fbpx

فرار من الطبقة الرابعة تحت الأرض…
السجون اللبنانية حيث الطعام رديء والطبابة بـ”الفريش” دولار

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تمكّن 31 سجيناً لبنانياً من الفرار من الطبقة الرابعة تحت الأرض. هناك يُحشر الموقوفون في غرفٍ صغيرة وسط غيابٍ تام للتهوية والتبريد أو التدفئة، يُنادى السجناء بأرقامٍ لا بأسماء، وصوت السيارات والضجيج لا يُفارق المشهد. القوى الأمنية أعلنت فتح تحقيق، وإلى حين صدور نتائجه -هذا إذا صدرت- قد تكون عملية الفرار تلك مجرّد محاولة نجحت بسبب فشل كل ما يُحيط بها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“فوضى ورشاوى كتير واللي بيدفع أكثر بيكون الزعيم… هربنا من اللي شفناه من الجوع والعطش…”، يقول أحد الفارين من نظارة قصر العدل في اتصالٍ هاتفي مع إحدى القنوات التلفزيونية. 

قبل اتصاله، علّق أبو رمو تلاوي، كما سمى نفسه على “فيسبوك”، على منشورٍ عن فرار سجناء من سجنٍ في لبنان. كتب تلاوي بكل صراحة، “والله العظيم أنا واحد منهم وهيني بالبيت عند أهلي”.  

يكاد يكون اتصال فارٍ من العدالة على قناة يشاهدها الملايين بعد ساعاتٍ قليلة من هربه، أو كتابة تعليق يُثبت فيه هربه ويعلن عن مكانه، أقرب إلى نكتةٍ أو ضربٍ من الخيال، لكن ذلك حصل في لبنان، البلد المفلس اقتصادياً وأمنياً. فتلاوي، تحدّث بكل أريحية وأخبر تفاصيل هربه و30 آخرين علناً. أخبرنا تلاوي أنهم يخططون لرحلة الهرب منذ شهرين تقريباً، وأنهم استخدموا آلة حادة لإزالة القضبان الحديدية مستغلين تغيّب رجال الأمن، “كانوا يطلّوا علينا كل ساعتين أو تلاتة”، يقول. وأخيراً أخبرنا بأنه تحرّر واستقلّ حافلة وغادر، هكذا بكل بساطة. ثم ختم تلاوي، “الحمد لله ما حدا منا انلقط، نحنا كلنا بعدنا عم نتواصل مع بعض”. 

ضرب الخيال هذا، بما يحمل من حقيقة تعكس الانهيار اللبناني، يُرجّح فرضيتين، إما أن السجناء اشتروا سكوت القوى الأمنية، لا سيما أن صورة الانهيار تتجسد بعناصر الأسلاك العسكرية الذين لا يتعدى راتب الواحد منهم 60 دولار، أو أن تراخي تلك القوى وهوانها بأداء عملها، وهو انعكاس طبيعي لما يساويه راتبها، مهّد الطريق أمام السجناء للهرب بمساعدة يد خارجية. في الحالتين، عملية الهرب تلك، تطرح أسئلة حول كيفية حدوثها وأسباب نجاحها، خصوصاً أن السجناء نُقلوا إلى تلك النظارة  قبل أيام قليلة فقط، وفق المعطيات الأولية، ما يعني أنه أنهم يفترض ألا يكونوا على دراية بتفاصيل المكان للتخطيط للهرب منه.

في التفاصيل الأولية، نفّذ سجناء، متهمون بجرائم عادية غير خطرة معظمها جنح، خطة شديدة الإحكام، وتخطوا فجر الأحد حواجز المكان بواسطة آلات حادة. أحدثوا بالحوائط الاسمنتية فجوات، لاذوا عبرها بالفرار باتجاهات غير معروفة، علماً أن السجن الذي يقع تحت الأرض، وهو نظارة توقيف لغير المحكومين، يتوسّط منطقة تشهد كثافة في انتشار العناصر الأمنية، وهو محاذٍ لمقرّ الأمن العام، إضافة إلى مفارز قوى الأمن الداخلي. القوى نفسها التي أعلنت بخبرٍ مقتضب الآتي: “تمكّن 31 موقوفاً من الفرار تحت جسر قصر عدل بيروت، وأعطيت الأوامر الفورية لتوقيفهم، والتحقيق جارٍ بإشراف القضاء المختص”. 

“تمنّى كل واحد منّا أن يكون مكانهم”

“تمنّى كل واحد منّا أن يكون مكانهم…”، هكذا ردّ أحد سجناء روميه، أسوأ سجن في لبنان وأكثره اكتظاظاً، عندما سألناه عن تعليقه على عملية الهرب الأخيرة. 

يشرح الشاب لـ”درج” تدهور الوضع المتواصل داخل سجنه منذ 2019، لا سيما في ما يتعلق بنوعية الطعام وكميته والوضع الصحي. يروي السجين أن الأمر بدأ بإلغاء اللحمة من الطعام وتقليص كميات بقية الأصناف إلى النصف، هذا عدا تدنّي جودة الطعام. “صار يوصلنا أكل الفئران ما بتاكلوا، أغلب الناس بتنام بلا أكل هون”، يقول الأخير.  

أما عن الواقع الطبي، فيخبرنا الشاب أن العلاج أصبح مسؤولية السجين نفسه، وإدارة السجن لا تتكفّل بتأمين أي دواء، هذا عدا العمليات الجراحية والصور الطبية. “ما بيدخلوا حدا المستشفى حتى لو كان عم يموت، إلا إذا دفعوا أهله المصاري”، يقول، “ما بيقبلوا إلا فريش دولار”. 

توازياً، تواصل السلطات السياسية والأمنية إنكار سوء الأوضاع داخل السجون والنظارات اللبنانية، التي تفتقر للحدّ الأدنى من المقومات الإنسانية من غذاء وطبابة ورعاية، وتشهد اكتظاظاً غير مسبوق تاريخياً، لا سيما مع البطء الشديد في المحاكمات. كما يحذّر معظم السجناء في لبنان بانتفاضة مرتقبة خلف القضبان، لعدم تحمّلهم هذا الحرمان من مختلف الحقوق الأساسية. وقد يستفيد هؤلاء من حالة التململ لدى عناصر القوى الأمنية الذين يعانون أيضاً اقتصادياً ومعيشياً. 

“نظارة تحت رابع طبقة من الأرض بلا تهوية ولا ضوء”

“هذه النظارة التي تقع تحت جسرٍ لا تسمّى نظارة، إنها عار على القضاء اللبناني وعلى القوى الأمنية، هذا السجن هو إهانة وتعذيب للموقوفين كما للعناصر الأمنية”، يقول الناشط الحقوقي ومدير “المركز الإنمائي لحقوق الإنسان” وديع الأسمر واصفاً نظارة قصر العدل في بيروت. ثم يُضيف، “برأيي من حق أي شخص موقوف في تلك النظارة أن يُقاضي الدولة، الوضع مزرٍ هناك ويجب ألا يمكث أي شخص فيه مهما كانت تهمته”. 

عمِل الأسمر على توثيق وضع السجون الـ23 في لبنان، وهو يؤكّد أن توصيات المركز ما زالت على حالها منذ عام 2011 حتى اليوم. إذ لم يتحسّن الوضع، لا بل ازداد سوءاً لا سيما مع الانهيار الاقتصادي في السنوات الثلاث الأخيرة. لكن اللافت أن نظارة قصر العدل، تلك التي شهدت عملية فرار مُحكمة في الأيام الماضية، تُعتبر من الأسوأ. 

يقول الأسمر لـ”درج”، “تلك النظارة كانت تُستخدم مركزاً لتوقيف الأجانب قبل ترحيلهم. وقد شهدت المنطقة احتجاجات قادها الأسمر برفقة حقوقيين وأمنيين أيضاً، اعتراضاً على  انتهاك حقوق الإنسان في تلك النظارة وعلى أي تمويل يصلها. بعد 7 سنوات من النضال، أُقفلت نظارة قصر العدل ونُقل الموقوفون إلى سجنٍ آخر، إلا أنه أُعيد فتحها بعد سنتين تقريباً”. 

في فيلم Panoptic للمخرجة اللبنانية رنا عيد، تشعر بأنك جزء من هذا العالم الرديء في الطبقة الرابعة تحت جسر في وسط بيروت. هناك يحشر الموقوفون في غرف صغيرة وسط غيابٍ تام للتهوية والتبريد أو التدفئة، يُنادى السجناء بأرقامٍ لا بأسماء، وصوت السيارات والضجيج لا يُفارق المشهد. وعلى رغم واقعية الفيلم الذي أطلق عام 2018، إلا أن السلطات اللبنانية مارست رقابتها عليه، فأجبرت عيد على حذف جملة منه وهي “يموتون تحت الأرض ولا يحاكمون”، لكن الأخيرة رفضت وعليه لم يُشارك الفيلم في مهرجانات عدة في لبنان، لكنه اليوم مُتاح على “نتفلكس”. 

هذه ليست المرة الأولى التي يشهد فيها لبنان عمليات فرار سجناء وموقوفين. ففي العامين الماضيين، سُجلت عمليتا فرار، الأولى من نظارة زحلة (البقاع)، والثانية من نظارة بعبدا (جبل لبنان). غير أنّ ذلك يُعدّ نتيجة حتميّة للاكتظاظ بالدرجة الأولى، ولتدهور أبسط الخدمات والحقوق في السجون، ثانياً. 

وفق الأسمر، فإن مشكلة الاكتظاظ قد تُعالج ببساطة من خلال عدم الإسراف باستخدام المادة 108 للتوقيف الاحتياطي، واحترام المهل القانونية وتسريع المحاكمات. قد تكون تلك الآليات باباً لتخفيف الضغط داخل الزنازين، خصوصاً أن عدد العناصر الأمنية هناك انخفض مع فرار بعضهم أو تقليص أيام خدمة البعض الآخر. وإلى حين صدور نتائج التحقيق -هذا إذا صدرت- قد تكون عملية الفرار تلك مجرّد محاولة نجحت بسبب فشل كل ما يُحيط بها.   

إقرأوا أيضاً: