fbpx

“الكنائس الخطرة”: الحرائق تقتل الأقباط بسبب ضعف الثقة بين الأقليات والنظام المصري

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“غسّلت أبنائي الثلاثة فمن يُغسّلني؟”… قد تجد كنيسة القديس أبو سيفين متبرعين من أثرياء الأقباط في مصر لإعادة ترميمها وتأمينها لكن مئات الكنائس -المقننة وغير المقننة- في مصر تبقى مسرحاً محتملاً لحرائق تلتهم ضحايا أبرياء في كل موسم صلاة أو صوم.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في شارع جانبي لا يزيد عرضه عن أربعة أمتار، ازدحم مئات المصريين الأقباط أمام كنيسة القديس أبو سيفين، في منطقة المنيرة امبابة، ليلحقوا بصلاة قداس الأحد الذي يتزامن مع أيام صيام العذراء، دخلت الأمهات إلى قاعة الصلاة، بينما تركن أطفالهن في الحضانة الملحقة بالكنيسة، لم يطل الوقت حتى وجد الجميع أنفسهم محاطين بالنيران التي اندلعت نتيجة ماس كهربائي، بحسب بيانات وزارة الداخلية المصرية.

وزارة الصحة المصرية قالت في بيان  إن الحريق أسفر عن 41 حالة وفاة بينهم عدد من الأطفال، وراعي الكنيسة، فيما أصيب نحو 12 شخصاً بحروق وجروح، وأثار ارتفاع عدد الضحايا التساؤلات حول سلامة المبني ومطابقته لشروط السلامة العامة والانقاذ والدفاع المدني.

“زعلانة منك يا عدرا” 

في كنيسة السيدة العذراء ورئيس الملائكة ميخائيل في منطقة الوراق القريبة من مكان الحادث، لا صوت يعلو فوق صوت صراخ الأهالي.  صوت أم يوسف ومهرائيل وفلوباتير باسم يوسف هو الأعلى. أنينه مسموع في الأرجاء. ثلاثة أطفال  في عمر الخامسة وما دون، راحوا ضحية الحادث. تعاتب الأم المكلومة السيدة العذراء في كنيستها قائلة “زعلانة منك يا عدرا”. في حالة الصدمة تسأل الأم: “لماذا يارب؟”، فيما يصرخ الأب إلى جانبها: “غسّلت أبنائي الثلاثة فمن يُغسّلني؟”

ثلاث أشقاء آخرين لقوا مصرعهم في الحريق: مريم وإبرام وبارسينا تامر وجيه، لحق الأطفال بأبيهم الذي توفي منذ فترة، ومعهم في الحريق ماتت جدتهم وخالتهم التي لم يمر على خطبتها سوى أيام قليلة. فيما وقف ابن كاهن الكنيسة القس عبد المسيح صامتاً مصدوماً يحتضن تابوت والده وتنسكب من عينيه الدموع.

عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تداول نشطاء من الفيديوات لمحاولات إنقاذ الضحايا، حيث تظهر الفيديوهات محاولات الأهالي لإنقاذ عدد من الأطفال، ويظهر وفاة بعضهم جراء الاختناق من دخان الحريق.

بحسب بيان وزارة الصحة، فإن أول سيارة إسعاف وصلت إلى موقع الحادث في تمام الساعة 8:59 دقيقة بعد دقيقتين فقط من الإبلاغ عن الحادث، وبحسب شهود عيان فإن الحريق بدأ نحو الثامنة صباحاً وتمت السيطرة عليه بعد ساعتين، وخلال الفترة من الثامنة حتى وصول سيارات الإسعاف، تكفّل أهالي المنطقة بإنقاذ المصابين والضحايا، وكان من بين المنقذين الشاب محمد يحي الذي تسلل إلي الكنيسة من سطح المنزل المجاور، وأنقذ 5 أطفال قبل أن يسقط ويصاب بكسر في ساقه، بينما قام عدد من الأهالي بمحاولات لإخراج الأطفال من النوافذ.

لا يُعرف على وجه الدقة تاريخ بناء الكنيسة المنكوبة. بعيداً من اللافتة التي تحمل اسم كنيسة، لا يختلف العقار عن المنازل المجاورة له، وحمل ترخيص البناء كمنزل مكون من أربعة أدوار، وتم استخدامه كـ “كنيسة” قبل أن تجري قوننته عام 2019، بحسب تصريح القس ميخائيل أنطوان، نائب لجنة تقنين أوضاع الكنائس بمجلس الوزراء لوسائل إعلام مصرية.

الكنائس الخطرة والحرائق المستمرة 

بعد الحريق، ظهر للمرة الأولى مصطلح “الكنائس الخطرة” على لسان وزيرة التضامن المصرية نيفين القباج، حيث صرحت لوسائل إعلام مصرية وعربية بأن الحكومة بصدد المراجعة الكاملة لوضع الكنائس خاصة القديمة منها، لمنع وتجنب أي كوارث جديدة.

خلال العام الحالي  فقط سجلت الكنائس المصرية 5 حالات حريق، جميعا كان السبب الرئيسي المعلن لها “ماس كهربائي” أولها في كنيسة السيدة العذراء بـ ادفو بمحافظة أسوان جنوب مصر، في كانون الثاني/ يناير، وأسفر الحادث عن احتراق سقف الكنيسة، وتسبب فيه ماس كهربائي بالتكييفات. و في شهر شباط/ فبراير من العام نفسه، اندلع حريق في كنيسة الدير بحي الجمرك في محافظة الإسكندرية الساحلية، وبحسب البيانات الرسمية فإن الحادث كان أيضاً نتيجة ماس كهربائي.

في أيار/مايو الماضي، في منطقة عين شمس بالقاهرة، اندلع حريق محدود في مبنى الخدمات الملحق بكنيسة السيدة العذراء بسبب الماس الكهربائي. وفي الأقصر بجنوب مصر، في حزيران/يونيو الفائت اندلع حريق في كنيسة ماريوحنا بمركز القرنة، بسبب عطل في محول الكهرباء، ونتج عنه احتراق بعض الغرف في الكنيسة دون خسائر بشرية.

قالت وزيرة التضامن الاجتماعي إن الإدارات المحلية ومعها إدارات تنظيم الكنائس تقوم حالياً بمراجعة وضع الكنائس الموجودة وتقنينها وغلق القديم منها واستبدالها بأخرى جديدة، مشددة على عدم إمكانية تقنين بعض الكنائس التي تقع في أماكن غير ملائمة وهو ما تقوم به الدولة حالياً.

ما قالته الوزيرة افترض أن الكنيسة المنكوبة غير مقننة، خاصة أن قانون بناء الكنائس يشترط موافقة الدفاع المدني قبل تقنين أي كنيسة، وهو الافتراض المنطقي بعد الحادث الذي كشف غياب كافة اشتراطات السلامة، إلا أن هذا الافتراض يتنافى مع التصريحات الرسمية التي تؤكد تقنين أوضاع الكنيسة قبل عامين.

يصف كمال زاخر مؤسس مبادرة  “التيار العلماني”  لـ”درج”، أزمة الكنائس في مصر بأنها حالة بيروقراطية متوارثة منذ عصر مبارك، حيث “كانت الدولة المصرية تتخوف من المتشددين الدينيين المسلمين الرافضين لانتشار الكنائس” كما “ضمت الإدارات المسئولة عن تنظيم إصدار تصاريح بناء الكنائس طبقاً للقرارات الجمهورية تعنتت ضد بناء كنائس جديدة”.

هذا الوضع دفع الأقباط إلى التحايل على القرارات المنظمة لبناء الكنائس، ويتمثل هذا التحايل في بناء منازل يتم تحويلها لكنائس، ثم محاولة التصالح عليها بعد ذلك، ولكن تكمن الازمة في أن هذه الكنائس تفتقر في الغالب إلى أبسط شروط الأمان، وهو ما يؤكّده زاخر: “المباني العامة، طبقاً لقانون البناء وهذا ينطبق على المدرسة والمسجد والكنيسة، يتم معاينة تصميمها ومكانها من قبل الدفاع المدني للحصول على ترخيص، ولكن في حالة كنائس المنازل فإن الدفاع المدني يعاينها بعد التقنين فقط، وهو توقيت يصعب فيه أي تعديلات لا سيما إذا كانت الكنائس دخلت الخدمة، وبدأ شعبها الصلاة فيها”.

إشكالية أخرى أشار إليها الكاتب المتخصص في الشأن القبطي، وهي تأسيس مجتمع داخل الكنيسة، ” هناك مشكلة أخرى ساهمت في فداحة الحادث، وهي أن الكنيسة لم تعد مكان للعبادة فقط، وإنما أصبحت مجتمع منعزل منذ عصر الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، فأصبحت الكنائس تضم مستوصفات ودور حضانة، وقاعة للمناسبات، بالإضافة إلي أدوار اجتماعية أخرى مثل الرحلات وغيرها، ولا تخضع هذه الأنشطة في الغالب لاشتراطات السلامة المطلوبة”.

الخط الهمايوني و شروط العزبي باشا 

سُنّ أول قانون لبناء الكنائس في مصر في العهد العثماني في “الأستانة” بفرمان السلطان العثماني عبد الحميد الأول، في فبراير/ شباط من العام 1856، لينظم بناء دور العبادة غير الاسلامية في كافة الولايات التابعة للدولة العثمانية، وعرف باسم الخط الهمايوني، ووضع الفرمان في يد السلطان، وحده له الحق في إصدار تصاريح بناء أو ترميم الكنائس أو دور العبادة لغير المسلمين وكذلك مقابرهم.

  وفي عام 1934 ، جاءت شروط العزبي باشا وكيل وزير الداخلية المصرية عائقًا جديداً في مسألة بناء الكنائس، حيث وضع عشرة شروط من بينها المسافات بين الكنيسة المراد بنائها والكنائس الموجودة في أقرب بلدة لها، وكذلك عدم وجود موانع إذا كانت الارض المراد إقامة الكنيسة عليها وسط سكان مسلمين.

ومع قيام الجمهورية في مصر عام 1953، انتقلت سلطة الموافقة على بناء الكنائس أو ترميمها إلى رئيس الجمهورية، وبقيت كذلك حتى عام 1998، حيث أصدر الرئيس المصري آنذاك محمد حسني مبارك القرار الجمهوري رقم 13 لسنة 1998، بنقل سلطة تصاريح ترميم الكنائس للمحافظين محتفظاً بحق إصدار تصاريح البناء للكنائس الجديدة.

وفي ديسمبر/ كانون الأول عام 1999، أصدر مبارك القرار الجمهوري رقم 453 لسنة 1999 الذي نقل اختصاص الموافقة على ترميم الكنائس إلى إدارات التنظيم في الوحدات المحلية، وكان أخر القرارات المتعلقة بذلك هو قرار 291 لسنة 2005، الذي نقل اختصاص الموافقة على ترخيص بناء وترميم أو تعديل الكنائس إلى المحافظين، على أن يتم الرد على الطلبات المقدمة بهذا الشأن خلال 30 يوماً، وان يكون رفض الطلب معللاً، إلا أن هذه القرارات طبقاً لكتاب “الكنيسة المصرية – توازنات الدين والدولة” للكاتب هاني لبيب، تم تفريغها من مضمونها عبر البيروقراطية المصرية.

وفي سبتمبر/ أيلول 2016 صدر القانون رقم رقم 80 لسنة 2016 بشأن بناء وترميم الكنائس، وتضمن القانون شقين الاول تنظيم بناء الكنائس الجديدة، وبحسب المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، خلال 5 سنوات منذ تاريخ إقرار القانون لم يتم بناء كنائس جديدة سوى في المدن الجديدة التي لها مسار خاص في الإجراءات.

أما الشق الثاني فهو تقنين أوضاع الكنائس القائمة، وبحسب  تصريحات إعلامية للقس رفعت فكرى أمين عام مساعد مجلس كنائس الشرق الأوسط، فأن السنوات الخمسة الاخيرة شهدت تقنين 2401 كنيسة.

القانون والشروط 

المحامي الحقوقي ياسر سعد يقول لـ”درج”  إن الازمة تكمن في البيروقراطية والتعنت تحت اسم الدراسة الأمنية التي تمنع في أغلب الأحيان بناء الكنائس، لذا يضطر المسيحيون لبناء الكنائس في شكل بيوت، كما أن المتشددين لهم دور أيضا، فإذا استطاع المسيحيين بناء الكنيسة دون تدخل سواء من الأمن أو الأهالي، يتم محاصرتها ببناء مسجد أمامها، بالإضافة إلى المنازل، وهو ما ظهر في كنيسة امبابة، قائلاً لو كانت الكنيسة أتيحت لها بعض المساحة لكانت اختلفت نتيجة الحادث.

يشترط قانون بناء الكنائس الصادر في عام 2016، معاينة الدفاع المدني والموافقة على تقنين أي كنيسة قائمة بالفعل، ورغم تقنين أوضاع الكنيسة المنكوبة إلا أن الواقع أثبت أنها لا تضم أي اشتراطات للسلامة.

ويرجع الصحفي المتخصص في الشأن القبطي، جرجس فكري، هذا التضارب إلي مشكلة في ثقافة الكنائس المصرية، وهي ثقافة التخوف من الدولة، ورفض القائمين على الكنيسة إدخال من يعتبرونهم أغراب سواء من الجهات الامنية والدفاع المدني، حيث يتخوفون من قيام مسؤولي الدفاع المدني بالتعنت ضد الكنيسة حتى يتم عرقلة تقنينها، وهو ما يسفر في النهاية عن الموافقة على مبنى الكنيسة دون مراجعة فعلية.

 هذه الثقافة لا تشمل الدفاع المدني فقط، بل ترفض الكنيسة قيام الجهات الأمنية بتأمين القداديس أو تنظيمها، وتتولى كشافة الكنيسة فقط تأمين الكنائس من الداخل والتعامل مع المصلين، بينما تتولى الجهات الامنية التأمين الخارجي، وهو ما يجعل الحادث مرشحاً للتكرار في الكثير من الكنائس خاصة المقامة في المناطق العشوائية، بسبب غياب التخطيط الأمثل للمنطقة و للمبنى نفسه، وفقر أبناء هذه الكنائس ما يعني فقر التبرعات، الأمر الذي يجعل تركيب أجهزة مكافحة الحريق مستبعداً.

ويفسر جرجس فكري تكرار حرائق الكنائس بأن الكنائس لا تستخدم متخصصين بتركيب أنظمة التكييف أو الكهرباء في الكنائس، وإنما اعتماد الكنائس على أفراد من رعيتها في التركيب، وأغلبهم يكونون من الفنيين غير المؤهلين للتعامل مع المباني الكبيرة، مما لا يجعلها مطابقة للمواصفات.

قد تجد كنيسة القديس أبو سيفين متبرعين من أثرياء الأقباط في مصر لإعادة ترميمها وتأمينها لكن مئات الكنائس -المقننة وغير المقننة- في مصر تبقى مسرحاً محتملاً لحرائق تلتهم ضحايا أبرياء في كل موسم صلاة أو صوم.

إقرأوا أيضاً: