fbpx

سلمان رشدي من شرفة زنزانتي في صيدنايا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم يمتْ سلمان رشدي، بل هو في طريقه للتعافي. ربما سيفقد واحدة من عينيه، وربما سيغدو بطيء الحركة والتفكير، ولكنه لم يمت. ما مات هو على الأرجح وعي وكرامة رجل قد قادته عقيدته العمياء أو ربما مبلغ من المال أو كلاهما لكي يعتدي بوحشية على رجل لا يعرفه، ولعلّه لم يقرأ له أياً من كتبه.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

عندما صدرت رواية سلمان رشدي “الآيات الشيطانية”، كنت في سجن صيدنايا، أمضي الشطر الأخير من السنوات العشر التي أمضيتها في سجون حافظ الأسد. كنت قد قرأت له في السجن روايتي “العار” و”أطفال منتصف الليل”، ولم اُفتن بهما. بعد صدور الرواية بأقلّ من عام أصدر زعيم الثورة الإيرانية آية الله الخميني فتواه المريعة بهدر دم رشدي. ودار نقاش بين الرفاق في الزنزانة حول الرواية والفتوى. وسأل أحدهم “لمَ يجابه الخميني الكلمة بالرصاصة؟” وسارع آخر إلى الجواب: لأن الكلمة أيضا قوّة، والمتعصّب دينياً يعرف أنه لا يملك الحجة لمقارعة الحجة، فيلجأ إلى قوة أخرى – العنف والإرهاب. 

وكان على سلمان رشدي أن يعيش تحت وطأة التهديد بسبب كتاباته، وأُجبر على الاختباء بعد صدور الفتوى. وكان في البداية يعتقد أن الأمر لن يطول سوى بضعة أيام أو أسابيع، كما يقول هو نفسه في مذكراته التي كتبها باسم جوزيف أنطون. ولكن الأسابيع استمرّت عقوداً، حتى انتهت أخيراً بإصابته فيما كاد يكون مقتله. ويبدو أنه عاش الفترة الأولى من حقبة فتوى الخميني مشوّش الفكر، وامتدّ الأمر به قرابة عقد من السنوات قبل أن تتّضح مواقفه. وبدأ بمحاولة لتخفيف حدّة الأمر فأصدر ما يشبه الاعتذار من المسلمين الذين استنفروا بعد فتوى الخميني، قال فيه “أدرك بصفتي مؤلف كتاب الآيات الشيطانية، أن المسلمين في أجزاء كثيرة من العالم يشعرون بضيق حقيقي من نشر روايتي. إنني آسف بشدة للقلق الذي أحدثه النشر لأتباع الإسلام المخلصين. إننا عيش في عالم فيه العديد من الأديان، وقد ساعدتنا هذه التجربة على تذكّر أن علينا جميعا أن ندرك حساسيات الآخرين”. ثم انتهى الأمر إلى أن يغدو صوتاً قوياً ومدافعاً لا يلين عن حرية التعبير الفني.

ويوم الجمعة الماضي، كان رشدي في معهد تشوتوكوا في غرب نيويورك، على وشك الخوض في واحد من المواضيع التي ترتبط بهذه الفكرة، عندما قفز إلى خشبة المسرح رجل في مقتبل العمر، من أصل لبناني، وراح يكيل للرجل المسنّ طعنات أرادها أن تكون قاتلة في الوجه والعنق والبطن. لم يمتْ سلمان رشدي، بل هو في طريقه للتعافي. ربما سيفقد واحدة من عينيه، وربما سيغدو بطيء الحركة والتفكير، ولكنه لم يمت. ما مات هو على الأرجح وعي وكرامة رجل قد قادته عقيدته العمياء أو ربما مبلغ من المال أو كلاهما لكي يعتدي بوحشية على رجل لا يعرفه، ولعلّه لم يقرأ له أياً من كتبه، وأُرجّح أنه على أي حال لم يقرأ الآيات الشيطانية.

ولكنه ليس وحيداً في ذلك، إذ يخيّل لي أن الكثير منا لم يقرأ الرواية، لأنها ترجمت وطبعت ووزعت سرّاً، في البداية، وحين انتشرت على الساحة الرقمية، كان معظم القرّاء قد نسيها ونسي حكايتها.

ولد رشدي في الهند سنة 1947، أعرف ذلك جيدا لأنه في عمر كاتب آخر، سوري تعرّض لاستهجان وتهديد نوع آخر من المتعصّبين في بلدنا سوريا، هو شقيقي سحبان سواح، ولكن لذلك حكاية أخرى ووقت آخر. كتب رشدي أربع عشرة رواية، تُرجم معظمها إلى أكثر من أربعين لغة ونال العديد من الجوائز التقديرية والأوسمة، بما في ذلك لقب فاس الذي منحته له الملكة إليزابيث الثانية في عام 2008.

تدور رواية “الآيات الشيطانية” حول اثنين من مسلمي الهند ينجوان بطريقة غرائبية من طائرة خُطفت وفجّرت في السماء. وفي إبّان سقوط الرجلين يتحول أحدهما كبير الملائكة جبريل، بينما يتحول الآخر إلى الشيطان. من تحوّلَ إلى جبريل كان يعاني من مرض شديد وتضرع إلى الإله أن يشفيه، وحين لم يستجب، صبأ. والثاني مسلم بريطاني من أصل هندي يعيش في بريطانيا ويحاول الاندماج في المجتمع الجديد. أما الرواية فتحاول تقصّي موضوعات التفكّك الخلقي وطبيعة الخير والشر والشك وفقدان الإيمان الديني. وبشكل من الأشكال ومن خلال سردية مفكّكة تكاد تكون سلسلة من الفصول غير المترابطة، يحاول هذان الرجلان إعادة تصوّر حياة النبي محمد، ويبلغ الأمر في واحد من الفصول حدّ التصريح بأن النبي كان يغازل المشركين أحيانا بنصوص قرآنية. 

وتقوم القصة على السردية المعروفة من أن النبي محمّد نطق، أثناء تلاوته سورة النجم (السورة 53)، بالآيات التالية: “أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى. تِلكَ الغَرَانِيقُ العُلَى. وإن شَفَاعَتَهنَّ لتُرْتَجَى.” وقد أدت هذه الآيات إلى سرور غامر وتغيّر كبير في سلوك قريش ضدّه لأن الله ذكر آلهتهم بالخير. ولكن سرعان ما تبيّن أن الآيتين الأخيرتين القاهما الشيطان – لا الله؟ – في روع النبي، فنطق بهما. 

وليس لنا أن نناقش هنا كيف يمكن للشيطان أن يغلب نبياً معصوماً، ولكن كثيراً من النقّاد أشبعوا هذه الفكرة نقاشاً. ومع ذلك سأنقل ما ذكره سلمان رشدي نفسه في مقابلة له تعود إلى عام 2012، حين قال إن نصّية الآيات الشيطانية ليست مقصودة لذاتها، مضيف: “لم يكن هدفي أن أكتب عن الإسلام فقط. القصة بالنسبة لي تبحث بشكل لا بأس به فكرة جديدة حول ولادة الدين لأنه يظهر أنه ربما يكون قد غازل [الدين القديم] وقدّم تنازلات، كان عليه أن يرفضها فيما بعد؛ ثمّ حين يحقّق انتصاره الأخير، فإنه يتّصف بالرحمة.”

تلقّت الآيات الشيطانية ردود فعل عنيفة وفورية من المسلمين الذين اعتبروا تصوير الكتاب للإسلام مهينا لدينهم ونبيّهم، وفي غضون أشهر من نشرها، تمّ حظر الرواية في عدد من البلدان. وأثار الجدلُ أيضا احتجاجاتٍ عنيفة وهجمات على المكتبات في جميع أنحاء العالم. وتعرّض العديد من الأشخاص المرتبطين بشكل أو بآخر بالرواية للتهديد أيضا، وبلغ ذلك الذروة مع اغتيال الباحث الياباني هيتوشي إيغاراشي الذي ترجم الكتاب إلى اليابانية في عام 1991.

ولم تغيّر الحكومات الإيرانية المتعاقبة موقفها من الرواية وكاتبها، إلا من حيث الشكل، ففي 1998، تراجعت إيران عن الفتوى شكلياً، ولكنها لم تتنازل عن مضمونه، وكلّ ما وعدت به طهران أنها “لن تدعم ولن تعرقل عمليات اغتيال رشدي،” ولكنها رفضت أن تسحب الفتوى رسميا.

ثمّ جاء وقت باتت الاستفادة من الفتوى أمراً مجديا. لن أسيّس جريمة أخلاقية ودينية، ما لم تسيّس نفسَها. تقول الكاتبة الأمريكية روبن رايت، في مقالة جميلة لها في “نيويوركر”، إن ابن الخميني، أحمد، أسر لها في أوائل التسعينات أن الخميني لم يقرأ الآيات الشيطانية مطلقاً، وأن فتوى الزعيم الإيراني لم تكن سوى خطوة سياسية لاستغلال الغضب المتفجّر في باكستان والهند وما وراء ذلك حول الفانتازيا الخاصّة بالنبي محمد. 

ولا مراء في أن الخميني كان داهية بقدر ما كان مهووساً بتثبيت حكمه في إيران وتصدير الثورة إلى ما وراء البلاد. في ذلك الوقت، كانت الجمهورية الإسلامية الفتية تصارع تحديات وجودية: حرب عسعست ثماني سنوات مع العراق أسفرت عمّا لا يقل عن مليون ضحية، واستياء شعبي واسع النطاق، وخلافات سياسية معمّقة بين رجال الدين، واقتصاد ضعيف سبّب ترشيد المواد الغذائية الأساسية والوقود، إضافة إلى عقد من العزلة الدبلوماسية. للخروج من كلّ ذلك، لم يجد الطاغية حرجا في الحكم بالإعدام على رشدي، وكذلك على محرّريه ومترجميه وناشريه بأي لغة. ودعا “كل المسلمين الشجعان أينما كانوا” إلى الخروج وقتل أولئك جميعا – ومن دون تأخير – “لكيلا لا يجرؤ أحد على إهانة المعتقدات المقدسة للمسلمين من الآن فصاعدا،” ووعد بأن “من يُقتل في هذه القضية سيكون شهيدا في الجنّة” زيادة على أكثر من ثلاثة ملايين دولار، كمكافأة دنيوية.

ولنتذكّر أن ستة أشهر مرّت على نشر الرواية، وطهران غافلة عنها، حتى بعد أن حُظِرت في البلدان الأخرى ذات الغالبية المسلمة. بل إن الهند، بلد رشدي الأصلي، كانت أول من حظر الكتاب، في تشرين الأول/أكتوبر 1988. بينما لم تتحرّك إيران حتى شباط/فبراير 1989، عندما تقاطعت الاحتجاجات العنيفة على الكتاب في باكستان المجاورة مع الأزمة السياسية الداخلية. 

ويمكن القول من هذا المنطلق أن سلمان رشدي كان مجرّد مَخرج للخميني، البراغماتي بقدر ما هو عقائدي متعصّب، والشعبوي بقدر ما هو اصطفائي منغلق، فاستخدمه كبيدق، كما تقول رايت، لكي يمرّر سياساته الخبيثة.

واليوم، تمرّ إيران في ظروف مماثلة: ضعف في الاقتصاد وحصار خارجي وخلافات وتململ داخلي. وهنالك في طهران رجل آخر فيه من العقائدية ما للخميني ومن البراغماتية ما له، آية الله خامنئي. فما الذي يمنع رجلا بالمواصفات تلك من أن يلعب الورقة نفسها، فيوجّه طعنة للمؤلّف سلمان رشدي، وصفعة للرئيس جو بايدن، ويعيد الألق لإيران ليحدّ من تراجعها الكبير بين الشعوب السنّية. 

لا يمكنني تأكيد ذلك طبعا، ولذلك فإنني لا أتبنّاه. ولكنّني أتبنى مقولة أخرى: المعتدي، وهو أميركي من أصل لبناني، مولود في كاليفورنيا، أكثر الولايات الأمريكية انفتاحا وليبرالية، ومع ذلك فقد وجد فرصة مناسبة لإظهار تعصّبه وعصبيته وانغلاقه الفكري وتحجّره الإنساني والرغبة في العودة إلى روح العشيرة والطائفة والملّة، لأنه يكون بها أقوى، من دون أن نهمل طبعا طمعه في الخلود في جنّة عرضها السماوات والأرض، يكون له فيها قصر تجري فيه أنهار من خمر ولبن وعسل، وتزيّنه غانيات فاتنات، تشبه كثيرا الفاتنات اللواتي يَراهنّ في شوارع مدينته الأمريكية، دون أن يستطيع لفت نظرهن. سوى أن كلّ ذلك لن يؤدّي به سوى إلى زنزانة ضيّقة يمضي فيها ما تبقى من عمره. 

إقرأوا أيضاً:

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.