fbpx

تأخّر تنفيذ مشروع “ري الجزيرة”: الجفاف بسبب الفساد  والميليشيات

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يشكك متخصصون في الشأن الاقتصادي بمقدرة العراق خلال العقد الحالي على تنفيذ مشروع ري الجزيرة الجنوبي، في حين تزداد المنطقة التي يفترض أن يحييها المشروع جفافاً وتصحراً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

مع انحسار مياه نهري دجلة والفرات واتساع رقعة التصحر وتوالي العواصف الرملية لتصل إلى 283 عاصفة في السنة، تجدد الحديث في العراق عن ضرورة إكمال مشروع “ري الجزيرة” في محافظة نينوى (شمال غربي العراق) كونهُ يشكل بارقة أمل في الحرب التي يقول متخصصون إن البلاد تأخرت كثيراً في خوضها لتطوير الزراعة ووقف زحف الرمال. 

يعد مشروع ري الجزيرة من المشاريع الإستراتيجية التي فشلت الأنظمة والحكومات العراقية المتعاقبة منذ أكثر من نصف قرن في إكمالهِ، لظروفٍ بعضها قاهرة كالحروب إلى جانب الافتقار إلى الإمكانات الفنية الوطنية لإنجازه ما يفرض الاعتماد على الخبرات الدولية، وهذا ما حدث في قسميه الشمالي والشرقي، في حين بقي قسمه الجنوبي وهو الأهم، حبراً على ورق.

بينما هناك خبراء يرون أن المشروع المصمم لري مئات آلاف الدونمات ليستفيد منه نحو نصف مليون مزارع في نينوى التي تعد سلة الخبز العراقية، لم يعد مجدياً بشكله القديم بسبب قلة واردات المياه من تركيا وبالتالي قلة المخزون في بحيرة سد الموصل التي يأخذ المشروع مياهه منها، فضلاً عن مشكلة ملوحة المياه ذاتها وعوائق أخرى كسيطرة الميليشيات على الحصص المائية وعدم انتظام وصولها للمزارع وارتفاع كلف الزراعة.

لهذا كله، يقترح مختصون في المياه والزراعة بدائل أخرى، كمشاريع حصد المياه، وحماية مياه الأنهار من الهدر، والاعتماد على المياه الجوفية أو الرجوع إلى أصل المشكلة بعقد اتفاقات دولية مع الجارتين تركيا وإيران، الأولى من أجل زيادة الإمدادات لنهري دجلة والفرات النابعين من أراضيها ويمران بالعراق. والدولة الثانية من أجل إعادة الحياة إلى روافد دجلة النابعة من اراضيها والتي قامت بقطعها جميعاً.

ولوح نائب رئيس مجلس النواب العراقي حاكم الزاملي في 9 حزيران/ يونيو 2022 باللجوء إلى تشريع قانون يجرم عملية التبادل التجاري مع تركيا وإيران إذا استمرتا في قطع المياه عن العراق، مؤكدا أن الاخيرة قطعت المياه بشكل كامل عن العراق وقامت بتحويل مسار أربعة انهر من العراق إلى داخل إيران، مشيرا الى أن حجم استيراد العراق من تركيا وصل إلى 20 مليار دولار، ومع إيران بلغ 16 مليار دولار.

C:\Users\nawzat\Desktop\صحافة\التقارير والتحقيقت غير المنجزة\ري الجزيرة\Screenshot 2022-05-31 at 17-35-08 27f211a4e3be5f00.pdf.png

الجزء الشمالي من المشروع

نفذ الجزء الشمالي من مشروع “ري الجزيرة”، خلال ثمانينيات القرن المنصرم ودخل الخدمة فعلياً سنة 1990، وتم تشغيله بطاقته القصوى سنة 1995 وهو مصمم لري 240 ألف دونم من الأراضي الزراعية عبر قناة تمتد من بحيرة سد الموصل (35 كم شمال الموصل) ليمر بمناطق ناحيتيّ زمار وربيعة غربي نينوى على امتداد الشريط الحدودي بين العراق وسوريا.

لكنه توقف عن العمل بعد سيطرة تنظيم داعش على الموصل في حزيران/ يونيو 2014 ثم على باقي أجزاء المحافظة في آب/ أغسطس من العام نفسه، وبعدها تعرضت قنواته وباقي مرفقاته إلى أضرار كبيرة إثر حرب تحرير المنطقة من داعش التي بدأت في غرب نينوى أواخر 2015.

يقول سهل كوكب الجميل، عميد كلية الزراعة والغابات في جامعة الموصل، أن الجزء الشمالي، بوسعه فيما لو تم تشغيله بطاقته الكاملة، زيادة الإنتاج الزراعي بنسبة 123 في المئة بما يعادل 100 في المئة للمحاصيل الشتوية و23 في المئة للمحاصيل الصيفية.

وأنه يتألف من محطة ضخ تنقل المياه من بحيرة سد الموصل وتضخها عبر قنوات رئيسية تصل إلى منطقة ربيعة بطول 58 كيلومتراً تتفرع منها 16 قناة فرعية معلّقة. وهناك محطة ضخ ثانوية اخرى تضخ من القناة الرئيسية الموازية الى قناة منطقة التوسيع في قرية(العزايم) بطول 8 كيلومترات، تتفرع منها قنوات فرعية وزراعية.

ويشير الجميل إلى أن منظمة الأغذية والزراعة الدولية (الفاو) تبنت إعادة تأهيل مشروع ري الجزيرة الشمالي بالتنسيق مع وزارة الموارد المائية العراقية بعد طرد “داعش” من المنطقة في 2017.

وتمت إعادة بناء سبعة جسور على قنوات الري في مناطق مختلفة، مع إعادة تبطين بعض الأجزاء التالفة من قنوات الري وصيانة 21 بوابة من بوابات التنظيم وتنظيف قنوات الري بطول 84.6 كيلومتر من الطمي المتراكم والمخلفات الأخرى داخل القنوات والتي تغطي أراضي 47 قرية في ناحية ربيعة.

وبحسب ممثل منظمة الفاو بالعراق صلاح الحاج حسن، فإن أعمال المرحلة الثانية والثالثة لترميم المشروع ستؤمن المياه للمنطقة بالكامل وتمكين 400 ألف مزارع من استعادة العمل في أراضيهم مع وفرة في الانتاجين الزراعي والحيواني، ما يحسن واقعهم المعيشي. 

ويبدو أن خطوة أخرى جادة قد مضت في هذا الاتجاه في 29 أيار/ مايو 2022 عندما تم فعلياً إعلان إنجاز المرحلة الثانية من مشروع ري الجزيرة الشمالي، بتأهيل محطة ضخ(تل الهوى) الخاصة لري 100 ألف دونم من الأراضي الزراعية بتنفيذ من منظمة الزراعة والأغذية (الفاو) وبتمويل من الاتحاد الأوروبي.

 وبحسب إعلام وزارة الموارد المائية فإن التأهيل شمل الأعمال الميكانيكية والكهربائية للمحطة وإنشاء جسور سيارات، إضافة الى إعادة تبطين وتنظيف جزء من قنوات الري وتصليح بعض البوابات.

C:\Users\nawzat\Desktop\صحافة\التقارير والتحقيقت غير المنجزة\ري الجزيرة\FB_IMG_1643141076719.jpg

ومجمل الأعمال المخطط لها للمرحلتين الثانية والثالثة، ستغطي 240 ألف دونم، وتوفر آلافاً من فرص العمل والمساهمة في تحقيق الأمن الغذائي والسلم المجتمعي وعودة النازحين الى مناطقهم.

“إنها مجرد أمنيات” يعلق المزارع سالم حامد، على ما تطمح إليه وزارة الموارد المائية. كان يقف قريباً من قناة مشروع “ري الجزيرة” الشمالي بجوار أرضه في ناحية ربيعة، لكن مع ذلك لم يكن مكترثاً بتدفق المياه عبره “نحن لم نعد نزرع، قليلون هم الذين يفعلون ذلك الآن”.

ويشير بيده إلى القناة “يعطوننا حصة مائية واحدة فقط كل عشرين يوماً، وهي غير كافية لزراعة أرضي بمختلف أنواع المحاصيل وعلى رأسها الطماطم كما كنت أفعل قبل أكثر من عشرين سنة، عندما كانت هناك دولة حقيقية”، معبراً بذلك عن سخطه لعدم الاهتمام والدعم الرسميين للزراعة كما كان في عهد النظام العراقي السابق.

ويضيف حامد، إلى قلة المياه، مشاكل أخرى تواجه الفلاحين “لو فرضاً حصلنا على حصص إضافية، سنحتاج إلى كهرباء لتشغيل المرشات، وهي غير متوفرة دائماً، وإذا شغلنا مولد الكهرباء الديزل، سنحتاج إلى 200 ألف دينار لشراء برميل من الكازوايل، وهكذا ترتفع التكاليف، وعند تسويق المحصول في مواسم الجني تصدمنا الأسعار المنخفضة التي لا تغطيها”.

يفكر حامد قليلاً قبل أن يضيف سبباً آخر، يقول بأن الغالبية العظمى من المزارعين يتجنبون الحديث عنه خوفاً من تبعات ذلك عليهم، “إنها ميليشيات الحشد الشعبي التي تفرض سيطرتها على المنطقة بالكامل، هي من تقرر الحصص المائية وليس الموارد المائية”.

وتنتشر فصائل تابعة للحشد الشعبي، ماسكة الأرض في المناطق على طول الحدود بين العراق وسوريا، وتفرض أحياناً تعليماتها الخاصة لتنظيم بعض القضايا الإدارية في تلك الأنحاء على الرغم من وجود إدارات محلية فيه.

مثل حامد يرى مزارعون كُثر أن مشكلة الزراعة في العراق لا ترتبط بتوفر المياه فقط، بل بمستلزمات الإنتاج والتسويق، والظروف القائمة على الأرض، ويتهمون الدولة بعدم الجدية في معالجة تراجع الزراعة في العراق مقابل استحواذ المنتجات الزراعية المستوردة على السوق بنحو شبه كامل.

خلال تواصلنا مع مصدر هندسي مطلع في الجزء الشمالي لمشروع “ري الجزيرة”، أكد صحة اتهامات بعض المزارعين، وقال بأن المرحلة الاولى منه تعمل فقط بنحو 30 في المئة من طاقتها كأقصى حد. والمرحلة الثانية التي أعلن عن اكمالها في أيار/ مايو لم تحصل بعد على موافقات الحصة المائية المطلوبة، فيما تظل المرحلة الثالثة بانتظار التأهيل، وهو ما يحصل بنحو بطيء وفقاً للمصدر، الذي فضل عدم ذكر اسمه.

الجزء الشرقي

لا ينحصر تأخر التنفيذ والتأهيل على الجزء الشمالي من المشروع، فالجزء الشرقي الذي وقعت وزارة الموارد المائية عقد تنفيذه سنة 2009 مع شركة تركية، وكانت أعمال تنفيذه تجري على قدم وساق قبل أن يسيطر داعش على الموصل في 10 حزيران/ يونيو 2014، عادت أعمال إنجازه بدءاً من 2018 وبكلفة 62 مليار دينار لكنها إلى الآن لم تتجاوز 30 في المئة.

هدف المشروع هو إرواء 240 ألف دونم ، على أن يمتد من بحيرة سد الموصل ويتجه شرقاً عبر سهل نينوى في قضاء تلكيف وناحيتي برطلة وبعشيقة وصولاً إلى قضائي الحمدانية والنمرود. وهي أراض عالية الخصوبة ما يرفع سقف التوقعات من أن يؤدي انجاز وتشغيل المشروع إلى زيادة كبيرة في الإنتاج الزراعي.

ويقول ممثلو وزارة الموارد المائية إن هذا المشروع يأتي ضمن الخطط للتوسع في استخدام الأراضي الزراعية والاستعانة بالري بالرش والتنقيط للتقليل من الهدر المائي والنهوض بالقطاع الزراعي والري. 

لكن معارضين لتنفيذ المشروع، يقللون من أهميته، ويشككون بفائدته المستقبلية لجملة من الأسباب أهمها كما يقول ذنون عطا الله، وهو موظف زراعيٌ متقاعد: “منطقة سهل نينوى مضمونة الأمطار، كما أنه مشروع ري تكميلي يتعلق بالمحاصيل الشتوية التي تحتاج فقط إلى ري لمرة واحدة أو لمرتين في حالة احتباس الأمطار، لذا فمن الخطأ أن تصرف كل تلك الأموال عليه، في وقت تموت فيه الأجزاء الجنوبية والغربية من نينوى من العطش لأنها غير مضمونة الأمطار، وقد ضربها التصحر، ما أدى إلى تدمير الأراضي الزراعية فيها والمراعي”.

ويضيف أيضاً بأن مناطق سهل نينوى هي من المناطق المتنازع عليها بين حكومتي إقليم كردستان في أربيل والمركزية في بغداد، وأن الإقليم فرض سيطرته الفعلية بواسطة البيشمركة على أجزاء منها ويمنع مزارعين عرباً من استغلال أراضيهم. وأجزاء أخرى يسيطر عليها الشبك الشيعة بواسطة الفوج 30 التابع للحشد الشعبي، الذي يمنع بدوره المزارعين من غير الشبك من استثمار أراضيهم. ويختتم  كلامه “عليهم أن يحلوا تلك المشكلات قبل أن ينفذوا مشروعاً عاماً في تلك المنطقة”.  

C:\Users\nawzat\Desktop\WhatsApp Image 2022-05-31 at 9.54.28 PM.jpeg

ولتدارك ذلك، يفضل عطا الله تنفيذ الجزء الثالث من مشروع “ري الجزيرة”، وهو الجنوبي، مشيراً إلى أنه يراوح مكانه منذ أكثر من ثلاثة عقود على الرغم من أهميته كونه من الناحية التصميمية يغطي مساحة 240 ألف دونم من الأراضي الزراعية.

ويمتد ذلك الجزء من المشروع من ناحية المحلبية (35 كلم غرب الموصل) الى جنوب قضاء تلعفر وينتهي في ناحية تل عبطة (73 كلم جنوب غربي الموصل) ووفقاً لما يذكرهُ ذنون فهي من أكثر مناطق نينوى جفافاً، وعانت من التصحر وزحف الرمال طوال العقود الثلاث المنصرمة والمياه الجوفية فيها غير صالحة للاستهلاك البشري ولا تصلها خدمة مياه الاسالة، لذا يضطر السكان الى شراء مياه الشرب التي تنقل إليهم من مدينة الموصل بواسطة الصهاريج.

مشروع على الرف

لمعرفة تفاصيل هذا المشروع غير المنجز، كان علينا التواصل مع موظفين في وزارة الموارد المائية، بعد عدم حصولنا على إجابات من مديرة الموارد المائية في نينوى، ومن خلال ما أكدوه لنا بعدما فضلوا ألا نذكر أسماءهم أو مناصبهم، خشية تعرضهم لعقوبات إدارية، فإن الطاقة الكلية للمشروع ستغطي 760 ألف دونم، مع تقديرات إنتاجية محتملة بعد عشرين سنة من التشغيل بـ 380 ألف طن  من الحنطة والشعير. 

وأكدوا أن فكرة المشروع تعود إلى عام 1982، عندما قدم استشاري سويسري دراسة بشأنه، وكلفت شركة محلية أسمها “دجلة العامة” لوضع دراسات وتصاميم مشاريع الري ضمن المشروع، وتمت المباشرة فعلاً بالتنفيذ عام 1993 لكنه توقف لوجود مشكلات فنية، فاقمتها الظروف الاقتصادية والسياسية الصعبة في ذلك الحين (العراق كان يخضع لعقوبات دولية من  1990 لغاية 2003).

ووفقاً لمعلومات موظفي مديرية المواد المائية تمت إعادة التفكير بتنفيذ المشروع سنة 2008 وتقدمت الهيئة الإستراتيجية العراقية لإعادة الإعمار التابعة لوزارة التخطيط والتعاون الإنمائي بطلب رسمي للسفارة اليابانية في بغداد لتمويل تنفيذ الأجزاء الرئيسية له وتمت مناقشة الأمر لنحو سنة قبل توقيع  محاضر مشتركة مع الطرف الياباني في عمان.

لكن الظروف الأمنية المتصاعدة في نينوى والتي انتهت بسيطرة تنظيم “داعش” على المنطقة في 2014 وقفت حائلاً في وجه تنفيذ الاتفاق ولاحقاً بعد تحرير المحافظة بالكامل في منتصف 2017، كانت المرافق العامة بمجملها مدمرة نتيجة للحرب، كالمستشفيات والجسور ومحطات الكهرباء والمياه والطرق، فتوجه الاهتمام نحوها وترك مشروع ري الجزيرة الجنوبي على الرف.

عملياً، يشكك متخصصون في الشأن الاقتصادي بمقدرة العراق خلال العقد الحالي على تنفيذ مشروع ري الجزيرة الجنوبي، في حين تزداد المنطقة التي يفترض أن يحييها المشروع جفافاً وتصحراً،  ما يؤدي إلى موجات نزوح إلى المدن القريبة.

حلول بديلة

الأكاديمي والباحث المتخصص من جامعة دهوك رمضان حمزة، يسجل أسفه الشديد من أن العراق بات يقع على أجندة العطش، وأن الوضع سيتفاقم عاماً بعد آخر، فالمياه كما يقول قضية تنمية وسياسات وطنية وإقليمية، لذا فإن “الأمن المائي هو الذي يجب أن يكون له الأولوية بدءاً من اليوم”.

حمزة الذي أصدر عام 2022 بالاشتراك مع لؤي ماهر حماد كتاب “الأمن المائي في العراق إلى أين؟”، يرى بأن لا حل بديلاً عن حسن إدارة نهري دجلة والفرات، حتى وإن انخفض منسوبهما.

لكنه يستدرك ملقياً باللائمة على الحكومة الاتحادية بقوله “من لم يستطع إدارة النهرين، لن يقدر على إدارة العراق!”.

غير أن الحلول البديلة ولاسيما لمشروع ري الجزيرة الجنوبي، موضع بحث مستمر. إذ يقترح أحدها، عضو الهيئة التنفيذية لمركز المعرفة والتنمية للدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية اكرم سالم الحموشي، ومع أن مشروعه يحمل الاسم ذاته، لكن التنفيذ بآلية مختلفة، تتمثل بشق نهر جديد من بحيرة سد الموصل باتجاه قضائي تلعفر والحضر.

ويشير إلى فوائد كبيرة يمكن أن يحققها، كالحد من مخاطر فيضانات نهر دجلة والاستفادة من تلك المياه من خلال مجرى نهري جديد تقام على ضفتيه العشرات من القرى العصرية النموذجية، يعمل سكانها في مجالات الزراعة والثروة الحيوانية والصناعات الغذائية.

وحوض النهر الجديد سيكون ملائماً لاستثمار الثروة السمكية بإنشاء أحواضٍ على ضفتيه، وإنشاء معامل التعليب لمختلف المنتجات الزراعية والحيوانية مثل معامل معجون الطماطم والخضار والفواكه، والأجبان والألبان واللحوم”، لأن من شأن ذلك وفقاً لنظريته، توفير الآلاف من فرص العمل في شتى المجالات مما يسهم كثيراً بالتخفيف من حِدة البطالة ووقف ظاهرة الهجرة من الريف إلى المدن. هذا إذا سمحت كميات مياه نهر دجلة المتوفرة من إنجازه.

ويجد الحموشي، أنه يمكن تنفيذ المشروع على شكل مراحل متعددة بتمويل من الموازنة السنوية للمحافظة أو الاستعانة بشركات عالمية تسدد تكلفة المشروع مقابل الدخول كشريك لبضع سنوات.

C:\Users\nawzat\Desktop\WhatsApp Image 2022-05-31 at 9.54.28 PM (1).jpeg

ويبدو أن هنالك جملة من الصعوبات تعترض تنفيذ مشروع الحموشي، حسبما يذكر الباحث المتخصص في المجال الاقتصادي خزعل فاضل  بيدر، منها رصد أموال كبيرة لاستملاك الأراضي التي سيمر بها مجرى النهر الجديد، وميزانية محافظة نينوى لن تقوى على تغطيتها.

كما أن المحافظات الوسطى التي يمر بها نهر دجلة، الذي يغذي بحيرة سد الموصل والذي منه يفترض الحموشي أخذ مياه مشروعه “لن تقبل أن تقلل حصصها المائية، لأنها بالأصل قليلة جداً في الآونة الأخيرة بسبب قلة الأمطار”. 

ويضرب مثالاً على ذلك، مقترحاً حاول مجلس محافظة نينوى التصويت عليه عام 2009، بعمل سد غاطس في مجرى نهر دجلة المار بمدينة الموصل، ولاقى المقترح اعتراضات كبيرة آنذاك من المحافظات الاخرى في الوسط والجنوب ما دفع المجلس إلى صرف النظر عنه.

عوضاً عن ذلك، يقول خزعل، أن على الحكومة المحلية في نينوى التواصل مع شركات تركية لتنفذ مشروع “ري الجزيرة” الجنوبي بحسب التصاميم التي وضعت له، لكن باستخدام التقنيات الزراعية الحديثة التي تقلل من صرف المياه، كما أن الاتفاق هذا سيدفع بتركيا حسبما يعتقد، إلى ضخ كميات مياه اضافية إلى نهر دجلة، لأن ذلك سيخدم مصلحتها.

ويقول: “تركيا بنت سدودا على أعالي نهر دجلة من أجل استثمار مياهه، وهي تعلم جيداً، أن العراق سيتأثر بتقليل واردات المياه للنهر وبالتالي سيقدم العروض السخية للحصول عليها”.

حصاد مياه الأمطار

الجيولوجي عبد الباري أيوب حكمت واثق تماماً من أن العراق سيلجأ في نهاية المطاف إلى حصاد مياه الأمطار والسيول، لكن بعد أن يجد صناع القرار فيه أن لا جدوى من أي تواصل مع تركيا أو إيران لأنهما تستخدمان المياه في معاركهما الاقتصادية.

لذلك “فلا طائل من أي مشروع استراتيجي إروائي يستند إلى نهر دجلة أو الفرات لأنهما ذاهبان نحو الجفاف” وفقاً لنص تعبيره. 

ويلفت إلى أنه وعلى الرغم من أن المنطقة الغربية للعراق أو ما تعرف بمنطقة الجزيرة، جافة وقليلة الأمطار، إلا أنها تشهد هطول أمطار غزيرة، لمرات قليلة في الشتاء والربيع، لكن مع ذلك تنتج عنها سيول كبيرة، تدمر أحياناً قرى بأكملها “لكنها تنتهي في الوديان المفتوحة ثم تتسرب من دون الاستفادة منها”.

ومن خلال اطّلاعه على المنطقة ومعرفته بطبيعتها، يؤكد عبد الباري وجود وديان عميقة، تتجه إليها السيول، والأخرى يمكن توجيهها إليها، ومن خلال غلق مخارج تلك الوديان، وحسب يمكن أن تحبس المياه فيها وبكميات جيدة، لتصبح خزانات طبيعية تغطي حاجة الزراعة والثروة الحيوانية في محيط الوادي خلال الصيف، دون الحاجة إلى إنفاق مبالغ طائلة كالتي تتطلبها السدود العادية.  

“لا تنحصر الفائدة عند هذا الحد” يقول عبد الباري، ويضيف “يمكن أن تتحول هذه الوديان إلى مقاصد سياحية وسيعود المزارعون والفلاحون إلى المناطق التي نزحوا منها، بعد أن يكون خطر التصحر قد زال وتوقفت الرمال عن دفن قراهم. 

يؤيده الباحث المتخصص بالمياه، فواز خيرالله، فما يخص ملائمة غربي العراق لمثل هكذا مشاريع وعدم احتياجها لموازنات مالية كبيرة أو إمكانات فنية عالية، لكنه في ذات الوقت يرى بأنها مشاريع موقتة.

ويوضح وجهة نظره “المياهُ ستجمع في الأودية، أي أن مياهها لن تتجدد لحين موسم الأمطار التالي، وهذا يعني أن نسبة كبيرة منها ستتبخر بسبب طبيعة المنطقة التي تتصف بارتفاع درجات الحرارة، ما يعني مخاطر كبيرة في حال نفاد المياه والمزروعات بحاجة إلى ري مستمر”.

كما أن نسب الأمطار المتساقطة في غرب العراق، بحسب الفواز، متذبذبة، وهنالك مواسم لا تتساقط فيها أمطار كافية لإنجاح حصاد المياه، وبالتالي يرى أن الخيار المتاح للحد من مشاكل العراق البيئية يتمثل باستغلال المياه الجوفية على المدى القصير إلى أن تتوفر الإمكانات المادية والبشرية لتنفيذ مشاريع إرواء أخرى.

لكن تقارير صحفية نشرت في العراق خلال شهر أيار 2022 تحدثت عن نضوب المياه الجوفية في الكثير من مناطق محافظة نينوى، بسبب اللجوء المفرط لحفرها دون استشارة الجهة المتخصصة (شركة حفر الآبار) في الهيئة العامة للمياه الجوفية. 

الكاتب الاقتصادي قيس علي، يرجع سبب حفر الآبار من قبل المواطنين ولا سيما الإرتوازية التي كانت تتطلب قبل عقدين من الزمن موافقات رسمية خاصة، إلى ضعف رقابة الدولة وسلطتها بين عامي 2003 -2017 على منطقة غرب العراق بنحو عام والتي كانت مسرحاً لتحركات الفصائل المسلحة.

وفي فترة التدهور الأمني بعد 2003 ولغاية 2014 شاع في نينوى وجود ما تعرف بـ”حفارات الآبار السورية”، وكان المواطنون يعتمدون عليها في حفر الآبار وبكثرة لكون 20 في المئة من المحافظة غير مخدومة في الأصل بالمياه وأكثر من 50 في المئة تصل إليها المياه بنحو متذبذب أو ما يعرف بنظام “المناوبة”.

وتابع “بعد تحرير نينوى في 2017، كانت البنى التحتية ومنها محطات المياه مدمرة، لذا أول شيء فعلته بعض منظمات الإغاثة التي تقاطرت إلى نينوى، هو حفر الآبار في القرى والأرياف بل وحتى داخل مدينة الموصل، لتوفير المياه للسكان” . وهذا ما أدى وفقاً لقناعتهِ إلى استنزاف تخزين المياه الجوفية، التي لم تعوض بسبب قلة الأمطار في السنوات الأخيرة عدا موسم واحد.

أحياء نهر الخوصر

البروفسور مروان متعب آل سيد، فكر في استثمار طبيعة الأرض في نينوى والتي هي هضاب وسفوح منحدرة، في إعادة إحياء نهر الخوصر، وهو نهر صغير كان ينبع من قضاء الشيخان (47 كلم شمال الموصل) وتحديداً من منطقة باعذرة، وينحدر من هناك ليلتقي بنهر دجلة في وسط مدينة الموصل.

لكنه الآن جاف تقريباً ويستخدم لتصريف مياه الصرف الصحي، ويشكل منفذًاً للسيول في المواسم الممطرة، وهذا تحديداً ما تدور بشأنه فكرة آل سيد، إذ يقول بأنه ملائم جداً لحصاد مياه الأمطار، لكونه يفيض في موسمي الربيع والخريف وذلك لسعة مساحات تغذيته بمياه السيول، فضلاً عن وجود عيون تغذيه ويمكن حفر عشرات الآبار في سهله الفيضي من الخزانات المائية الجوفية المتعددة الاعماق.

C:\Users\nawzat\Desktop\170736868_10225802619470727_5478319536951630007_n.jpg

وهو يفضله على مشروع “ري الجزيرة”، ليس فقط لما يتطلبهُ الأخير من رؤوس أموال وإمكانيات فنية كبيرة، بل لأنه يأخذ الماء من نهر دجلة المهدد بالجفاف، ويعتقد بأن مشروعه لنهر الخوصر سيؤدي لتغذيته. 

والفوائد الأخرى التي يتوقع أن يحققها مشروعه، تحويل مقتربات النهر إلى مواقع جذب سياحية ومناطق ري وتصنيع زراعي ورعوي.

وقال أيضاً إن “تنفيذ هذا المشروع، يعيد فكرة وضعت دراستها شركة اجنبية في الثمانينات، بإنشاء سد النوران أو- القائم- على جانب العشرات من السدود الصغيرة (السدات) من منبعه إلى مصبه في دجلة قرب الجسر العتيق وسط الموصل”.

وسيكون بالوسع كذلك، تنفيذ محطات تنقية المياه الثقيلة في المناطق السكنية المطلة عليه قرب خورسباد وبايبوخت وداخل مدينة الموصل، مع تطوير منطقة  الشلالات وعمل متنزهات ومساحات خضر من الأشجار على ضفتيه في سهل نينوى و داخل مدينة الموصل ستساهم بدورها في خلق فرص عمل. 

ولمعرفته أن نينوى لن تقوى على تمويل مشروع كهذا، يضمّن آل سيد مقترحه بإحالته إلى شركات عالمية رصينة، مقابل دفعات من النفط و”تحويل جزء من  النفط المنتج بنينوى إلى مشاريع سياحية اقتصادية”.

أو أن تنفذه شركات عالمية وتديرهُ مالياً دون أن تدفع الدولة العراقية شيئاً، بشرط أن تعتمد على عمال عراقيين.

في منطقة حي الطيران بالجانب الأيمن من مدينة الموصل، كان ميسر حمود، وهو نازح من ناحية تل عبطة، يجهد نفسه بالتعاون من ولديه الشابين في إنزال براميل صغيرة معبأة بالمياه جلبها من منطقة أخرى.

احتاج لبضع ثوانٍ ليستعيد أنفاسهُ وقال موجها ذراعهُ صوب الشمال “نهر دجلة يبعد نصف كيلومتر من هنا، ومع ذلك لا يستطيعون إيصال المياه إلينا بسبب قلة المياه”.

ثم يتابع بعد نوبة سعال مشككاً بكل ما يسمعه عن مشاريع المياه “لا يستطيعون ايصال مياه الاسالة الى أحياء بمركز الموصل، فكيف يمكنهم إيصالها من نهر دجلة عبر مشروع ري الجزيرة إلى قريتي في تل عبطة التي تبعد 75 كيلومتراً من هنا… لقد هجرتها منذ أعوام بسبب التصحر ولا أمل لي بالعودة إليها؟”.  

*أنجز التحقيق بدعم من شبكة نيريج للصحافة الاستقصائية

إقرأوا أيضاً: