fbpx

عندما تصبح سوريا ملك الآخرين… ماذا يبقى لنا؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بدأ الحضور يتململ وكنا نحاول أن ننادي مدير المطعم لكنه اختفى ثم ظهر فجأة مع الندلاء الذين كانوا يوزعون صحون العشاء على طاولة “الشريك” الروسي. عندما طلبنا منه أن ينبّه الرجال إلى أصواتهم أجابنا: سوف يتناولون عشاءهم الآن وبالتأكيد سيتوقف الغناء.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في دمشق اليوم عوالم متوازية تعيش جنباً إلى جنب. نكتشفها مصادفة. لا أحد يتكلّم عنها علناً. الجميع يعلم أنها موجودة بقربنا وأنّها تهديد صريح لهويتنا ولكننا عاجزون عن الكلام، عاجزون عن الصراخ وعاجزون عن الأفعال.


المشهد رقم واحد


اجتمعنا على فنجان قهوة في حديقة أحد الفنادق في دمشق. اخترنا الطاولة نفسها التي كنا نجتمع حولها منذ أربعين عاماً. إنه تقليدنا السنوي كل صيف، بعدما تفرقنا واضطررنا للسفر في أزمنة متباعدة. نجتمع لنستعيد ذكرياتنا المشتركة ونتبادل أخبار أسرنا ومن بقي في البلاد ومن رحل.
كان لاجتماعنا هذا العام مذاق خاص، لأن الحرب وظروف الحظر بسبب الوباء منعتنا من الاجتماع لثلاثة أعوام متتالية. كان طقس الأمسية الصيفية مثالياً وبدأ جو اللقاء يصبح أكثر حميمية بسبب أخبار أبنائنا وبناتنا في الخارج، ولم يخلُ الأمر من بعض الدموع لخبر حزين وآخر سار. نحن نساء اعتدنا على ذرف الدموع بكل الأحوال.
ثم دخلت مجموعة من الرجال بصخب واضح شغلت طاولة من 12 كرسياً مجاورة لنا. كان الرجال الشقر ينظرون إلى المكان باستعلاء ويضحكون بأصوات عالية.
في البدء ساد بيننا جو من المرح ونحن نتبادل نظرات التهكم حول “شريكنا” الروسي. ثم طلب الرجال الفودكا ومضت نصف ساعة سريعة صار الموقف فيها لا يطاق. بدأت أصوات الرجال تعلو وصارت الضحكات تشبه خلفية صوتية لنادٍ ليلي من الدرجة العاشرة. سكت حوارنا تماماً لأن صوتنا لم يعد مسموعاً. ثم توجه أحد الرجال إلى الخارج وعاد بجهاز أوكورديون وصفق أفراد الوفد بحماسة، وبدأ العزف والغناء الجماعي. الفرقة المكونة من شاب وفتاة، والتي كانت تعزف في الركن القصيّ أغاني من الزمن الجميل، صمتت أيضاً.
بدأ الحضور يتململ وكنا نحاول أن ننادي مدير المطعم لكنه اختفى ثم ظهر فجأة مع الندلاء الذين كانوا يوزعون صحون العشاء على طاولة “الشريك” الروسي. عندما طلبنا منه أن ينبّه الرجال إلى أصواتهم أجابنا: سوف يتناولون عشاءهم الآن وبالتأكيد سيتوقف الغناء.
الفرقة الموسيقية انتظرت قليلاً ثم غادرت. والغناء لم يتوقف بسبب العشاء بل ازداد صخباً وحدّة.
لماذا لا نستطيع أن نرفع صوتنا في وجه مجموعة تتصرّف بوقاحة وكأن لها حقوقاً على هذا المكان؟ لأن اليد العليا في هذه البلاد لم تعد لأصحابها الذين يتلقون الصفعات مقابل الاحتفاظ بحياة غير كريمة.
عندما لا يكون لك صوت مسموع في وطنك، من الأفضل أن تغادر.


مشهد رقم اثنان


بعدما دعونا أصدقاءنا إلى عشاء في أحد مطاعم “باب شرقي” حاول زوجي أن يغيّر طريق عودته إلى البيت. قال: أنا ابن الشام سوف أصل إلى باب توما عبر الحواري. في الليل لا ازدحام. صديقتي شجعّته وقالت له أنا أرشدك، وانطلقنا. بعد محاولات عدة إلى اليمين ثم إلى اليسار في حارات دمشق القديمة ومع عدم تمكننا من قراءة أسماء الزواريب بسبب انعدام الكهرباء عرفنا أننا ضعنا بالتأكيد. وجدنا أنفسنا في ساحة ضيّقة معتمة. كانت هناك دكّانة مفتوحة بضوء أبيض باهت. نزلت مع صديقتي لنسأل صاحبها عن الاتجاهات. لفت نظري اسم الدكان ولم أتمكن من قراءته، عزوت الأمر إلى سوء الإضاءة. كان الرجل في الداخل لا يتكلّم العربية. ووسط دهشتنا عدنا بسرعة الى السيارة. وركبنا وطلبنا من زوجي أن يجد مخرجاً بعيداً من هنا.
لماذا لم نسأل أحداً عن هذه المغامرة الليلية؟ لماذا لا نرفع صوتنا لنفهم: من هؤلاء؟
لأننا نعرفهم. نعرف أن هذه الأرض تُباع كل يوم قسراً لقاء لقمة عيش ساكنيها.
عندما لا يتكلم الساكنون اللغة العربية في وسط دمشق القديمة، فمن الأفضل أن تغادر.


مشهد رقم ثلاثة


صديقتي تريد أن تصلّي في المسجد الأموي الكبير قبل السفر. رافقتها. جلنا في سوق “مدحت باشا” ثم تناولنا صحن فول على الرصيف في القيمرية بعدما اشترينا الخبز الساخن من الفرن القديم. شربنا الشاي في مقهى “النوفرة” وانتظرنا صلاة الظهر. استمعنا إلى أذان الأموي الشهير وهو ينطلق من المآذن السبع باتّجاه حارات الشام. ترحمنا على أمواتنا وتذكرنا جداتنا وضحكنا. ها نحن نعيد ما كنّ يفعلنه بالضبط. ثم أتممنا وضوءنا وتوجهنا نحو المسجد.
وما إن دخلنا حتى شعرنا بحركة مفاجئة وصخب وراءنا ودخلت نساء بثياب سود ورجال كثيرون وعلى رغم أن صحن المسجد واسع جداً فقد شعرنا باختناق. وما إن وصل الرجال والنساء إلى وجهتهم بدأت لطمية من أحد المقامات تعلو أصواتها. انسحبت مع صديقتي، ولم نعد نرغب في إتمام صلاتنا. أحسسنا بالغربة وبالرهبة. وقررنا أنه آن أوان الرحيل. لا يمكننا أن نعتاد على شعائر جديدة وقد تجاوزنا الستين، وبغضّ النظر عن تفاصيل “تعصّبنا” لطائفتنا، لم يكن الجامع في تاريخه الذي نذكره موقعاً مناسباً للّطم.
عندما تشعر بالخوف في باحة الجامع الأموي الكبير، من الأفضل أن تغادر.
مهلاً… ليس من الأفضل أن تغادر.
سيشغل فراغك الأغراب الذين أدخلوا قسراً، سيهدمون الأسوار، سيغيّرون الأقفال ويصبح المكان ملكهم.
أيها المغادرون… لا تتركوا أرض أجدادكم فالأرض لا يحرسها إلا أصحابها.
أيها المغادرون… لا تلوموا أحداً على تغيير معالم مدينتكم… فقد اخترتم رفاهيتكم. والبقاء للأكثر صلابة.

إقرأوا أيضاً: