على سلطته من الله بحسب المفهوم الخميني لولاية الفقيه. 

يأتي كلام نصرالله، عن تكليف إلهي، منسجماً مع الخطاب الديني الذي نقده نصر حامد ابو زيد(“نقد الخطاب الديني”، المركز الثقافي العربي، طبعة ثالثة 2007)، والذي يقوم بتفسير كل الظواهر، الطبيعية والاجتماعية(والسياسية طبعاً)، بردّها جميعاً إلى المبدأ الأول(الله)”. 

يقول حامد ابو زيد إن الخطاب الديني يقوم بـ”إحلال الله في الواقع العيني المباشر ويرد إليه كل ما يقع فيه”، وهذا ما فعله نصرالله للهروب من المساءلة السياسية لأفعاله، فأحالها إلى الله، وأحلّ الله فيها، وفي هذا الإحلال، بحسب أبو زيد، “يتم – تلقائياً- نفي الإنسان، كما يتم إلغاء القوانين الطبيعية والاجتماعية”. وهذا ما يتطابق بشكل مدهش مع ما ورد في سياق كلام نصرالله حينما سأل من يسائله: “انت إنسان؟”، في نزع الإنسانية عن أي طرح نقدي لهذا التكليف الإلهي. 

وصحيح أن أبو زيد في كتابه يتحدث عن الإسلام السنّي، إلا أن ما يقوله ينطبق على الخمينية، و”نجد في كتابات الخميني إعادة استنساخ لطروحات الحركة السياسية الإسلامية السنية في مفهوم الحاكمية وقدسية النص والشريعة وغياب التاريخية”، على ما يقول هيثم منّاع في كتابه عن “تهاوي الإسلام السياسي” (“هاشيت أنطوان”- 2011)، ويترجم الخميني هذه المفاهيم، وما يعنينا منها هنا هو “انحسار سلطة التشريع بالله، وليس لأحد أياً كان، أن يشرّع وليس لأحد أن يحكم بما لم ينزل الله به من سلطان”، وأيضاً إقفال باب التشريع تاريخياً، إذ “لا حاجة بكم إلى تشريع جديد، عليكم أن تنفذوا ما شرّع لكم فقط”. وهي أمور تعزّز فهم كلام نصر الله عن تكليف إلهي بـ”الدفاع عن لبنان” والتكلم باسم دولته وشعبه، وهو بذلك يلغي أي تشريع أو قوانين وضعية لبنانية ومعها الدولة والدستور، ويجعل الأمور كلها في يد الله… وحزبه.

إقرأوا أيضاً: