fbpx

نظرة ثانية إلى حياة الصُوَر الفوتوغرافية المؤْنِسة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

نرى أنفسنا من خارج أنفسنا في الصورة… في صُوَرنا مع أحبائنا وأصدقائنا ما يشي بالخِفَّة والارتياح وبأنَّ الحياة كانت على ما يرام، وأن الحياة أقوى من الموت.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تُعاند صُورنا الفوتوغرافية الخاصة، ذات الطابع الحميم، في البقاء على قيد الحياة حتى بعد موتنا.هي صُورنا وأحباؤنا، التقطناها أو اُلتقطت لنا لتكون شاهداً حياً على مرورنا الأكيد في مسرح الحياة. نلتقطها في محاولة حثيثة لتجميد لحظة من الزمن. لحظة تساوي ثانية واحدة من العمر، تتجمد في إطارٍ من الورق المُقوّى أو في رقاقة ذاكرة رقمية، بحيث يكون لها وافر من الحظ لتستمر الى الأبد. ثانية واحدة تكفي لتقول الكثير، وإن أحسنت النظر إليها فقد تروي قصّتك بأكملها.
نُجمّد اللحظة في صورة نصيغ لها تعليقاً مناسباً، ومن ثمّ نُؤرشف زمن التقاطها ونضعها في اطار أنيق على “درسوار” غرفة الاستقبال أو نُرتبها في “الألبوم” المناسب؛ ألبوم لصُوَر الطفولة وآخر للمراهقة والحب الأول، وآخر للدراسة الجامعية والتخرج، وثمة ألبوم لحفلة العرس وآخر لرحلاتنا السياحية… وقد نُعلّق الصُور على حائطنا الحجري أو الرقمي. نجمع الالبومات في كبسولة… والكبسولة تكون دواء للحنين أو الضجر.
تطرح علينا الصورة الفوتوغرافية على انواعها وأشكالها أسئلتها الكثيرة وتأويلاتها المُتنوعة في علوم الاجتماع والسياسة والتاريخ. إنما ثمة نوع محدد من الصور الفوتوغرافية، يُشكِّل جزءاً من حياة الفرد الخاصة، لا يُكشف للعامة من الناس إلا عندما يأذن صاحبها بذلك او في حال موته، إذْ تؤول صوره إلى الآخرين. لا يُثير هذا النوع من الصور الكثير من الاهتمام، إلاّ إذا كان صاحب الصور شخصية مشهورة لعبت دوراً ما في الحياة العامة. مثلاً صورة أينشتاين يمدُّ لنا لسانه ساخراً.
صحيح أنّ صُوَر المشاهير تحظى باهتمام بالغ لكنها على الأرجح سوف تحظى برواية واحدة على مر الزمن. في حين تحظى الصور الفوتوغرافية الخاصة للأفراد العاديين بروايات متعددة وغير عادية، وتطرح أسئلة استثنائية؛ حول الشغف الكبير بها، والحرص الدائم على التقاطها لأنفسنا ومع أحبائنا في مواضع متنوعة وأماكن مختلفة. ويبرز سؤال آخر يتعلق بمصير هذه الصور بعد الممات؛ ومن سينظر إليها وكيف، وأسئلة كثيرة حول العلاقة المُعقّدة التي قد نُقيمها مع سكان الصُوَر بعد موتهم، فيما هم مواظبون على النظر إلينا من موقعهم في الصورة.

لا تستوي الأجوبة هنا في اتجاه واحد، بل تتشعّب في اتجاهات متناقضة، أكثرها صعوبة قد يكون مرتبطاً بحدثين أساسيين هما الولادة والموت، وما بينهما من ذاكرة متهالكة.
إلا أنني لست واثقاً مما إذا كان يصحُّ ربط الصورة الفوتوغرافية، من النوع الذي ذكرناه بالأسئلة الفلسفية للوجود برمته. أقصد الأسئلة التقليدية ذاتها من نوع لماذا نُولد؟ وما الهدف من هذه الحياة إذا كانت ستنتهي بالموت؟ وماذا بعد الموت؟ أسئلة كفَّ البعض عن طرحها ولاذ بتفسيرات العلوم الحديثة غير المُبرمة، والبعض الآخر ما انفكّ يطرحها مُخفِّفاً قلقه بتصورات ميتافيزيقية حول وجود حياة ثانية بعد الموت.
ولكن في هذا الربط ما يُغري ويشحذ المُخيّلة. فالجميع، على ما أعتقد، يستمر في القلق حول هذه الأسئلة الوجودية وإن بشكل مُستتر وخفي. في حين أنّ الصورة الفوتوغرافية ذات الطابع الخاص والحميم تلعب دوراً في تخفيف شدّة هذا القلق أو ربما تعظيمه، وتبثّ في النفس احياناً طمأنينة واحياناً أُخرى حنيناً مؤنساً.
التأمل في صُورنا الفوتوغرافية القديمة يُشبه إلى حد ما التأثير الذي تُحْدثه في الجسم موسيقى جلسات الاسترخاء لرياضة اليوغا. موسيقى تدور في حلقة صغيرة متكررة وناعسة، لا تشي بأيّ مشاعر فرح أو حُزن، بل تضعنا في منطقة وسطى لا نوم فيها ولا يقظة اكيدين. يبدو لي النظر في تلك الصور شبيهاً بالتحديق في دوائر التنويم المغناطيسيّ، للولوج إلى زمن سرمدي وبعيد لا يُرى إلّا من خلال زجاج صفيق وبارد يفصل بين عالميْن: ماضٍ لم ينقضِ بعدُ من جهة، وحاضر ٍ يتهاوى مع مرور الثواني من جهة أخرى.

أن تنظر بدهشة الى وجهك في الصورة، محاولاً التعرّف إلى شبيهك التام داخلها، مُستذكراً أحواله وشكله، ومُستكشفاً التغييرات التي طرأت عليه بعد السنة الأولى أو الخمسين من زمن حدوثها، قد يُعرضّك لقوة جذب من ثقب أسود يُفضي إلى عالم سحري غرائبي كالرواية. تصير الصورة رواية وسكّان الصورة أبطالها.

ولكن سكان الصور هُم أيضاً يملكون القدرة على النظر والتأمل في صاحبها . فقد يحدث في اللحظة ذاتها أن يتأملك الوجه (وجهك) في الصورة مُبتسماً لك أو مُتهكماً على وجهك (وجهه) الذي صار متهالكاً. وقد تسمعه يقول مُشفقاً عليك: “ها أنت ستموت وتنقضي فيما أنا سأبقى من دونك مُذكّراً الآخرين بك. لا تقلق، فسأكون أنا مستقبلك الذي سيتحدث عن ماضيك… سأكون شبحك وراوي قصتك المثيرة للآخرين، حتى ولوْ كانت جُزءاً صغيراً من الثانية، إلا أنها تكفي…”.

بعد موت أصحابها، تبقى الصورة الفوتوغرافية محبوسة في الخزائن والادراج، تنتظر عيناً فضولية مُتلصلصة لتنظر إليها مُتأملة، ومُجدِّدة حياتها بشكل مستقل عن صاحبها الأصلي. وقد ترتاح الصورة إلى تلك العين الناظرة وتستعيد حكايتها من جديد انما مع كثير من التحوير والتعديل. الصورة والحال هذه، تكون ولّادة لروايات جديدة لا تنتهي.

إقرأوا أيضاً:

Second look نظرة ثانية

في عملهما الفني المشترك وعنوانه “نظرة ثانية” يُظهر الفنانان المسرحيان لينا مجدلاني وربيع مروة حساسية عالية تجاه الصوَر الفوتوغرافية الخاصة بالأفراد، يناقشان عبر عشرة مقاطع من شرائط الفيديو القصيرة علاقتهما بهذا النوع من الصُوَر. مُعظم تلك المقاطع، وليس جميعها، يتشكل من عناصر ثلاثة: صُوَر فوتوغرافية قديمة متحركة، نص مقروء، وموسيقى مُرافِقة.
صحيح أن العمل يرتكز أساساً على الصورة، وليس بالضرورة أن تكون على علاقة شخصية مباشرة بالفنانيْن، إنما يبدو لي أن الهدف من وراء “نظرتهما الثانية” إلى تلك الصوَر الخاصة والغريبة عنهما، هو أن يقُصّا علينا رواية صغيرة تربط بين ذاكرتيْنِ وتاريخيْن: ذاكرة وتاريخ الصورة من جهة وذاكرتيْهما وتاريخهما من جهة اُخرى. ذاكرة جديدة تتشكّل من تبادل النظرات بين الجهتين.
مجدلاني ومروة يؤلفان القصة معاً بشكل مُستقلّ عن بطليْهما اللذيْن بدورهما يسردان القصص بالتناوب من وجهتيّ نظر مختلفتين تتناقضان احياناً، وتتقاربان لتكونا متعاطفتين في أحيان اُخرى.

الراوية لينا في الفيديو رقم 3:

“غالباً ما يتم شراء الصور الفوتوغرافية لأفراد مجهولين. ولكنني دائماً لا أشعر بارتياح لوجودهم حولنا في البيت، أو حتى الرغبة بامتلاكهم، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بمجموعة صُوَر تنتمي إلى شخص بعينه أو العائلة ذاتها. صُوَرٌ كثيرة تختلط في صناديقها أو ألبوماتها العائلية. لا أفهم كيف يُسمح بأن تُباع هذه الصُوَر في السوق ومحال التحف القديمة. شخصياً أرى هذا الفعل عملا عدائياً… ذلك أنني لا أستطيع أن أغضّ النظر أو أتناسى أنه يوماً ما كانت لهؤلاء الأفراد حياة مملوءة بالأسرار والحميمية، والواجب يُملي علينا احترامها… عندما أموت اُريد لصُوري أن تُدفن معي. ولكن المُشكلة هنا هي انّ ربيع يُحب شراء الصُوَر وتجميعها. هو جدياً يعتقد نفسه جامع صُوَر مُحترف! في حين لا اشاركه أنا الاعتقاد ذاته، وحتى إنه ليس بِهاوٍ… في محاولته لإقناعي وتخفيف معارضتي الأمر يقول لي أنه يشتري الصور لإنقاذها من سوء مصيرها. وبما أنني قررت أن أجاريه في أمر هذه الصُوَر، متحررة من تناقض الموقف منهما، أقنعت نفسي بأن وجودها في البيت على الأقل يمنحها الحُب. الحُب ليس للصور إنما لساكنيها… فبطريقة ما اصبحتُ اُحب سكان هذه الصُوَر لأني نظرت إليهم ورأيتهم داخلها…”.

الرواي ربيع في الفيديو رقم 4:

“…في أحد الأيام كنت في السوق الحرّة في برلين. اعجبتني مجموعة من الصُوَر الفوتوغرافية. رغبت بشرائها. وبعدها عدلت، اذْ لم يكُن في جيبي مبلغ المال المطلوب لها. وبينما هممت بمغادرة السوق خائباً، سمعت صوتاً غريباً يناديني. التفتُّ الى الوراء لأفاجأ بشخص في الصورة الفوتوغرافية يتوجّه بالكلام إليَّ قائلاً: “أرجوك لا تتركني هنا…!”، وشرع يُوَجه حديثه لي شخصياً. تكلّم هو كثيراً وبغزارة، إلّا انّ الأمر الوحيد الذي علق في رأسي كانت جملته الأخيرة: “ارجوك انقذني من مصيري المجهول…!”. فكّرت في وُجوب فعل شيء ما، ولكن شعرت بالتردد، ربما لأنني لست الشخص المناسب لهذه المُهمة. فالصورة وصاحبها قد ينتهي مصيرهما كأحد عناصر أعمالي الفنية. قال الرجل في الصورة وكأنه كان يقرأ افكاري: “إسمع، هذا البائع اشتراني في مزايدة علنية ومن ضمن صفقة تضمّنت كل ما املك؛ بيتي وكل وما احتوى من أغراض منزلية وشخصية، حتى صوري الخاصة ورسائلي الحميمة. لذا فمهما كنت فاعلاً بي، وأيّ مصير يكون لي معك، فهو بالتأكيد لن يكون أسوأ حالاً مما أنا فيه الآن… فقط خُذني من هنا ارجوك..!”. نظرت الى البائع الذي كان يتحدث مع صديقه باللغة العربية، وبجانبه يبدو معطف معروض للبيع. وما لفت انتباهي هو انّ المعطف يعود للرجل في الصورة الذي كان ينظر إليّ بعينيه الدامعتين. عُدت إلى البائع سائلاً وباللهجة اللبنانية: “إذا أخذت الصورة والمعطف هل تعطيني سعراً مُخفّضاً؟ هيا يا رجُل فنحن أبناء بلدٍ واحد…” أجابني البائع بسؤال مُفاجئ : “من ايّ منطقة انت في لبنان…؟”. ترددت قبل الإجابة، اذْ كنت أعرف أن الإجابة ستؤثر حتماً في قراره النهائي. الطائفية اللبنانية تلاحقنا حتى هنا في برلين… على ايّ حال تمت الصفقة وحصلت في النهاية على مجموعة الصُوَر والمعطف معاً. وهكذا انتقلت الصُوَر لتعيش معي في البيت أمّا المعطف فكان من نصيب أحد الأصدقاء.”

الراوية لينا في الفيديو رقم 6:

“… عندما أموت اريد لصُوري كلها ان تُرمى بعيداً؛ كل أوراقي الشخصية ورسائلي، وكمبيوتري المحمول حتى الذاكرة الرقمية التي اُخبئ فيها أموري الشخصية جداً. اُريد لكل هذا أن يُرمى في البحر. هناك حيث يجب ان ترقد بسلام! ليس على الناس ان يكشفوا اسرارهم وقصصهم الشخصية للعموم، انّما يجب إيداعها في “الأزرق الكبير”. هناك في البحر حيث لا تطفو الأسرار إنما تغرق الى الأعماق. القشور فقط وبعض التفاهات تبقى على السطح.
امّا الاسرار الحقيقية التي تستقر في البحر عميقاً فتحتاج إلى صياد حقيقي يغطس بمهارة ليلتقطها. مثل هؤلاء، لحُسن الحظ، قلائل. لهذا فالبحر ما زال مملوءاً بالأسرار. هكذا كان ودوماً سيظل…”

يشكل الراويان في مقاطع الفيديو العشرة سردية مُتصلة أو مُنفصلة أحياناً، متناقضة او متوافقة احياناً أخرى، وانْ كان بعضها مؤلفاً فقط على شكل صور ٍ مبعثرة ترافقها موسيقى من دون كلام، ما يجعل العمل الفني برمته يرقى إلى نوع من الروايات القصيرة، غير المُنتهية، بل المفتوحة على سرديات مُحتملة.

لماذا نلتقط الصُوَر؟

في التقاط الصُوَر نوع من التحايل على الزمن. نلتقطها كيْ نستعيد الماضي من شرفة الحاضر لنأمل بمستقبل أجمل نعرف أنه وهمٌ لا محالة. نلتقط الصوَر لنتذكّر ونستعيد الذكرى وقد يستعيدها آخرون من بعدنا.

نرى أنفسنا من خارج أنفسنا في الصورة. نتفحّصها كأننا نرى شخصاً للمرة الأولى، فنشعر بالرضا حول أمر ما أو ننزعج من فروقاتٍ أضافها الزمن على أجسامنا ولكن في النهاية نعود لندخل الى الخارج، مُتَحَسّرين على المرور السريع للزمن.

في صُوَرنا مع أحبائنا وأصدقائنا في الأماكن البعيدة والقريبة ما يشي بالخِفَّة والارتياح وبأنَّ الحياة كانت على ما يرام. في صُوَرنا الفوتوغرافية نوع من انتصار الحياة على الموت.

*”Second Look”, short videos of 10 episodes by Lina Majdalani & Rabih Mroue, commissioned by Steirischer Herbst Festival Graz / Austria for the the Paranoia TV program 2020

إقرأوا أيضاً:

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 28.03.2024

العرقوب اللبناني بين “فتح لاند” و”حماس لاند”

الوقائع التي تشهدها المناطق الحدودية اللبنانية عززت التشابه بين "فتح لاند" و"حماس لاند"، فبينما كانت الهبارية تتعرض لغارات الطائرات الإسرائيلية التي قتلت على نحو متعمد تسعة مسعفين، كان أهالي بلدة رميش المسيحية يقرعون أجراس كنائسهم احتجاجاً على تمركز حزب الله على إحدى التلال في بلدتهم!