fbpx

إضراب المصارف: تمرّد في مواجهة القضاء وخطة التعافي والضغط الدولي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

سيكون لبنان أمام حالة تمرّد مصرفيّة في مواجهة القضاء والسلطة التنفيذيّة والجهات الدوليّة معًا، ولغرض حماية مصالح قلّة نافذة ماليًّا وسياسيًا. أما الملفت للنظر، فهو تغاضي السلطة حتّى اللحظة عن التعامل مع هذا التمرّد المالي، رغم أثره على مستوى الحركة الماليّة في البلاد.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

ينطلق الإضراب الذي أعلنته جمعيّة المصارف اللبنانية هذا الأسبوع والذي يُفترض –بحسب بيان الجمعيّة- أن يستمر “ابتداءً من يوم الإثنين الواقع في 8 آب/ اغسطس 2022، على أن تقرّر الجمعيّة العموميّة للمصارف التي سوف تنعقد في العاشر من آب (أي يوم الأربعاء المقبل) الموقف الذي تراه مناسبًا في هذا الشأن”. بمعنى آخر، لوّح البيان بوضوح بإمكانيّة استمرار الإضراب هذا بعد يوم الأربعاء، وفقًا لمقرّرات جمعيّتها العموميّة. 

وحين تقفل المصارف أمام المودعين والشركات التجاريّة بهذا الشكل، فهي تعلم حكمًا أن ذلك يعني وقف التحويلات من وإلى الخارج، وحركة الشيكات الداخليّة، وهو ما يشمل كل أشكال التبادلات الماليّة التي تحتاجها عمليّات الاستيراد والتصدير والتجارة المحليّة. وفي الوقت نفسه، تعلم المصارف جيّدًا أن خطوة من هذا النوع تعني وقف سحوبات المودعين من الحسابات القديمة وحسابات الدولار الفريش على حد سواء، ووقف بيع دولارات مصرف لبنان للمستوردين عبر منصّة صيرفة. وعمليّة وقف بيع دولارات المنصّة وحدها، تعني إحالة كل الطلب على الدولارات إلى السوق السوداء، ما سيتُرجم خلال أيّام الإضراب بضغط استثنائي على سعر صرف الليرة في السوق.

التمرّد لمواجهة الدعاوى القضائيّة

باختصار، أعلنت المصارف تطويق البلاد ماليًّا واقتصاديًّا طوال فترة الإضراب الراهن، والذي قد يستمر لفترة أطول إذا ما شاءت ذلك الجمعيّة العموميّة المرتقبة للمصارف. أمّا الذريعة المُعلنة، فكانت توقيف رئيس مجلس إدارة بنك الإعتماد المصرفي طارق خليفة، بناءً على دعوى رفعتها حاملة أسهم تفضيليّة في المصرف، وتنفيذًا لمذكّرة بحث وتحرّي صدرت بحق خليفة لتمنّعه عن حضور جلسات الاستجواب. 

من الناحية العمليّة، أطلق القضاء اللبناني سراح طارق خليفة بعد أقل من 48 ساعة على توقفه، بكفالة ماليّة وبموافقة الجهة المدعية نفسها. إلا أنّ جمعيّة المصارف قررت المضي قدمًا في إضرابها الذي سيخنق البلاد على مدى أيام عدّة، مع إمكانية تمديد الإضراب يوم الأربعاء، لفرض تنازلات من قبل القضاء في طريقة تعامله مع المصارف اللبنانيّة. فخلال الأسبوع الجاري، من المفترض أن تعقد جمعيّة المصارف اجتماعًا مع مدعي عام التمييز غسّان عويدات، “لوضع الخطوط العريضة التي ترعى أصول المحاكمات في النزاعات الماليّة.” بمعنى أوضح، بات المطلوب من هذا الإضراب رفع السقف قدر الإمكان في مواجهة القضاء اللبناني، لتكريس أصول وأنظمة جديدة في ما يخص الملاحقات التي تقوم بها النيابات العامّة ضد المصارف. 

من المعروف أن ما تحاول المصارف فرضه بالإضراب اليوم، لجهة التفاهم مع النائب العام التمييزي غسّان عويدات على أصول جديدة للمحاكمات، مسألة غير قانونيّة ولا تمت لأصول المحاكمات الجزائيّة بأي صلة. فالقانون يحظر على أي قاضي وضع أحكام أو قرارات على شكل تنظيمات أو إجراءات تنظيميّة جديدة، بل يفترض أن تتحدّد هذه التنظيمات من خلال نصوص القوانين والتعاميم القائمة أساسًا، فيما يقتصر دور القضاء على تفسير وتطبيق هذه النصوص. والمفارقة الفجّة هنا، تكمن في أنّ المصارف تحاول من خلال الإضراب أن تفرض هذه التنظيمات الجديدة على مدعي عام التمييز، بما يتجاوز القوانين التي تحمي المودعين، بدل أن يكون دور مدعي عام التمييز تطبيق القوانين لمصلحة المودعين، بوصفه أعلى سلطة ادعاء يمكن أن تفتح ملفّات مخالفات المصارف على مصراعيها.

في كل الحالات، كل ما يجري هنا يبدو أقرب إلى سيرك غير مألوف في عمل المؤسسات الدستوريّة. هناك قطاع مصرفي قادر على فرض حصار مالي شامل على المجتمع، لإجبار القضاء على لعب أدوار السلطتين التنفيذيّة والتشريعيّة، ووضع تنظيمات إداريّة جديدة تتجاوز القوانين والإجراءات التنفيذيّة القائمة، وهو ما يخالف مبدأ الفصل بين السلطات. وبدل تطبيق القانون على المُدعى عليه، أي المصارف، بات هذا المُدعى عليه يجتمع برأس النيابات العامّة (أي القاضي عويدات) للتفاهم على أصول المحاكمات التي سيتم تطبيقها على المصارف! أمّا المودع، الذي يفترض أن تكرّس القوانين القائمة حقّه بالمحاكمات العادلة، فبات ضحيّة الإضراب الأولى، بعدما أقفلت المصارف في وجه عملائها للضغط على الدولة والقضاء.

هذا المشهد الغريب لم يكن ليحدث لولا أنّ المصارف تملك سوابق ناجحة، تمكنت من خلالها من إجبار القضاء على التفاهم معها على تنظيمات معيّنة بخصوص طريقة التعامل مع دعاوى وشكاوى المودعين، بما يخالف القوانين المرعيّة الإجراء ويزيد من الغبن اللاحقة بالمودعين. فعلى سبيل المثال، في آذار 2020، ونتيجة اجتماع النائب العام التمييزي غسّان عويدات والنائب العام المالي علي إبراهيم مع جمعيّة المصارف والممثلين القانونيين للمصارف اللبنانيّة، تم الإتفاق على مجموعة من القواعد والتنظيمات التي حددت سقوف معيّنة للسحب لكل مودع، والحالات الاستثنائيّة التي تسمح للمودع بالتحويل إلى الخارج. بمعنى آخر، قرر القضاء يومها الخضوع للمصارف اللبنانيّة، والتسليم بإجراءات تنظيميّة تشبه الكابيتال كونترول، بصورة تشرّع القيود المفروض على المودعين، بخلاف القوانين التي ترعى علاقة المودع مع المصرف. وهكذا، تحوّلت يومها المصارف المدعى عليها إلى طرف مفاوض، يسلّم القضاء بإجراءاتها المفروضة على المُدعي، أي المودع.

الضغط لتحصيل مكاسب في خطة التعافي المالي

المطلوب إذًا، تكرار سيناريو العام 2020، وإعادة تحديد قواعد جديدة لتعامل القضاء مع المصارف، لمصلحة المصارف حكمًا. لكنّ جميع المؤشّرات تدل إلى أن المصارف تستهدف من هذا التصعيد الكبير تحصيل مسائل أخرى، إلى جانب مسألة التفاهم مع عويدات على الإجراءات القضائيّة. 

في الوقت الراهن، تخوض المصارف مفاوضات قاسية مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ونائبه سعادة الشامي، بهدف إدخال تعديلات على خطّة التعافي المالي، بما يتناسب مع مصالح المصارف اللبنانيّة الباحثة عن تقليص الحصّة التي ستتحمّلها من الخسائر. النقاط التي تحاول المصارف فرضها، تتركّز تحديدًا على محاولة الحؤول دون شطب رساميلها بالكامل، كإحدى أبواب التعامل مع الخسائر، مقابل تخصيص جزء من مداخيل الدولة المستقبليّة أو إيرادات المرافق العامّة للتعامل مع هذه الخسائر. مع الإشارة إلى أن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أشار في حديث سابق مع لجنة المال والموازنة إلى وجود محادثات من هذا النوع، في مسعى لتعديل الخطّة وتضمينها فكرة “صندوق التعافي”، الذي سيتولّى سداد جزء من الخسائر من “فوائض الميزانيّة العامّة في المستقبل”.

إلا أنّ مشكلة الشامي وميقاتي تكمن في معارضة صندوق النقد الدولي للأفكار التي تطرحها جمعيّة المصارف في هذه المرحلة، انطلاقًا من إصرار الصندوق على مبدأ “تراتبيّة الحقوق والمطالب”، الذي يفرض تحميل رساميل المصارف أقصى قدر من الخسائر حتّى استنفاذها، قبل تحميل الخسائر لأي طرف آخر. كما يصرّ الصندوق، حتّى هذه اللحظة، على الحد من استعمال الأموال العامّة في عمليّة توزيع الخسائر، للحفاظ على ملاءة الدولة الإئتمانيّة في المستقبل.

هكذا، تحاول جمعيّة المصارف من خلال إضرابها تكثيف الضغط على الحكومة اللبنانيّة، لفرض شروطها في ما يخص خطّة التعافي المالي، في مقابل الضغط المضاد الذي يمارسه صندوق النقد على الحكومة للحؤول دون السير بشروط جمعيّة المصارف. وبذلك، تستعرض المصارف القوّة التفاوضيّة التي تملكها في وجه الحكومة، من جهة قدرتها على فرملة عمليّات التحويل والقطع والتبادلات الماليّة في أي لحظة تقرر فيها فرض الإضراب المصرفي الشامل. مع الإشارة إلى أنّ الجانب المرتبط بعمليّة توزيع الخسائر في خطّة التعافي المالي، ستتم معالجته بالتفصيل في إطار القانون الطارئ لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، والذي تعمل لجنة الرقابة على المصارف على صياغته في هذه المرحلة بالتحديد، ما يشير إلى راهنيّة السجال بخصوص مسار توزيع الخسائر ومستقبل الرساميل المصرفيّة.

التصعيد في مواجهة الضغط الدولي

بالتوازي مع مسألة توزيع الخسائر، وخطّة التعافي المالي، تواجه المصارف اللبنانية ضغطا قاسيا من الجهات الأجنبيّة التي تتابع مآلات الأزمة الماليّة اللبنانيّة، والتي تدفع باتجاه وقف عرقلة اللوبي المصرفي للحلول المطلوبة لإطلاق مسار التعافي المالي. ومن هذه الجهات، البنك الدولي، الذي حرص في آخر تقاريره على الإشارة إلى عمليّة تبديد الودائع بوصفها “نموذج بونزي” صريح، أي عمليّة احتيال ائتماني واضحة المعالم، هدفت للسطو على أموال المودعين. كما حرص التقرير على التأكيد على أنّ ما جرى كان متعمّدًا، مع تصويب واضح على أثر الهندسات الماليّة في تعميق فجوة الخسائر التي أطاحت بأموال المودعين. ثم تطرّق التقرير إلى خلفيّة هذه الهندسات، التي بدأت بمحاولة المصرف المركزي التعويض لبعض المصارف الكبيرة عن الخسائر التي لحقت باستثماراتها في دول أجنبيّة، قبل أن تتوسّع هذه العمليّات وتتسبب بمفاقمة تداعيات الانهيار المصرفي عند حصوله عام 2019. 

هكذا، قرأت المصارف جيّدًا أبعاد هذا التقرير، الذي سيُترجم حكمًا على شكل المزيد من الضغوط على المصارف المتمنّعة عن تحمّل نصيبها من الخسائر، والتي تستمر حتّى اللحظة بالضغط –مع حلفائها السياسيين- لعرقلة جميع متطلبات معالجة الأزمة التي تتعارض مع مصالحها. مع الإشارة إلى أنّ التقرير لحظ انتهازيّة الخطابات السياسيّة التي استغلّت شعار “قدسية الودائع” الأجوف، والذي تمّت إساءة استعماله على نحو غير واقعي على مدى السنتين الماضيتين، لتفادي القبول بالخسائر وتوزيعها على المساهمين في المصارف وكبار الدائنين، الذين حققوا أرباحا ضخمة على مدى الأعوام الثلاثين الماضية. وهنا بالتحديد، كان من الواضح أن تقرير البنك الدولي قد أخذ موقفًا حاسمًا في ما يخص السجال المرتبط بعمليّة توزيع الخسائر، عبر التصويب على موقف الجمعيّة وحلفائها السياسيين الذين استثمروا بشعار “قدسيّة الودائع” على هذا النحو بالتحديد. وبالنسبة إلى البنك الدولي، بحسب التقرير، كان المفترض قبول تحديد هذه الخسائر وتحميلها للمساهمين وكبار الدائنين، مقابل حماية أصحاب الودائع الصغيرة والمتوسّطة بالدولار النقدي، بخلاف طروحات جمعيّة المصارف التي رفضت تحديد الخسائر بشكل صريح لتفادي أي مس برساميلها في المستقبل.

وهنا أيضًا، يمكن فهم الإضراب المستجد على أنّه تصعيد مضاد من جانب جمعيّة المصارف، بعدما استشعرت الضغوط التي تتصاعد باتجاهها، من قبل العديد من الجهات الدوليّة المعنيّة بالملف اللبناني، على أعتاب حسم مسائل أساسيّة في خطّة التعافي المالي. أمّا الهدف، فهو جمع أوراق القوّة واستعراض القدرة التفاوضيّة في مواجهة هذه الضغوط، والحؤول دون تمرير قرارات رسميّة لا تتناسب مع مصالح جمعيّة المصارف.

في خلاصة الأمر، سيكون لبنان أمام حالة تمرّد مصرفيّة في مواجهة القضاء والسلطة التنفيذيّة والجهات الدوليّة معًا، ولغرض حماية مصالح قلّة نافذة ماليًّا وسياسيًا. أما الملفت للنظر، فهو تغاضي السلطة حتّى اللحظة، وإن كانت في مرحلة تصريف الأعمال، عن التعامل مع هذا التمرّد المالي، رغم أثره على مستوى الحركة الماليّة في البلاد، وقدرة القطاعات الاقتصاديّة على الاستيراد والتصدير، بالإضافة إلى تداعياته على مستوى سعر الصرف. وإذا تمكنت جمعيّة المصارف من الوصول إلى تفاهم مع النائب العام التمييزي غسان عويدات، على أصول جديدة لتعامل القضاء مع المصارف، فستكون المصارف قد تمكنت من فرض تنازلات لمصلحتها، على حساب حقوق المودعين وتعامل القضاء اللبناني مع ملفاتهم.

إقرأوا أيضاً: