fbpx

طعن سلمان رشدي: فتوى الخميني حية تُرزق

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الفتوى لا تزال حيّة “ترزق”، وتعتاش على من “يرزقونها” ويرفدونها بالتحريض والاحتفاء بالقتل والتصفية الجسدية رداً على السرد الروائي. يواجهون الأدب بالطعن بالسكاكين وبالعبوات الناسفة. ولا يزال سلمان رشدي هكذا، يواجههم “بلا مخلب ولا إبرة ولا شوكة”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]


“ربنا، سبحانه وتعالى، أعطى لكل مخلوق شيئاً يحمي به نفسه. أعطى البقرة قرنين لتنطح بهما كل من يأتي ليؤذيها. وأعطى النحلة إبرتها التي تؤلم حتى أكبر الأجسام. وأعطى القطّة مخالب، والجروة أنياباً… الله سبحانه أعطى لكل مخلوق من مخلوقاته شيئاً يحمي به نفسه، إلا أنا، فقد خلقني هكذا بلا مخلب ولا إبرة ولا شوكة”، أستعير هذا المقطع من الروائي اللبناني حسن داوود، تحديداً من روايته “لعب حي البياض”، كمدخل للحديث عن الروائي البريطاني من أصل هندي سلمان رشدي، بعد أن تعرّض لمحاولة اغتيال عبر طعنه في عنقه خلال مشاركته في ندوة في مدينة نيويورك. 

الروائي البريطاني سلمان رشدي

أستعير هذا المقطع، لأنه صادر عن روائي، ولأن فيه ما ينطبق على رشدي. فهو رجل مسالم، “بلا مخلب ولا إبرة ولا شوكة”. روائي يوظّف الخيال في تفكيك شخصيات “أرضية” في سياقات روائية يتداخل فيها الخيال بالواقع. ولا يحمل مشروعاً لتغيير العالم بالقوة، وهو شخص لا يُؤمن بالعنف ولا يمارسه ولا ينادي به أو يحرّض عليه. الروائيون عادة، ميّالون إلى اختراع عوالمهم الخاصة، على الورق. قد ينتمي بعضهم إلى مشاريع ثقافية أو إيديولوجية او سياسية أو تنظيرية، لكن كتاباتهم الروائية، كما هو متعارف عليه، تبقى دائماً متصلة بالخيال، وإلا انتفت عنهم صفة الروائيين، وصاروا مؤرخين أو فلاسفة او منظّرين. 

ويحتمل أن يجمع الروائي، إلى كتابة الروايات، عمله في التأريخ او الفلسفة أو علم الاجتماع أو السياسة. لكن يبقى من المتعارف عليه، أن لا يحاسب الروائيون على سياقات أعمالهم الروائية، التي لا تخلو من خيال، ولا تركن بشكل صريح إلى واقع. تتأرجح غالبية الروايات، حتى المستندة منها إلى أحداث تاريخية، بين حبليّ الخيال والواقع، ويجب، في منطق الرواية، كما يفهمه كل من يقدّر الأعمال الروائية، أن يكون الروائي في مأمن في حال وقع عن الحبلين أثناء تأرجحه عليهما، وأن لا يؤدي “سقوطه” إلى أذيته. 

وسلمان رشدي روائي بكل ما للكلمة من معنى. جميع أعماله تصنّف ضمن هذا الباب. وقد فاز بجائزة بوكر الأدبية عن روايته الشهيرة “أطفال منتصف الليل”، قبل صدور روايته الأشهر “آيات شيطانية” والتي قلبت حياة الروائي المسالم، والمجرّد من أي مخلب أو إبرة أو شوكة، رأساً على عقب. كان يمكن لـ”أطفال منتصف الليل” أن تفعل الفعل نفسه، لو تعامل أحد ممن قرأوها مع أحداثها على أنها تلاعب بالتاريخ أو سخرية من “مقدسات”، وشعر بالإهانة. وقد يكون هناك فعلاً من شعر بالإهانة من “أطفال منتصف الليل”، أو من “العار”، لكن لم يتسن لهؤلاء القراء “المُهانين” أن يخرج من يدعم شعورهم بالإهانة، بمنطق انتقامي وعقابي تجاه روائي كتب سيرة سياسية معجونة بالخيال أو السخرية. 

لم يتأمن في جميع أعمال رشدي، المبنية على ما يسمى بـ”الواقعية السحرية”، من يحوّل عدم إعجابه برواية، واعتبارها تمسّ بـ”مقدساته”، إلى مدخل للإفتاء بقتله، كما فعل المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في إيران روح الله الخميني.

الخميني أصدر الفتوى، كما بات مؤكداً، قبل قراءة الرواية، تأثراً بجو غاضب راح يكبر ككرة ثلج متدحرجة، بدأت من الهند، حيث أصول رشدي، ووصلت إلى العالم العربي الإسلامي، واستقرت عند الخميني الذي عرف ممن أخبروه عن مضمون الرواية أنها تحمل إهانة لنساء النبي محمد (تحديداً السيدة عائشة) وأن هناك شخصية فيها يبدو أن صفاتها تنطبق على الخميني نفسه، وأن رشدي يتناوله بالسخرية والنقد ضمنياً عبر تفكيك هذه الشخصية (يسمّيها في الرواية الإمام) ويصوّرها رشدي على أنها لاجئة إلى الغرب وتعيش فيه وتخطط للثورة منه وفي الآن عينه معادية للغرب.

أصدر الخميني فتوى بقتله وقتل كل من شارك في إنتاج الرواية ونشرها. هكذا ببساطة، وبسبب كلام مكتوب، في سياق أدبي مشبّع بالخيال، يجد روائي نفسه مطارداً ودمه مهدوراً، وحياته في خطر دائم، حتى تمكّن منه احد المتشددين المتأثرين بالفتوى وطعنه في رقبته بعد أكثر من ثلاثين عاماً على صدور الفتوى، وأكثر من ثلاثين عاماً على وفاة صاحب الفتوى (توفي الخميني في العام نفسه بعد شهور من إصداره الفتوى التي بقيت حيّة بعد وفاته). 

المفارقة أن حدثاً كهذا، أي أن يحاول شخص متأثر بفتوى قتل رجل هُدر دمه قبل أكثر من ثلاثين عاماً، يبدو أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع. ويبدو، لشدّة “سورياليته”، مادة روائية بامتياز. ولو أراد رشدي نفسه أن يخترع عالماً يقوم به شخص بتنفيذ فتوى قتل روائي بسبب روايته بعد أكثر من ثلاثين عاماً، لما وفّق في اجتراح “واقعية سحرية” كالتي عاشها هو نفسه، خصوصاً أن الفتوى لم تكن ابداً لفظية أو في سياق التهديد غير المقرون بالتنفيذ، بل تعرض رشدي لمحاولات اغتيال عديدة، كما قتل مترجم “آيات شيطانية” إلى اليابانية، وحاول متشددون إسلاميون قتل مترجمها إلى التركية وناشرها في النرويج. ويمكن تخيل مدى الخوف والقلق الذين عايشهما رشدي خلال عقود. 

١

وهو قد قام حقاً بإصدار كتاب بعنوان “جوزف انطون”(أقرب إلى المذكّرات) استناداً إلى السنوات التي عاشها متخفياً ومطارداً من ملايين المسلمين، من الشيعة والسنة، الذين يحملون تكليفاً دينياً أصدره الخميني بقتله. وحالة سلمان رشدي قد تكون من الحالات النادرة التي “يتفق” فيها السنة والشيعة على أمر، وهو اتفاق يأتي في سياق المنافسة بينهما، وقد سبق الخميني السعودية آنذاك إلى إصدار الفتوى بهدر دم رشدي، التي كانت ستتكفل بالمهمة لو لم يبادر إليها الخميني، في سياق حربهما “من أجل السيادة الثقافية”، كما تقول الكاتبة الصحافية كيم غطاس في كتابها “الموجة السوداء: المملكة العربية السعودية، وإيران، والصراع الذي دام أربعين عاماً، والذي كشف خفايا الثقافة والدين والذاكرة الجماعية في الشرق الأوسط”.

من نافل القول، إن السياق الروائي، حتى لو استند إلى أحداث تاريخية، يبقى روائياً، وإن كان يمتّ إلى الواقع بصلات. ولا تمكن، في المعايير العلمية والأكاديمية، محاكمة رواية من منظور تاريخي أو سياسي. يمكن طبعاً قراءتها على ضوء هذين المنظورين، لكن لا يمكن الحكم عليها، بأدوات علمية. ولهذا، هناك نسبية في التعاطي مع النصوص الأدبية، فكثيرون قد يحبون أعمال رشدي ويستمتعون بقرائتها، وكثيرون قد لا يعجبون بما يكتبه الرجل. ولهؤلاء الحق في عدم قراءته، أو نقده والإعلان عن أسبابهم لعدم إعجابهم بما يقدمه. وهذا يقع في باب النقد الأدبي. ويمكن أن يغضب قارئ، وهو يقرأ رواية، ويشعر أنها تشوّه تاريخه أو تستهزأ بـ”مقدساته”، ويمكن له ببساطة أن يرميها في سلة المهملات ويكمل حياته. يمكنه أيضاً أن يكتب ما هو أقسى من النقد والسخرية بحقّ الرواية وكاتبها، وسيجد طبعاً من ينشر له رأيه. ورأيه هذا سيكون موضع نقد وسخرية، وهكذا دواليك… هذه يفترض أن تكون الحال في وضع “طبيعي”، حينما لا يكون الرأي وصاحبه مصدر أذى فعلي، وحينما لا يكون الروائي مسلّحاً، ولا يكون “مقدّساً”، كما هي حال سلمان رشدي. ولا أعتقد أن رشدي منع أحداً، أو ضغط في اتجاه منع أحد من تناول أعماله بقسوة وسخرية وتجريح. لا يمتلك رشدي آليات قمع، ولا جيشاً ولا ميليشيا مسلّحة، وواضح انه لا يمتلك آليات دفاع عن النفس ولم يكن مسلحاً حينما هاجمه المجرم المتشدد بسكّين وطعنه في عنقه. 

لم نسمع أبداً عن دعوات إلى القتل باسم سلمان رشدي أو باسم “آيات شيطانية”، ولا دعوات إلى تقديس رشدي أو رفعه إلى مصاف الآلهة. لكننا ظللنا نسمع لسنوات طوال تحريضاً على المنابر بضرورة تنفيذ فتوى الخميني بحق رشدي، إحداها كانت من أمين عام “حزب الله” حسن نصرالله في العام 2006 على خلفية الرسوم كاريكاتورية نشرتها صحيفة دنماركية تناولت النبي محمد. و”حزب الله” يعتبر نفسه معنياً، بشكل مباشر، بتنفيذ فتوى الخميني، ولو أنه في مواضع أخرى يدّعي محاربة التطرف و”الداعشية”. وقد أقدم لبناني، يدعى مصطفى مازح، ينتمي إلى الحزب في العام 1989 على محاولة اغتيال رشدي في لندن، لكن خطأً تقنياً جعل العبوة التي كان قد جهّزها في كتاب تنفجر فيه وتقتله. وقد استعاد موقع “المنار” التابع لـ”حزب الله” محاولة الاغتيال، ضمن خبر طعن رشدي في نيويورك، مطلقاً على مازح لقب “الشهيد”. 

الفتوى إذاً لا تزال حيّة “ترزق”، وتعتاش على من “يرزقونها” ويرفدونها بالتحريض والاحتفاء بالقتل والتصفية الجسدية رداً على السرد الروائي. يواجهون الأدب بالطعن بالسكاكين وبالعبوات الناسفة. ولا يزال سلمان رشدي هكذا، يواجههم “بلا مخلب ولا إبرة ولا شوكة”.

إقرأوا أيضاً: